الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              3168 (4) باب من عض يد رجل فانتزع يده فسقطت ثنية العاض

                                                                                              [ 1765 ] عن عمران بن حصين قال: قاتل يعلى بن منية - أو ابن أمية - رجلا، فعض أحدهما صاحبه، فانتزع يده من فمه فنزع ثنيته، - وفي رواية: ثنيتيه - فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أيعض أحدكم كما يعض الفحل؟ لا دية له.

                                                                                              وفي رواية: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تأمرني؟ تأمرني أن آمره أن يدع يده في فيك تقضمها كما يقضم الفحل؟ ادفع يدك حتى يقضمها، ثم انتزعها".

                                                                                              رواه أحمد (4 \ 222) والبخاري (2265) ومسلم (1674) وأبو داود (18 و 21) والنسائي (8 \ 30) وابن ماجه (2656) .

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              (4) ومن باب من عض يد رجل

                                                                                              (قوله : قاتل يعلى بن أمية - أو: ابن منية - رجلا ) كذا صواب هذا اللفظ. وصحيح منية : بميم مضمومة، ونون ساكنة، وياء باثنتين من تحتها. وهي امرأة، وبها كان يعرف. واختلف فيها; هل كانت أمه، أو جدته؟ قال أبو الحسن الدارقطني : منية بنت الحارث هي جدة يعلى ، وبها كان يعرف. قاله الزبير بن بكار . وقال أهل الحديث: يقولون: هي أمه، وأنها منية بنت غزوان وقال الطبري : يعلى بن أمية ، أمه: منية بنت جابر . ومن قال: ( منبه ) بنون مفتوحة، وباء مكسورة بواحدة تحتها فقد صحف; قاله القاضي عياض .

                                                                                              [ ص: 32 ] قلت: ويعرف أيضا بأبيه، وقد صحت نسبته إليهما في كتب الحديث. فمرة نسب إلى أبيه، وهو: أمية ومرة نسب إلى هذه المرأة. وهذه الرواية يظهر منها: أن يعلى هو الذي قاتل الرجل. وفي الرواية الأخرى: أن أجيرا ليعلى بن أمية عض يد رجل، وهذا هو الأولى، والأليق; إذ لا يليق هذا الفعل بيعلى بن أمية مع جلالته وفضله.

                                                                                              و (قوله: " أن يدع يده في فيك يقضمها كما يقضم الفحل ؟ ") أي: يعضها كما يعض الفحل، كما جاء مبينا في الرواية الأخرى. يقال: قضمت الدابة شعيرها - بكسر الضاد - تقضمه - بفتحها - على اللغة الفصيحة: إذا أكلته بأطراف أسنانها. وخضمته - بالخاء المنقوطة بواحدة من فوقها -: إذا أكلته بفيها كله. ويقال: الخضم: أكل الرطب واللين. والقضم: أكل اليابس. ومنه قول الحسن : تخضمون ونقضم، والموعد: الحساب.

                                                                                              و (قوله: ادفع يدك حتى يقضمها ثم انتزعها ) هو أمر على جهة الإنكار، كما قال قبل هذا: ( بم تأمرني؟ تأمرني أن آمره أن يدع يده في فيك تقضمها ؟!) فمعناه: أنك لا تدع يدك في فمه يقضمها، ولا يمكن أن يؤمر بذلك.

                                                                                              [ ص: 33 ] و (قوله: " لا دية له " وفي الأخرى: فأبطله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) نص صريح في إسقاط القصاص والدية في ذلك. ولم يقل أحد بالقصاص فيما علمت، وإنما الخلاف في الضمان. فأسقطه أبو حنيفة وبعض أصحابنا، وضمنه الشافعي وهو مشهور مذهب مالك .

                                                                                              ونزل بعض أصحابنا القول بالضمان على ما إذا أمكنه نزع يده برفق، فانتزعها بعنف. وحمل بعض أصحابنا الحديث على أنه كان متحرك الثنايا. وهذا يحتاج إلى خطم، وأزمة، ولا ينبغي أن يعدل عن صريح الحديث. وقد روي عن مالك والشافعي في الجمل الصائل إذا دفعه الرجل عن نفسه، فأدى إلى تلف الصائل، لم يكن فيه ضمان; لأنه مأمور بالدفع عن نفسه. ومن فعل ما أمر به لم يلزمه ضمان.

                                                                                              قلت: وعلى هذا: فيخرج من هذه المسألة قول بإسقاط الضمان في مسألة العض المتقدمة عن مالك ، والشافعي ; لأنه مأمور بنزع يده من فيه، وأبو حنيفة يلزم الضمان في مسألة الصائل، لكنه يجيب عن هذا المعنى بأنه وإن سلم أنه مأمور بالدفع عن نفسه، فلم يؤذن له في إتلاف مال، فيضمن.

                                                                                              قلت: ويخرج من هذا قول عن أبي حنيفة في إثبات الضمان في مسألة العض. ويقرب من هذا مسألة من اطلع من باب بيت ففقئت عينه لذلك، فاختلف أصحابنا في ذلك. فالأكثر منهم على الضمان. وبه قال أبو حنيفة ، وبعضهم قال بنفيه. وبه قال الشافعي .

                                                                                              [ ص: 34 ] قلت: وهو الظاهر من قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فخذفته بحصاة، ففقأت عينه لم يكن عليك جناح)، وأيضا: فقد رام النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يطعن بالمدراة في عين من أراد أن يطلع من حجر في باب بيته. وقال: (لو أعلم أنك تطلع لطعنت به في عينك)، وما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - بالذي يريد أن يفعل ما لا يجوز، أو ما يؤدي إلى دية. وأيضا: فقد جاء عنه أنه قال: (من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقؤوا عينه). وأما من زعم: أنه يضمن، فمن حجته: أنه لو نظر إنسان إلى عورة آخر لما أباح ذلك منه فقء عينه، ولما سقط عنه الضمان بالاتفاق. [فهذا أولى بنفي الضمان]. وحملوا قوله: (لا جناح عليك) أي: لا إثم. ومنهم من قال: يحمل الحديث على أنه رماه بحصاة. ولم يرد فقء عينه، فانتفى عنه الإثم لذلك.

                                                                                              قلت: وهذا تحريف وتبديل، لا تأويل ولا قياس مع النصوص.




                                                                                              الخدمات العلمية