الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 54 ] لكن ينبغي أن يعرف أن عامة من ضل في هذا الباب أو عجز فيه عن معرفة الحق فإنما هو لتفريطه في اتباع ما جاء به الرسول، وترك النظر والاستدلال الموصل إلى معرفته، فلما أعرضوا عن كتاب الله ضلوا، كما قال تعالى: يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون [الأعراف: 35]، وقوله: قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى [طه: 123-124] قال ابن عباس: تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، ثم قرأ هذه الآية.

وكما في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنها ستكون فتن. قلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله ، [ ص: 55 ] فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم ، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، ولا يشبع منه العلماء» وفي رواية «ولا تختلف به الآراء، هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته أن قالوا: إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد [الجن: 2،3] من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم» .

وقال تعالى: وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله [الأنعام: 153] ، وقال تعالى: [ ص: 56 ] المص كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء [الأعراف: 1-3]، وقال: وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون [الأنعام: 155-157] ، فذكر سبحانه أنه يجزي الصادف عن آياته مطلقا - سواء كان مكذبا أو لم يكن - سوء العذاب بما كانوا يصدفون؛ يبين ذلك أن كل من لم يقر بما جاء به الرسول فهو كافر، سواء اعتقد كذبه أو استكبر عن الإيمان به، أو أعرض عنه اتباعا لما يهواه، أو ارتاب فيما جاء به، فكل مكذب بما جاء به فهو كافر، وقد يكون كافرا من لا يكذبه إذا لم يؤمن به.

ولهذا أخبر الله في غير موضع من كتابه بالضلال والعذاب لمن ترك اتباع ما أنزله، وإن كان له نظر وجدل واجتهاد في عقليات وأمور غير ذلك، وجعل ذلك من نعوت الكفار والمنافقين.

وقال تعالى: وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون [الأحقاف: 26]، وقال تعالى: [ ص: 57 ] فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنت الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون [غافر: 83-85]، وقال: الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا [غافر: 35] ، وفي الآية الأخرى: إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير [غافر: 56] .

والسلطان: هو الحجة المنزلة من عند الله، كما قال تعالى: أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون [الروم: 35] ، وقال تعالى: أم لكم سلطان مبين فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين [الصافات: 165-157]، وقال: إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان [النجم: 23] .

وقد طالب الله تعالى من اتخذ دينا بقوله: ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين [الأحقاف: 4] ، فالكتاب هو الكتاب، والأثارة كما قال من قال من السلف: هي الرواية والإسناد، [ ص: 58 ] وقالوا: هي الخط أيضا، إذ الرواية والإسناد يكتب بالخط، وذلك لأن الأثارة من الأثر، فالعلم الذي يقوله من يقبل قوله يؤثر بالإسناد، ويقيد ذلك بالخط، فيكون ذلك كله من آثاره.

وقد قال تعالى في نعت المنافقين: ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا [النساء: 60-63] .

وفي هذه الآيات أنواع من العبر الدالة على ضلال من تحاكم إلى غير الكتاب والسنة، وعلى نفاقه، وإن زعم أنه يريد التوفيق بين الأدلة الشرعية وبين ما يسميه هو عقليات من الأمور المأخوذة عن بعض الطواغيت من المشركين وأهل الكتاب، وغير ذلك من أنواع الاعتبار، [ ص: 59 ] فمن كان خطؤه لتفريطه فيما يجب عليه من اتباع القرآن والإيمان مثلا، أو لتعديه حدود الله بسلوك السبيل التي نهى عنها، أو لاتباع هواه بغير هدى من الله: فهو الظالم لنفسه ، وهو من أهل الوعيد، بخلاف المجتهد في طاعة الله ورسوله باطنا وظاهرا الذي يطلب الحق باجتهاده كما أمره الله ورسوله، فهذا مغفور له خطؤه، كما قال تعالى: آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا إلى قوله: ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [البقرة: 285-286] .

وقد ثبت في صحيح مسلم «عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن الله قال: قد فعلت» .

وكذلك ثبت فيه من حديث ابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقرأ بحرف من هاتين الآيتين ومن سورة الفاتحة إلا أعطي ذلك» .

فهذا يبين استجابة هذا الدعاء للنبي والمؤمنين، وأن الله لا يؤاخذهم إن نسوا أو أخطؤوا.

التالي السابق


الخدمات العلمية