الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقرأ الجمهور : خلوا إلى بسكون الواو وتحقيق الهمزة ، وقرأ ورش : بإلقاء حركة الهمزة على الواو وحذف الهمزة ، ويتعدى خلا بالباء وبإلى ، والباء أكثر استعمالا ، وعدل إلى إلى لأنها إذا عديت بالباء احتملت معنيين ، أحدهما : الانفراد ، والثاني : السخرية ، إذ يقال في اللغة : خلوت به ، أي سخرت منه ، وإلى لا يحتمل إلا معنى واحدا ، وإلى هنا على معناها من انتهاء الغاية على معنى تضمين الفعل ، أي صرفوا خلاهم إلى شياطينهم ، قال الأخفش : خلوت إليه ، جعلته غاية حاجتي ، وهذا شرح معنى ، وزعم قوم ، منهم النضر بن [ ص: 69 ] شميل ، أن إلى هنا بمعنى مع ، أي وإذا خلوا مع شياطينهم ، كما زعموا ذلك في قوله تعالى : ( ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ) ، ( من أنصاري إلى الله ) ، أي مع أموالكم ومع الله ، ومنه قول النابغة :


فلا تتركني بالوعيد كأنني إلى الناس مطلي به القار أجرب



ولا حجة في شيء من ذلك . وقيل : إلى بمعنى الباء ; لأن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض ، وهذا ضعيف ، إذ نيابة الحرف عن الحرف لا يقول بها سيبويه والخليل ، وتقرير هذا في النحو . وشياطينهم : هم اليهود الذين كانوا يأمرونهم بالتكذيب ، قاله ابن عباس ، أو رؤساؤهم في الكفر ، قاله ابن مسعود . وروي أيضا عن ابن عباس : أو شياطين الجن ، قاله الكلبي ، أو كهنتهم ، قاله الضحاك وجماعة . وكان في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الكهنة جماعة منهم : كعب بن الأشرف من بني قريظة ، وأبو بردة في بني أسلم ، وعبد الدار في جهينة ، وعوف بن عامر في بني أسد ، وابن السوداء في الشام ، وكانت العرب يعتقدون فيهم الاطلاع على علم الغيب ، ويعرفون الأسرار ، ويداوون المرضى ، وسموا شياطين لتمردهم وعتوهم ، أو باسم قرنائهم من الشياطين ، إن فسروا بالكهنة ، أو لشبههم بالشياطين في وسوستهم ، وغرورهم ، وتحسينهم للفواحش وتقبيحهم للحسن . والجمهور على تحريك العين من معكم ، وقرئ في الشاذ : إنا معكم ، وهي لغة غنم وربيعة ، وقد اختلف القولان منهم ، فقالوا للمؤمنين : آمنا ، ولشياطينهم إنا معكم . فانظر إلى تفاوت القولين ، فحين لقوا المؤمنين قالوا آمنا ، أخبروا بالمطلق ، كما تقدم ، من غير توكيد ; لأن مقصودهم الإخبار بحدوث ذلك ونشئه من قبلهم ، لا في ادعاء أنهم أوحديون فيه ، أو لأنه لا تطوع بذلك ألسنتهم لأنه لا باعث لهم على الإيمان حقيقة ، أو لأنه لو أكدوه ما راج ذلك على المؤمنين فاكتفوا بمطلق الإيمان ، وذلك خلاف ما أخبر الله عن المؤمنين بقوله : ( ربنا إننا آمنا ) ، وحين لقوا شياطينهم ، أو خلوا إليهم قالوا : إنا معكم ، فأخبروا أنهم موافقوهم ، وأخرجوا الأخبار في جملة اسمية مؤكدة بإن ليدلوا بذلك على ثباتهم في دينهم ، ثم بينوا أن ما أخبروا به الذين آمنوا إنما كان على سبيل الاستهزاء ، فلم يكتفوا بالإخبار بالموافقة ، بل بينوا أن سبب مقالتهم للمؤمنين إنما هو الاستهزاء والاستخفاف ، لا أن ذلك صادر منهم عن صدق وجد ، وأبرزوا هذا في الإخبار في جملة اسمية مؤكدة بإنما مخبر عن المبتدأ فيها باسم الفاعل الذي يدل على الثبوت ، وأن الاستهزاء وصف ثابت لهم ، لا أن ذلك تجدد عندهم ، بل ذلك من خلقهم وعادتهم مع المؤمنين ، وكأن هذه الجملة وقعت جوابا لمنكر عليهم قولهم : إنا معكم ، كأنه قال : كيف تدعون أنكم معنا وأنتم مسالمون للمؤمنين تصدقونهم ، وتكثرون سوادهم ، وتستقبلون قبلتهم ، وتأكلون ذبائحهم ؟ فأجابوهم بقولهم : ( إنما نحن مستهزئون ) ، أي مستخفون بهم ، نصانع بما نظهر من ذلك عن دمائنا وأموالنا وذرياتنا ، فنحن نوافقهم ظاهرا ونوافقكم باطنا ، والقائل إنا معكم ، إما المنافقون لكبارهم ، وإما كل المنافقين للكافرين ، وقرئ : مستهزئون ، بتحقيق الهمزة ، وهو الأصل ، وبقلبها ياء مضمومة لانكسار ما قبلها ، ومنهم من يحذف الياء تشبيها بالياء الأصلية في نحو : يرمون ، فيضم الراء . ومذهب سيبويه - رحمه الله - في تحقيقها : أن تجعل بين بين . ومذهب أبي الحسن : أن تقلب ياء قلبا صحيحا . قال أبو الفتح : حال الياء المضمومة منكر ، كحال الهمزة المضمومة . والعرب تعاف ياء مضمومة قبلها كسرة ، وأكثر القراء على ما ذهب إليه سيبويه ، انتهى . وهل الاجتماع والمعية في الدين أو في النصرة والمعونة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، أو في اتفاقهم مع الكفار على اطلاعهم على أحوال المؤمنين وإعلامهم بما أجمعوا عليه من الأمر وأخفوه من المكايد ، أو في اتفاقهم مع الكفار على أذى المسلمين وتربصهم بهم الدوائر وفرحهم بما يسوء المسلمين وحزنهم بما يسرهم وقصدهم إخماد كلمة الله ؟ [ ص: 70 ] أقوال أربعة ، والدواعي إلى الاستهزاء : خوف الأذى ، واستجلاب النفع ، والهزل ، واللعب . والله - تعالى - منزه عن ذلك ، فلا يصح إضافة الاستهزاء الذي هذه دواعيه إلى الله - تعالى - . فيحتمل أن يكون الاستهزاء المسند إلى الله - تعالى - كناية عن مجازاته لهم ، وأطلق اسم الاستهزاء على المجازاة ليعلم أن ذلك جزاء الاستهزاء ، أو عن معاملته لهم بمثل ما عاملوا به المؤمنين ، فأجرى عليهم أحكام المؤمنين من حقن الدم وصون المال والإشراك في المغنم مع علمه بكفرهم . وأطلق على الشيء ما أشبهه صورة لا معنى ، أو عن التوطئة والتجهيل ، لإقامتهم على كفرهم ، وسمى التوطئة لهم استهزاء لأنه لم يعجل لهم العقوبة ، بل أملى وأخرهم إلى الآخرة ، أو عن فتح باب الجنة فيسرعون إليه فيغلق ، فيضحك منهم المؤمنون ، أو عن خمود النار فيمشون فيخسف بهم ، أو عن ضرب السور بينهم وبين المؤمنين وهو السور المذكور في الحديد ، أو عن قوله تعالى : ( ذق إنك أنت العزيز الكريم ) ، أو عن تجديد الله لهم نعمة كلما أحدثوا ذنبا ، فيظنون أن ذلك لمحبة الله لهم ، أو عن الحيلولة بين المنافقين وبين النور الذي يعطاه المؤمنون ، كما ذكروا أنه روي في الحديث ، أو عن طردهم عن الجنة ، إذا أمر بناس منهم إلى الجنة ودنوا منها ووجدوا ريحها ونظروا إلى ما أعد الله فيها لأهلها ، وهو حديث فيه طول ، روي عن عدي بن حاتم ، ونحا هذا المنحى ابن عباس ، والحسن . وفي مقابلة استهزائهم بالمؤمنين باستهزاء الله بهم ما يدل على عظم شأن المؤمنين وعلو منزلتهم ، وليعلم المنافقون أن الله هو الذي يذب عنهم ويحارب من حاربهم . وفي افتتاح الجملة باسم الله التفخيم العظيم ، حيث صدرت الجملة به ، وجعل الخبر فعلا مضارعا يدل عندهم على التجدد والتكرر ، فهو أبلغ في النسبة من الاستهزاء المخبر به في قولهم ، ثم في ذلك التنصيص على الذين يستهزئ الله بهم ، إذ عدى الفعل إليهم فقال : يستهزئ بهم وهم لم ينصوا حين نسبوا الاستهزاء إليهم على من تعلق به الاستهزاء ، فلم يقولوا : إنما نحن مستهزئون بهم وذلك لتحرجهم من إبلاغ ذلك للمؤمنين فينقمون ذلك عليهم ، فأبقوا اللفظ محتملا أن لو حوققوا على ذلك لكان لهم مجال في الذب عنهم أنهم لم يستهزئوا بالمؤمنين . ألا ترى إلى مداراتهم عن أنفسهم بقولهم : آمنا بالله وباليوم الآخر ، وبقولهم : إذا لقوهم قالوا آمنا ، فهم عند لقائهم لا يستطيعون إظهار المداراة ، ولا مشاركتهم بما يكرهون ، بل يظهرون الطواعية والانقياد . وقرأ ابن محيصن وشبل : يمدهم ، وتروى عن ابن كثير : ونسبة المد إلى الله حقيقة ، إذ هو موجد الأشياء والمنفرد باختراعها . والمعنى : أن الله - تعالى - يطول لهم في الطغيان . وقد ذهب الزمخشري إلى تأويل المد المنسوب إلى الله - تعالى - بأنه منع الألطاف وخذلانهم بسبب كفرهم وإصرارهم ، بقيت قلوبهم تتزايد الظلمة فيها تزايد النور في قلوب المؤمنين ، فسمي ذلك التزايد مدا وأسند إلى الله لأنه مسبب عن فعله بهم بسبب كفرهم ، أو بأن المد هو على معنى القسر والإلجاء . قال : أو على أن يسند فعل الشيطان إلى الله لأنه بتمكينه وإقداره والتخلية بينه وبين إغواء عباده ، وإنما ذهب إلى التأويل في المد لأن مد الله لهم في الطغيان قبيح ، والله منزه عن فعل القبيح . والتأويل الأول الذي ذكره الزمخشري : قول الكعبي وأبي مسلم . وقال الجبائي : هو المد في العمر ، وعندنا نحن أن الله خالق الخير والشر ، وهو الهادي والمضل . وقد تقدم الكلام في نحو من هذا عند قوله تعالى : ( ختم الله على قلوبهم ) ومد الله في طغيانهم ، التمكين من العصيان ، قاله ابن مسعود ، أو الإملاء ، قاله ابن عباس ، أو الزيادة من الطغيان ، قاله مجاهد ، أو الإمهال ، قاله الزجاج وابن كيسان ، أو تكثير الأموال والأولاد وتطييب الحياة أو تطويل الأعمار ومعافاة الأبدان وصرف الرزايا وتكثير الأرزاق . وقرأ زيد بن علي : في طغيانهم بكسر الطاء ، وهي لغة ، يقال : طغيان بالضم والكسر ، كما قالوا : لقيان ، و : غينان ، بالضم والكسر . وأمال الكسائي في طغيانهم ، وأضاف الطغيان إليهم لأنه [ ص: 71 ] فعلهم وكسبهم ، وكل فعل صدر من العبد صحت إضافته إليه بالمباشرة ، وإلى الله بالاختراع . وما فسر به العمه يحتمله قوله تعالى : ( يعمهون ) ، فيكون المعنى : يترددون ويتحيرون ، أو يعمون عن رشدهم ، أو يركبون رءوسهم ولا يبصرون . قال بعض المفسرين : وهذا التفسير الأخير أقرب إلى الصواب لأنهم لم يكونوا مترددين في كفرهم ، بل كانوا مصرين عليه ، معتقدين أنه الحق ، وما سواه الباطل . يعمهون : جملة في موضع الحال ، نصب على الحال ، إما من الضمير في يمدهم وإما من الضمير في طغيانهم لأنه مصدر مضاف للفاعل ، وفي طغيانهم يحتمل أن يكون متعلقا بيمدهم ، ويحتمل أن يكون متعلقا بيعمهون . ومنع أبو البقاء أن يكون في طغيانهم ويعمهون حالين من الضمير في يمدهم ، قال : لأن العامل لا يعمل في حالين . انتهى كلامه .

وهذا الذي ذهب إليه يحتاج إلى تقييد ، وهو أن تكون الحالان لذي حال واحد ، فإن كانا لذوي حال جاز ، نحو : لقيت زيدا مصعدا منحدرا ، فأما إذا كانا لذي حال واحد ، كما ذكرناه ، ففي إجازة ذلك خلاف . ذهب قوم إلى أن ذلك لا يجوز كما لم يجز ذلك للعامل أن يقضي مصدرين ، ولا ظرفي زمان ، ولا ظرفي مكان ، فكذلك لا يقضي حالين . وخصص أهل هذا المذهب هذا القول بأن لا يكون الثاني على جهة البدل أو معطوفا ، فإنه إذا كانا كذلك جازت المسألة . قال بعضهم : إلا أفعل التفضيل ، فإنها تعمل في ظرفي زمان ، وظرفي مكان ، وحالين لذي حال ، فإن ذلك يجوز ، وهذا المذهب اختاره أبو الحسن بن عصفور . وذهب قوم إلى أنه يجوز للعامل أن يعمل في حالين لذي حال واحد ، وإلى هذا أذهب ; لأن الفعل الصادر من فاعل أو الواقع بمفعول ، يستحيل وقوعه في زمانين وفي مكانين . وأما الحالان فلا يستحيل قيامهما بذي حال واحد ، إلا إن كانا ضدين أو نقيضين . فيجوز أن تقول : جاء زيد ضاحكا راكبا ; أنه لا يستحيل مجيئه وهو ملتبس بهذين الحالين . فعلى هذا الذي قررناه من الفرق يجوز أن يجيء الحالان لذي حال واحد ، والعامل فيهما واحد .

أولئك : اسم أشير ، إلى الذين تقدم ذكرهم الجامعين للأوصاف به الذميمة من دعوى الإصلاح ، وهم المفسدون ، ونسبة السفه للمؤمنين ، وهم السفهاء ، والاستخفاف بالمؤمنين بإظهار الموافقة وهم مع الكفار . وقرأ الجمهور : اشتروا الضلالة ، بضم الواو . وقرأ أبو السماك قعنب العدوي : اشتروا الضلالة ، بالفتح . ولاعتلال ضمة الواو وجوه أربعة مذكورة في النحو ، ووجه الكسر أنه الأصل في التقاء الساكنين ، نحو : ( وأن لو استقاموا ) ، ووجه الفتح اتباعها لحركة الفتح قبلها . وأمال حمزة والكسائي الهدى ، وهي لغة بني تميم ، والباقون بالفتح ، وهي لغة قريش . والاشتراء هنا مجاز كنى به عن الاختيار ; لأن المشتري للشيء مختار له مؤثر ، فكأنه قال : اختاروا الضلالة على الهدى ، وجعل تمكنهم من اتباع الهدى كالثمن المبذول في المشترى ، وإنما ذهب في الاشتراء إلى المجاز لعدم المعاوضة ، إذ هي استبدال شيء في يدك لشيء في يد غيرك ، وهذا مفقود هنا . وقد ذهب قوم إلى أن الاشتراء هنا حقيقة لا مجاز ، والمعاوضة متحققة ، ثم راموا يقررون ذلك ، ولا يمكن أن يتقرر لأنه على كل تقدير يئول الشراء فيه إلى المجاز ، قالوا : إن كان أراد بالآية المنافقين كما قال مجاهد ، فقد كان لهم هدى ظاهر من التلفظ بالشهادة ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والصوم ، والغزو ، والقتال . فلما لم تصدق بواطنهم ظواهرهم واختاروا الكفر ، استبدلوا بالهدى الضلال ، فتحققت المعاوضة ، وحصل البيع والشراء حقيقة ، وكان من بيوع المعاطاة التي لا تفتقر إلى اللفظ ، وقالوا : لما ولدوا على الفطرة واستمر لهم حكمها إلى البلوغ وحد التكليف ، استبدلوا عنها بالكفر والنفاق فتحققت المعاوضة ، وقالوا : لما كانوا ذوي عقول متمكنين من النظر الصحيح المؤدي إلى معرفة الصواب من الخطأ ، استبدلوا بهذا الاستعداد النفيس اتباع الهوى والتقليد للآباء ، مع قيام الدليل الواضح ، فتحققت المعاوضة . قالوا : وإن كان أراد بالآية أهل الكتاب ، كما قال [ ص: 72 ] قتادة ، فقد كانوا مؤمنين بالله واليوم الآخر ، ومصدقين ببعث النبي - صلى الله عليه وسلم - ومستفتحين به ، ويدعون بحرمته ، ويهددون الكفار بخروجه ، فكانوا مؤمنين حقا . فلما بعث - صلى الله عليه وسلم - وهاجر إلى المدينة ، خافوا على رئاستهم ومآكلهم وانصراف الاتباع عنهم ، فجحدوا نبوته وقالوا : ليس هذا المذكور عندنا ، وغيروا صفته ، واستبدلوا بذلك الإيمان الكفر الذي حصل لهم ، فتحققت المعاوضة . قالوا : وإن كان أراد سائر الكفار ، كما قاله ابن مسعود ابن عباس ، فالمعاوضة أيضا متحققة ، إما بالمدة التي كانوا عليها على الفطرة ثم كفروا ، أو لأن الكفار كان في محصولهم المدارك الثلاثة : الحسي والنظري والسمعي ، وهذه التي تفيد العلم القطعي ، فاستبدلوا بها الجري على سنن الآباء في الكفر . وقال ابن كيسان : خلقهم لطاعته ، فاستبدلوا عن هذه الخلقة المرضية كفرهم وضعف قوله ; لأنه تعالى لو برأهم لطاعته ، لما كفر أحد منهم لاستحالة أن يخلق شيئا لشيء ويتخلف عن ذلك الشيء . وسيأتي الكلام على قوله تعالى : ( إلا ليعبدون ) ، وعلى ( ولذلك خلقهم ) إن شاء الله .

قال ابن عباس والحسن وقتادة والسدي : الضلالة : الكفر ، والهدى : الإيمان ، وقيل الشك واليقين ، وقيل : الجهل والعلم ، وقيل : الفرقة والجماعة ، وقيل : الدنيا والآخرة ، وقيل : النار والجنة . وعطف : فما ربحت ، بالفاء ، يدل على تعقب نفي الربح للشراء ، وأنه بنفس ما وقع الشراء تحقق عدم الربح . وزعم بعض الناس أن الفاء في قوله : ( فما ربحت تجارتهم ) دخلت لما في الكلام من معنى الجزاء ، والتقدير أن اشتروا . والذين إذا كان في صلة فعل كان في معنى الشرط ، ومثله ( الذين ينفقون أموالهم ) ، وقع الجواب بالفاء في قوله : ( فلهم أجرهم ) ، وكذلك الذي يدخل الدار فله درهم ، انتهى . وهذا خطأ لأن الذين ليس مبتدأ ، فيشبه بالشرط الذي يكون مبتدأ ، فتدخل الفاء في خبره ، كما تدخل في جواب الشرط . وأما الذين خبر عن أولئك ، وقوله : فما ربحت ليس بخبر ، فتدخله الفاء ، وإنما هي جملة فعلية معطوفة على صلة الذين ، فهي صلة لأن المعطوف على الصلة صلة ، وقوله وقع الجواب بالفاء في قوله : ( فلهم أجرهم ) خطأ ; لأنه ليس بجواب ، إنما الجملة خبر المبتدأ الذي هو ينفقون ، ولا يجوز أن يكون أولئك مبتدأ ، والذين اشتروا مبتدأ ، وفما ربحت تجارتهم خبر عن الذين ، والذين وخبره خبر عن أولئك لعدم الرابط في هذه الجملة الواقعة خبرا لأولئك . ولتحقق مضي الصلة ، وإذا كانت الصلة ماضية معنى لم تدخل الفاء في خبر موصولها المبتدأ ، ولا يجوز أن يكون أولئك مبتدأ ، والذين بدل منه ، وفما ربحت خبر لأن الخبر إنما تدخله الفاء لعموم الموصول ، ولإبدال الذين من أولئك ، صار الذين مخصوصا لأنه بدل من مخصوص ، وخبر المخصوص لا تدخله الفاء ، ولأن معنى الآية ليس إلا على كون أولئك مبتدأ والذين خبرا عنه . ونسبة الربح إلى التجارة من باب المجاز لأن الذي يربح أو يخسر إنما هو التاجر لا التجارة ، ولما صور الضلالة والهدى مشترى وثمنا ، رشح هذا المجاز البديع بقوله تعالى : ( فما ربحت تجارتهم ) ، وهذا من باب ترشيح المجاز ، وهو أن يبرز المجاز في صورة الحقيقة ، ثم يحكم عليه ببعض أوصاف الحقيقة ، فينضاف مجاز إلى مجاز ، ومن ذلك قول الشاعر :


بكى الخز من روح وأنكر جلده     وعجت عجيجا من جذام المطارف



أقام الخز مقام شخص حين باشر روحا بكى من عدم ملامته ، ثم رشحه بقوله : وأنكر جلده ، ثم زاد في ترشيح المجاز بقوله : وعجت ، أي وصاحت مطارف الخز من قبيل روح هذا ، وهي : جذام . ومعنى البيت : أن روحا وقبيلته جذام لا يصلح لهم لباس الخز ومطارفه ; لأنهم لا عادة لهم بذلك ، فكنى عن التباين بينهما بما كنى فيه في البيت ، ومن ذلك قول الشافعي - رضي الله عنه - :


أيا بومة قد عششت فوق هامتي     على الرغم مني حين طار غرابها



[ ص: 73 ] لما كنى عن الشيب بالبومة فأقبل عليها وناداها ، رشح هذا المجاز بقوله : قد عششت ; لأن الطائر من أفعاله اتخاذ العشة ، وقد أورد الزمخشري في ترشيح المجاز في كشافه مثلا .

وقرأ ابن أبي عبلة : تجاراتهم ، على الجمع ، ووجهه أن لكل واحد تجارة ، ووجه قراءة الجمهور على الإفراد أنه اكتفى به عن الجمع لفهم المعنى ، وفي قوله : فما ربحت تجارتهم ، إشعار بأن رأس المال لم يذهب بالكلية ; لأنه إنما نفى الربح ، ونفي الربح لا يدل على انتقاص رأس المال . وأجيب عن هذا بأنه اكتفى بذكر عدم الربح عن ذكر ذهاب المال لما في الكلام من الدلالة على ذلك ؛ لأن الضلال نقيض الهدى ، والنقيضان لا يجتمعان ، فاستبدالهم الضلالة بالهدى دل على ذهاب الهدى بالكلية ، ويتخرج عندي على أن يكون من باب قوله :


على لاحب لا يهتدي بمناره



أي لا منار له فيهتدي به ، فنفى الهداية ، وهو يريد نفي المنار ، ويلزم من نفي المنار نفي الهداية به ، فكذلك هذه الآية لما ذكر شراء شيء بشيء ، توهم أن هذا الذي فعلوه هو من باب التجارة ، إذ التجارة ليس نفس الاشتراء فقط ، وليس بتاجر ، إنما التجارة التصرف في المال لتحصيل النمو والزيادة فنفى الربح . والمقصود نفي التجارة أي لا يتوهم أن هذا الشراء الذي وقع هو تجارة فليس بتجارة ، وإذا لم يكن تجارة انتفى الربح فكأنه قال : فلا تجارة لهم ولا ربح . وقال الزمخشري : معناه أن الذي يطلبه التجار في متصرفاتهم شيئان : سلامة رأس المال والربح ، وهؤلاء قد أضاعوا الطلبتين معا ؛ لأن رأس المال مالهم كان هو الهدى ، فلم يبق لهم مع الضلالة ، وحين لم يبق في أيديهم إلا الضلالة لم يوصفوا بإصابة الربح ، وإن ظفروا بما ظفروا به من الأعراض الدنيوية ؛ لأن الضلال خاسر دامر ، ولأنه لا يقال لمن لم يسلم له رأس ماله قد ربح ، انتهى كلامه . ومع ذلك ليس بمخلص في الجواب لأن نفي الربح عن التجارة لا يدل على ذهاب كل المال ، ولا على الخسران فيه ؛ لأن الربح هو الفضل على رأس المال ، فإذا نفى الفضل لم يدل على ذهاب رأس المال بالكلية ، ولا على الانتقاص منه ، وهو الخسران . قيل : لما لم يكن قوله تعالى : ( فما ربحت تجارتهم ) مفيدا لذهاب رءوس أموالهم ، أتبعه بقوله : ( وما كانوا مهتدين ) ، فكمل المعنى بذلك ، وتم به المقصود ، وهذا النوع من البيان يقال له : التتميم ، ومنه قول امرئ القيس :


كأن عيون الوحش حول خبائنا     وأرجلنا الجزع الذي لم يثقب



تمم المعنى بقوله : الذي لم يثقب ، وكمل الوصف وسمى الله - تعالى - اعتياضهم الضلالة عن الهدى تجارة ، وإن كانت التجارة هي البيع والشراء المتحقق منه الفائدة ، أو المترجى ذلك منه . وهذا الاعتياض منفي عنه ذلك ؛ لأن الكفر محبط للأعمال . قال تعالى : ( وقدمنا إلى ما عملوا ) الآية . وفي الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - سئل عن ابن جدعان وهل ينفعه وصله الرحم وإطعام المساكين ؟ فقال : " لا ، إنه لم يقل رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين " ؛ لأنهم لم يعتاضوا ذلك إلا لما تحققوا وارتجوا من الفوائد الدنيوية والأخروية . ألا ترى إلى قولهم : نحن أبناء الله وأحباؤه ، وقولهم : ( وما نحن بمعذبين ) . وكانت اليهود تزعم أنهم لا يعذبون إلا أياما معدودة ، وبعضهم يقول يوما واحدا ، وبعضهم عشرا ، وكل طائفة من الكفار تزعم أنها على الحق وأن غيرها على الباطل . فلحصول الراحة الدنيوية ورجاء الراحة الأخروية ، سمى اشتراءهم الضلالة بالهدى تجارة ، ونفى الله - تعالى - عنهم كونهم مهتدين . وهل المعنى ما كانوا في علم الله مهتدين ، أو مهتدين من الضلالة ، أو للتجارة الرابحة ، أو في اشتراء الضلالة ، أو نفى عنهم الهداية والربح ؟ لأن من التجار من لا يربح في تجارته ويكون على هدى ، وعلى استقامة ، وهؤلاء جمعوا بين نفي الربح والهداية . والذي أختاره أن قوله تعالى : ( وما كانوا مهتدين ) إخبار بأن هؤلاء ما سبقت لهم هداية بالفعل لئلا يتوهم من قوله : بالهدى ، أنهم كانوا على هدى فيما مضى ، فبين قوله : ( وما كانوا مهتدين ) مجاز قوله : بالهدى ، ودل على أن الذي [ ص: 74 ] اعتاضوا الضلالة به إنما هو التمكن من إدراك الهدى ، فالمثبت في الاعتياض غير المنفي أخيرا ؛ لأن ذاك بالقوة وهذا بالفعل . وانتصاب مهتدين على أنه خبر كان ، فهو منصوب بها وحدها خلافا لمن زعم أنه منصوب بكان والاسم معا ، وخلافا لمن زعم أن أصل انتصابه على الحال ، وهو الفراء ، قال : لشغل الاسم برفع كان ، إلا أنه لما حصلت الفائدة من جهته كان حالا خبرا فأتى معرفة ، فقيل : كان أخوك زيدا تغليبا للخبر لا للحال .

وذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات أقوالا ، أحدها : أنها نزلت في المنافقين . الثاني : في قوم أعلم الله بوصفهم قبل وجودهم ، وفيه إعلام بالمغيبات . الثالث : في عبد الله بن أبي وأصحابه نزل : ( وإذا لقوا الذين آمنوا ) والتي قبلها في جميع المنافقين ، وذكروا ما معناه أنه لقي نفرا من المؤمنين ، فقال لأصحابه : انظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم ، فذكر أنه مدح وأثنى على أبي بكر وعمر وعلي ، فوبخه علي وقال له : لا تنافق ، فقال : إلي تقول هذا ؟ والله إن إيماننا كإيمانكم ، ثم افترقوا ، فقال عبد الله لأصحابه : كيف رأيتموني فعلت ؟ فأثنوا عليه خيرا . وقد تقدمت أقاويل غير هذه الثلاثة في غضون الكلام قبل هذا .

التالي السابق


الخدمات العلمية