الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
150 - وعن أبي موسى - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا ، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء ، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكانت منها أجادب أمسكت الماء ، فنفع الله بها الناس ، فشربوا وسقوا وزرعوا ، وأصاب منها طائفة أخرى ، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ، ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به " . متفق عليه .

التالي السابق


150 - ( وعن أبي موسى قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم ) : الهدى : الدلالة على الخير مطلقا أو الموصلة إلى الحق ، ومن الأول قوله تعالى : وأما ثمود فهديناهم ومن الثاني قوله تعالى : إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء والمراد بالعلم : هنا الظاهر [ ص: 234 ] والخفي ، والهدى وسيلة إلى العلم فلذا قدمه ، وفي العوارف : العلم جملة موهبة من الله للقلوب والمعرفة تمييز تلك الجملة ، والهدى وجدان القلوب ذلك ، وقيل : العلم صفة توجب تمييزا لا يحتمل النقيض ، وعطفه على الهدى إما لرجوعه للنفس ورجوعها للغير أو لأنها للدلالة والعلم المدلول ، أو المراد منها الطريقة والعمل ، ومن ثم ورد : من ازداد علما ولم يزدد هدى - أي قربا من الله - لم يزدد من الله إلا بعدا .

( كمثل الغيث ) ، أي : المطر الكثير ، واختار اسم الغيث ليؤذن باضطرار الخلق إليه إذ جاءهم على فترة من الرسل ، والغيث يحيي البلد الميت والعلم يحيي القلب الميت ( أصاب أرضا ) ، أي : صالحة . والجملة صفة للغيث على تقدير أن تكون اللام فيه للجنس أو زائدة ، ويجوز أن تكون حالا ( فكانت منها ) : أي من تلك الأرض ( طائفة ) ، أي : قطعة ، ومنها صفة طائفة قدمت عليها فصارت حالا ( طيبة ) : أي غير خبيثة بسباخ ونحوه . قال النووي : طائفة طيبة كذا في جميع نسخ مسلم ، ووقع في البخاري : فكانت منها نقية بنون فقاف مكسورة فتحتية مشددة وهي بمعنى طيبة اهـ . وقال ابن حجر : وروي غير ذلك مما لا يصح هنا اهـ . وطيبة مرفوعة على أنها صفة ( طائفة ) ، وقوله : ( قبلت الماء ) ، أي : دخل الماء فيها للينها منصوبة بخبر كانت ، وقيل : هي منصوبة على أنها خبر كانت ، وقبلت الماء صفة لطيبة ويجري هذا الخلاف في لفظ : أجادب .

وقال ابن حجر : ورواية قيلت بالتحتية المشددة قيل تصحيف ، وقيل : صحيحة ، ومعناه شربت من القيل وهو شرب بعض الأنهار ( فأنبتت الكلأ ) : بالهمز مفتوحتين مقصورا ( والعشب الكثير ) : هما مع الحشيش أسماء للنبات ، لكن الحشيش مختص باليابس . والعشب بالضم والكلا مقصورا مختصان بالرطب ، والكلأ بالهمز على زنة جبل يقع على اليابس والرطب ، فالكلأ بالهمز أنسب ليكون عطف الأخص على الأعم للاهتمام بشأنه ( وكانت منها ) : أي من الأرض الصالحة أو من الأرض الطيبة ( أجادب ) : كذا في رواية الجمهور بالجيم والدال المهملة بعدها باء موحدة جمع أجدب وهي الأرض الصلبة التي تمسك الماء من الجدب وهو القحط ، سماها أجادب لأنها لصلابتها لا تنبت ، وفي رواية أبي ذر : إخاذات بكسر الهمزة والخاء والذال المعجمتين وآخره مثناة من فوق قبلها ألف جمع إخاذة ، وهي الأرض التي تمسك الماء .

قال ابن حجر : وصوبه بعضهم ، وروي أجاذب بجيم وذال معجمة ومعناه قريب من الأول ، وفيه روايات أخر مردودة ( أمسكت ) ، أي : تلك الأرض ، أو الأجادب ( الماء ، فنفع الله بها ) : أي بالأجادب أو بتلك الأرض ( الناس ، فشربوا وسقوا ) ، أي : دوابهم . قال ابن حجر : ويجوز أسقوا : قلت : لا يجوز لأنه غير وارد وتجويز اللغوي غير مراد ( وزرعوا ) . قال النووي في جميع نسخ مسلم : ورعوا من الرعي ، ووقع في البخاري زرعوا وكلاهما صحيح اهـ .

وفي جميع نسخ المشكاة : زرعوا موافقا لما في البخاري وهو الأولى بأن يكون أصلا . وقال ابن حجر : ورعوا من الرعي ، ورواية : وزرعوا قيل تصحيف ، وأجيب : بأن المراد به زرعوا به غير تلك الأرض اهـ . وفيه أنه لا يظهر ربط بين السؤال والجواب ثم قال : وهذا بناء على أن رواية رعوا تشويش النشر لأن الشرب والسقي للقسم الثاني ، والرعي للقسم الأول . قلت : لا مانع من أن يكون القسم الثاني جامعا للثلاث مع أنه يلزم من حصول الزرع وصول الرعي بخلاف العكس ، وفيه إشارة إلى أن أهل القسم الثاني مرزقون من جميع النعم منفقون على غيرهم ، فهم كاملون مكملون على ما يدل عليه قوله : ( فنفع الله بها الناس ) ، بخلاف أهل القسم الأول ويكون التقسيم [ ص: 235 ] ترقيا ثم تدليا ( وأصاب ) ، أي : الغيث ( منها ) : أي من الأرض ( طائفة ) ، أي : قطعة ( أخرى ، إنما هي ) : تلك الطائفة ( قيعان ) : بكسر القاف جمع قاع وهي الأرض المستوية ( لا تمسك ماء ، ولا تنبت كلأ ) : لأنها سبخة ( فذلك ) ، أي : المذكور من أنواع الأرض ( مثل من فقه ) : بضم القاف وكسرها ، والمشهور الضم إذا فهم وأدرك الكلام ، والضم أجود لدلالته على أن الفقه الشرعي صار سجية له ( في دين الله ونفعه الله بما بعثني الله به ) ، أي : بالعمل ( فعلم وعلم ) : بتشديد اللام . هذا مثل الطائفة الأولى التي قبلت الماء وأنبتت الكلأ ، فقبول الماء إشارة إلى العلم ، وإنبات الكلأ إشارة إلى التعليم ، كذا قاله ابن الملك ( ومثل من لم يرفع بذلك ) ، أي : بما بعثني الله به ( رأسا ) ، أي : للتكبر كما في نسخة ، يقال : لم يرفع فلان رأسه بهذا أي لم يلتفت إليه من غاية تكبره . قال ابن الملك : عدم رفع رأسه بالعلم كناية عن عدم الانتفاع به لعدم العمل ، أو الإعراض عنه إلى حطام الدنيا ، وهذا مثل الطائفة التي لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ ( ولم يقبل هدى الله ) : بضم الهاء وفتح الدال ( والذي أرسلت به ) . قال الطيبي : عطف تفسيري ، وفي الحديث : إشارة إلى أن الاستعدادات ليست بمكتسبة ، بل هي مواهب ربانية وكمالها أن تستفيض من مشكاة النبوة ، فلا خير فيمن يشتغل بغير الكتاب والسنة ، وأن الفقيه من علم وعمل .

قال المظهر : ذكر في تقسيم الأرض ثلاثة ، وفي تقسيم الناس قسمين : من فقه ومن أبى ولم يرفع ، وذلك لأن القسم الأول والثاني من الأرض كقسم واحد من حيث إنه منتفع به ، وكذلك الناس قسمان : من يقبل العلم وأحكام الدين ومن لم يقبلهما ، وأما في الحقيقة فالناس على ثلاثة أقسام : أحدها : من يقبل بقدر ما يعمل به ولا يبلغ درجة الفتوى والتدريس ، وثانيها : من يبلغهما ، وثالثها : من لا يقبل العلم .

قال الطيبي : اتفق الشارحون على الوجه الثاني ، والحديث ينصر الأول ، فعلى هذا ذكر في الحديث الطرفان العالي في الاهتداء ، والغالي في الضلال ، وترك قسمان من انتفع بالعلم في نفسه ومن لم ينتفع في نفسه ولكن نفع في غيره اهـ . وجعل الخطابي القسمة ثنائية بجعل العلماء قسما والجهلاء قسما ، وقال النووي : دلالة اللفظ على كون الناس ثلاثة أنواع غير ظاهرة اهـ .

وخالفهم ابن حجر وجعل القسمة ثلاثية ، وأغرب حيث جعل القسم الأول أفضلها مع أن التشبيه بالأرض لا يساعده ، ثم أخطأ في اجتهاده حيث جعل الطبقة العليا منحصرة في الفقهاء ، وجعل بقية العلماء من المحدثين والقراء وغيرهم في الطبقة السفلى ، وجعلهم كالأتباع للطائفة الأولى ، والصواب أن كل من فاق أقرانه في فن من العلوم الشرعية من غير اختصاص بالفروع الفقهية فهو من الأئمة المجتهدين والعلماء الراسخين الكاملين المكملين ، فكأنه ذهل عن قول حجة الإسلام الغزالي : ضيعت قطعة من العمر العزيز في تصنيف البسيط والوسيط والوجيز ، لكنه كما قال الله تعالى : قد علم كل أناس مشربهم كل حزب بما لديهم فرحون فالأظهر كلام المظهر في هذا المقام والله أعلم بالمرام .

ثم لا يخفى ما في التشبيه من اللطافة حيث جعل العلم الحاصل بسبب الوحي مشبها بالماء النازل من السماء ، ثم إنه عليه الصلاة والسلام من حيث إنه قاسم وواسطة في إيصال الفيض من الحق إلى الخلق مشبه بالسحاب العام لجميع العالم وقلوب العباد مشبهة بالأراضي المختلفة ، فالأول من تشبيه المعقول بالمحسوس وغيره من قبيل [ ص: 236 ] المحسوس . بمثله ، ومنه قوله تعالى : والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا ثم الخبيث كأنه مقتبس من قوله تعالى أنزل من السماء الآيه وقد قيل : على ما في البغوي قوله أنزل من السماء ماء هذا مثل للقرآن ، والأودية مثل للقلوب يريد : ينزل القرآن فتحتمل منه القلوب على قدر اليقين والعقل والشك والجهل ، وقال السيوطي : فاحتمل السيل زبدا رابيا رؤيتك لأعمالك . فأما الزبد فيذهب جفاء عند أهل التوحيد وأما ما ينفع الناس فهو اليقين . ( متفق عليه ) .




الخدمات العلمية