الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

[ ص: 184 ] إذا عرف هذا فلنرجع إلى شرح كلامه . قال : وبهذا الرضا نطق التنزيل .

يشير إلى قوله : عز وجل قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم . وقال تعالى في آخر سورة المجادلة ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون وفي آخر سورة لم يكن خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه .

فتضمنت هذه الآيات : جزاءهم على صدقهم وإيمانهم ، وأعمالهم الصالحة ، ومجاهدة أعدائه ، وعدم ولايتهم ، بأن رضي الله عنهم . فأرضاهم . فرضوا عنه . وإنما حصل لهم هذا بعد الرضا به ربا ، وبمحمد نبيا ، وبالإسلام دينا .

قوله : وهو الرضا عنه في كل ما قضى .

هاهنا ثلاثة أمور : الرضاء بالله ، والرضا عن الله ، والرضا بقضاء الله .

فالرضا به فرض . والرضا عنه - وإن كان من أجل الأمور وأشرف أنواع العبودية - فلم يطالب به العموم . لعجزهم ومشقته عليهم . وأوجبته طائفة كما أوجبوا الرضا به ، واحتجوا بحجج .

منها : أنه إذا لم يكن راضيا عن ربه فهو ساخط عليه . إذ لا واسطة بين الرضا والسخط . وسخط العبد على ربه مناف لرضاه به ربا .

قالوا : وأيضا فعدم رضاه عنه يستلزم سوء ظنه به ، ومنازعته له في اختياره لعبده ، وأن الرب تبارك وتعالى يختار شيئا ويرضاه فلا يختاره العبد ولا يرضاه ، وهذا مناف للعبودية .

قالوا : وفي بعض الآثار الإلهية من لم يرض بقضائي ، ولم يصبر على بلائي . [ ص: 185 ] فليتخذ ربا سواي . ولا حجة في شيء من ذلك .

أما قوله : إنه لا يتخلص من السخط على ربه إلا بالرضا عنه . إذ لا واسطة بين الرضا والسخط - فكلام مدخول . لأن السخط بالمقضي لا يستلزم السخط على من قضاه ، كما أن كراهة المقضي وبغضه والنفرة عنه لا تستلزم تعلق ذلك بالذي قضاه وقدره . فالمقضي قد يسخطه العبد وهو راض عمن قضاه وقدره . بل قد يجتمع تسخطه والرضا بنفس القضاء . كما سيأتي إن شاء الله .

وأما قولكم إنه يستلزم سوء ظن العبد بربه ومنازعته له في اختياره فليس كذلك . بل هو حسن الظن بربه في الحالتين . فإنه إنما يسخط المقدور وينازعه بمقدور آخر . كما ينازع القدر الذي يكرهه ربه بالقدر الذي يحبه ويرضاه . فينازع قدر الله بقدر الله بالله لله ، كما يستعيذ برضاه من سخطه ، وبمعافاته من عقوبته ، ويستعيذ به منه .

فأما كونه يختار لنفسه خلاف ما يختاره الرب فهذا موضع تفصيل . لا يسحب عليه ذيل النفي والإثبات . فاختيار الرب تعالى لعبده نوعان .

أحدهما : اختيار ديني شرعي . فالواجب على العبد أن لا يختار في هذا النوع غير ما اختاره له سيده . قال تعالى وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم فاختيار العبد خلاف ذلك مناف لإيمانه وتسليمه ، ورضاه بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد رسولا .

النوع الثاني : اختيار كوني قدري . لا يسخطه الرب ، كالمصائب التي يبتلي الله بها عبده . فهذا لا يضره فراره منها إلى القدر الذي يرفعها عنه ، ويدفعها ويكشفها . وليس في ذلك منازعة للربوبية . وإن كان فيه منازعة للقدر بالقدر .

فهذا يكون تارة واجبا ، وتارة يكون مستحبا ، وتارة يكون مباحا مستوي الطرفين ، وتارة يكون مكروها ، وتارة يكون حراما .

وأما القدر الذي لا يحبه ولا يرضاه - مثل قدر المعائب والذنوب - فالعبد مأمور بسخطها . ومنهي عن الرضا بها .

وهذا هو التفصيل الواجب في الرضا بالقضاء .

وقد اضطرب الناس في ذلك اضطرابا عظيما . ونجا منه أصحاب الفرق والتفصيل . فإن لفظ الرضا بالقضاء لفظ محمود مأمور به . وهو من مقامات [ ص: 186 ] الصديقين . فصارت له حرمة أوجبت لطائفة قبوله من غير تفصيل . وظنوا أن كل ما كان مخلوقا للرب تعالى فهو مقضي مرضي له . ينبغي له الرضا به . ثم انقسموا على فرقتين .

فقالت فرقة : إذا كان القضاء والرضا متلازمين . فمعلوم أنا مأمورون ببغض المعاصي ، والكفر والظلم . فلا تكون مقضية مقدرة .

وفرقة قالت : قد دل العقل والشرع على أنها واقعة بقضاء الله وقدره . فنحن نرضى بها .

والطائفتان منحرفتان ، جائرتان عن قصد السبيل . فأولئك أخرجوها عن قضاء الرب وقدره . وهؤلاء رضوا بها ولم يسخطوها . هؤلاء خالفوا الرب تعالى في رضاه وسخطه . وخرجوا عن شرعه ودينه . وأولئك أنكروا تعلق قضائه وقدره بها .

واختلفت طرق أهل الإثبات للقدر والشرع في جواب الطائفتين .

فقالت طائفة : لم يقم دليل من الكتاب ولا السنة ولا الإجماع على جواز الرضا بكل قضاء ، فضلا عن وجوبه واستحبابه ، فأين أمر الله عباده أو رسوله : أن يرضوا بكل ما قضاه الله وقدره ؟

وهذه طريقة كثير من أصحابنا وغيرهم . وبه أجاب القاضي أبو يعلى و ابن الباقلاني .

قال : فإن قيل : أفترضون بقضاء الله وقدره ؟

قيل له : نرضى بقضاء الله الذي هو خلقه ، الذي أمرنا أن نرضى به . ولا نرضى [ ص: 187 ] من ذلك ما نهانا عنه أن نرضى به . ولا نتقدم بين يدي الله تعالى ، ولا نعترض على حكمه .

وقالت طائفة أخرى : يطلق الرضا بالقضاء في الجملة ، دون تفاصيل المقضي المقدر . فنقول : نرضى بقضاء الله جملة ولا نسخطه . ولا نطلق الرضا على كل واحد من تفاصيل المقضي . كما يقول المسلمون : كل شيء يبيد ويهلك . ولا يقولون : حجج الله تبيد وتهلك . ويقولون : الله رب كل شيء . ولا يضيفون ربوبيته إلى الأعيان المستخبثة المستقذرة بخصوصها .

وقالت طائفة أخرى : نرضى بها من جهة إضافتها إلى الرب خلقا ومشيئة ، ونسخطها من جهة إضافتها إلى العبد كسبا له وقياما به .

وقالت طائفة أخرى : بل نرضى بالقضاء ونسخط المقضي . فالرضا والسخط لم يتعلقا بشيء واحد .

وهذه الأجوبة لا يتمشى شيء منها على أصول من يجعل محبة الرب تعالى ورضاه ومشيئته واحدة ، كما هو أحد قولي الأشعري ، وأكثر أتباعه .

فإن هؤلاء يقولون : إن كل ما شاءه وقضاه فقد أحبه ورضيه ، وإذا كان الكون محبوبا له مرضيا ، فنحن نحب ما أحبه ، ونرضى ما رضيه .

وقولكم : إن الرضا بالقضاء يطلق جملة ولا يطلق تفصيلا . فذلك لا يمنع دخوله في جملة المرضي به . فيعود الإشكال .

وقولكم : نرضى بها من جهة كونها خلقا لله ، ونسخطها من جهة كونها كسبا للعبد : فكسب العبد إن كان أمرا وجوديا فهو خلق لله فنرضى به ، وإن كان أمرا عدميا فلا حقيقة له ترضي ولا تسخط .

وأما قولكم : نرضى بالقضاء دون المقضي : فهذا إنما يصح على قول من يجعل القضاء غير المقضي ، والفعل غير المفعول . وأما من لم يفرق بينهما : فكيف يصح هذا على أصله ؟ .

وقد أورد القاضي أبو بكر الباقلاني على نفسه هذا السؤال ، فقال :

فإن قيل : القضاء عندكم هو المقضي ، أو غيره ؟

قيل : هو على ضربين . فالقضاء - بمعنى الخلق - هو المقضي . لأن الخلق هو [ ص: 188 ] المخلوق . والقضاء - الذي هو الإلزام والإعلام والكتابة - غير المقضي . لأن الأمر غير المأمور . والخبر غير المخبر عنه .

وهذا الجواب لا يخلصه أيضا . لأن الكلام ليس في الإلزام والإعلام والكتابة . وإنما الكلام في نفس الفعل المقدور ، المعلم به المكتوب : هل مقدره وكاتبه سبحانه راض به أم لا ؟ وهل العبد مأمور بالرضا به نفسه أم لا ؟ هذا هو حرف المسألة .

وقد أنكر الله سبحانه وتعالى على من جعل مشيئته وقضاءه مستلزمان لمحبته ورضاه . فكيف بمن جعل ذلك شيئا واحدا ؟ قال الله تعالى : سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون وقال تعالى : وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم وقال تعالى : وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم . فهم استدلوا على محبته لشركهم ورضاه عنه بمشيئته لذلك . وعارضوا بهذا الدليل أمره ونهيه . وفيه أبين الرد لقول من جعل مشيئته غير محبته ورضاه . فالإشكال إنما نشأ من جعلهم المشيئة نفس المحبة . ثم زادوه بجعلهم الفعل نفس المفعول ، والقضاء عين المقضي . فنشأ من ذلك إلزامهم بكونه تعالى راضيا محبا لذلك . والتزام رضاهم به .

والذي يكشف هذه الغمة ، ويبصر من هذه العماية ، وينجي من هذه الورطة : إنما هو التفريق بين ما فرق الله بينه ، وهو المشيئة والمحبة . فإنهما ليسا واحدا . ولا هما متلازمين . بل قد يشاء ما لا يحبه ، ويحب ما لا يشاء كونه .

فالأول : كمشيئته لوجود إبليس وجنوده . ومشيئته العامة لجميع ما في الكون مع بغضه لبعضه .

والثاني : كمحبته إيمان الكفار ، وطاعات الفجار ، وعدل الظالمين ، وتوبة الفاسقين . ولو شاء ذلك لوجد كله وكان جميعه . فإنه ما شاء كان . وما لم يشأ لم يكن .

فإذا تقرر هذا الأصل ، وأن الفعل غير المفعول ، والقضاء غير المقضي ، وأن الله [ ص: 189 ] سبحانه لم يأمر عباده بالرضا بكل ما خلقه وشاءه : زالت الشبهات . وانحلت الإشكالات . ولله الحمد . ولم يبق بين شرع الرب وقدره تناقض ، بحيث يظن إبطال أحدهما للآخر ، بل القدر ينصر الشرع . والشرع يصدق القدر . وكل منهما يحقق الآخر .

إذا عرف هذا ، فالرضا بالقضاء الديني الشرعي واجب ، وهو أساس الإسلام وقاعدة الإيمان . فيجب على العبد أن يكون راضيا به بلا حرج ، ولا منازعة ولا معارضة ، ولا اعتراض . قال الله تعالى : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما .

فأقسم : أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا رسوله ، وحتى يرتفع الحرج من نفوسهم من حكمه ، وحتى يسلموا لحكمه تسليما . وهذا حقيقة الرضا بحكمه .

فالتحكيم : في مقام الإسلام . وانتفاء الحرج : في مقام الإيمان . والتسليم : في مقام الإحسان .

ومتى خالط القلب بشاشة الإيمان ، واكتحلت بصيرته بحقيقة اليقين ، وحيى بروح الوحي ، وتمهدت طبيعته ، وانقلبت النفس الأمارة مطمئنة راضية وادعة ، وتلقى أحكام الرب تعالى بصدر واسع منشرح مسلم : فقد رضي كل الرضا بهذا القضاء الديني المحبوب لله ولرسوله .

والرضا بالقضاء الكوني القدري ، الموافق لمحبة العبد وإرادته ورضاه - من الصحة ، والغنى ، والعافية ، واللذة - أمر لازم بمقتضى الطبيعة . لأنه ملائم للعبد ، محبوب له . فليس في الرضا به عبودية . بل العبودية في مقابلته بالشكر ، والاعتراف بالمنة ، ووضع النعمة مواضعها التي يحب الله أن توضع فيها ، وأن لا يعصى المنعم بها ، وأن يرى التقصير في جميع ذلك .

والرضا بالقضاء الكوني القدري ، الجاري على خلاف مراد العبد ومحبته - مما لا يلائمه . ولا يدخل تحت اختياره - مستحب . وهو من مقامات أهل الإيمان وفي وجوبه قولان . وهذا كالمرض والفقر ، وأذى الخلق له ، والحر والبرد ، والآلام ونحو ذلك .

والرضا بالقدر الجاري عليه باختياره - مما يكرهه الله ويسخطه ، وينهى عنه - كأنواع الظلم والفسوق والعصيان : حرام يعاقب عليه . وهو مخالفة لربه تعالى . فإن الله لا يرضى بذلك ولا يحبه . فكيف تتفق المحبة ورضا ما يسخطه الحبيب ويبغضه ؟ فعليك [ ص: 190 ] بهذا التفصيل في مسألة الرضا بالقضاء .

فإن قلت : كيف يريد الله سبحانه أمرا لا يرضاه ولا يحبه ؟ وكيف يشاؤه ويكونه ؟ وكيف تجتمع إرادة الله له وبغضه وكراهيته ؟

قيل : هذا السؤال هو الذي افترق الناس لأجله فرقا ، وتباينت عنده طرقهم وأقوالهم .

فاعلم أن المراد نوعان : مراد لنفسه . ومراد لغيره .

فالمراد لنفسه : مطلوب محبوب لذاته ولما فيه من الخير . فهو مراد إرادة الغايات والمقاصد .

والمراد لغيره : قد لا يكون في نفسه مقصودا للمريد ، ولا فيه مصلحة له بالنظر إلى ذاته . وإن كان وسيلة مقصودة ومرادة . فهو مكروه له من حيث نفسه وذاته ، مراد له من حيث إفضاؤه وإيصاله إلى مراده . فيجتمع فيه الأمران : بغضه ، وإرادته ، ولا يتنافيان . لاختلاف متعلقهما . وهذا كالدواء المتناهي في الكراهة ، إذا علم متناوله أن فيه شفاءه ، وكقطع العضو المتآكل إذا علم أن في قطعه بقاء جسده ، وكقطع المسافة الشاقة جدا إذا علم أنها توصله إلى مراده ومحبوبه . بل العاقل يكتفي في إيثار هذا المكروه وإرادته بالظن الغالب ، وإن خفيت عنه عاقبته ، وطويت عنه مغبته ، فكيف بمن لا تخفى عليه العواقب ؟ فهو سبحانه وتعالى يكره الشيء ويبغضه في ذاته . ولا ينافي ذلك إرادته لغيره ، وكونه سببا إلى ما هو أحب إليه من فوته .

مثال ذلك : أنه سبحانه خلق إبليس ، الذي هو مادة لفساد الأديان والأعمال ، والاعتقادات والإرادات ، وهو سبب شقاوة العبيد ، وعملهم بما يغضب الرب تبارك وتعالى . وهو الساعي في وقوع خلاف ما يحبه الله ويرضاه بكل طريق وكل حيلة . فهو مبغوض للرب سبحانه وتعالى ، مسخوط له . لعنه الله ومقته . وغضب عليه . ومع هذا فهو وسيلة إلى محاب كثيرة للرب تعالى ترتبت على خلقه . وجودها أحب إليه من عدمها .

منها : أن تظهر للعباد قدرة الرب تعالى على خلق المتضادات المتقابلات فخلق هذه الذات - التي هي أخبث الذوات وشرها . وهي سبب كل شر - في مقابلة ذات جبريل ، التي هي أشرف الذوات ، وأطهرها وأزكاها . وهي مادة كل خير . فتبارك الله خالق هذا وهذا . كما ظهرت لهم قدرته التامة في خلق الليل والنهار ، والضياء والظلام ، والداء والدواء ، والحياة والموت ، والحر والبرد ، والحسن والقبيح ، والأرض والسماء ، والذكر والأنثى ، والماء والنار ، والخير والشر .

[ ص: 191 ] وذلك من أدل الدلائل على كمال قدرته وعزته ، وسلطانه وملكه . فإنه خلق هذه المتضادات . وقابل بعضها ببعض . وسلط بعضها على بعض . وجعلها محال تصرفه وتدبيره وحكمته . فخلو الوجود عن بعضها بالكلية تعطيل لحكمته ، وكمال تصرفه وتدبير مملكته .

ومنها : ظهور آثار أسمائه القهرية ، مثل القهار ، والمنتقم ، والعدل ، والضار ، وشديد العقاب ، وسريع الحساب ، وذي البطش الشديد ، والخافض ، والمذل . فإن هذه الأسماء والأفعال كمال . فلا بد من وجود متعلقها . ولو كان الخلق كلهم على طبيعة الملك لم يظهر أثر هذه الأسماء والأفعال .

ومنها : ظهور آثار أسمائه المتضمنة لحلمه وعفوه ، ومغفرته وستره ، وتجاوزه عن حقه ، وعتقه لمن شاء من عبيده . فلولا خلق ما يكره من الأسباب المفضية إلى ظهور آثار هذه الأسماء لتعطلت هذه الحكم والفوائد . وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا بقوله : لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله . فيغفر لهم .

ومنها : ظهور آثار أسماء الحكمة والخبرة . فإنه سبحانه الحكيم الخبير الذي يضع الأشياء مواضعها . وينزلها منازلها اللائقة بها . فلا يضع الشيء في غير موضعه . ولا ينزله غير منزله ، التي يقتضيها كمال علمه وحكمته وخبرته . فلا يضع الحرمان والمنع موضع العطاء والفضل . ولا الفضل والعطاء موضع الحرمان والمنع . ولا الثواب موضع العقاب ، ولا العقاب موضع الثواب ، ولا الخفض موضع الرفع ، ولا الرفع موضع الخفض ، ولا العز مكان الذل ، ولا الذل مكان العز ، ولا يأمر بما ينبغي النهي عنه ، ولا ينهى عما ينبغي الأمر به .

فهو أعلم حيث يجعل رسالته . وأعلم بمن يصلح لقبولها . ويشكره على انتهائها إليه ووصولها . وأعلم بمن لا يصلح لذلك ولا يستأهله . وأحكم من أن يمنعها أهلها . وأن يضعها عند غير أهلها .

فلو قدر عدم الأسباب المكروهة البغيضة له لتعطلت هذه الآثار . ولم تظهر لخلقه . ولفاتت الحكم والمصالح المترتبة عليها . وفواتها شر من حصول تلك الأسباب .

فلو عطلت تلك الأسباب - لما فيها من الشر - لتعطل الخير الذي هو أعظم من الشر الذي في تلك الأسباب . وهذا كالشمس والمطر والرياح التي فيها من المصالح ما هو أضعاف أضعاف ما يحصل بها من الشر والضرر . فلو قدر تعطيلها - لئلا يحصل منها ذلك الشر الجزئي - لتعطل من الخير ما هو أعظم من ذلك الشر بما لا نسبة بينه وبينه .

التالي السابق


الخدمات العلمية