الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين ) ففيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قال ابن السكيت يقال : ما زلت أفعله ، وما فتئت أفعله ، وما برحت أفعله ، ولا يتكلم بهن إلا مع الجحد .

                                                                                                                                                                                                                                            قال ابن قتيبة : يقال : ما فتيت وما فتئت لغتان فتيا وفتؤا إذا نسيته وانقطعت عنه ، قال النحويون : وحرف النفي ههنا مضمر على معنى قالوا : ما تفتؤ ولا تفتؤ ، وجاز حذفه لأنه لو أريد الإثبات ؛ لكان باللام والنون نحو : والله لتفعلن ، فلما كان بغير اللام والنون ؛ عرف أن كلمة لا مضمرة ، وأنشدوا قول امرئ القيس :


                                                                                                                                                                                                                                            فقلت يمين الله أبرح قاعدا



                                                                                                                                                                                                                                            والمعنى : لا أبرح قاعدا ، ومثله كثير .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما المفسرون فقال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة : لا تزال تذكره ، وعن مجاهد : لا تفتر من حبه ، كأنه جعل الفتور والفتوء أخوين .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : حكى الواحدي عن أهل المعاني أن أصل الحرض فساد الجسم والعقل للحزن والحب ، وقوله : حرضت فلانا على فلان تأويله : أفسدته ، وأحميته عليه ، وقال تعالى : ( حرض المؤمنين على القتال ) ( الأنفال : 65 ) .

                                                                                                                                                                                                                                            إذا عرفت هذا فنقول : وصف الرجل بأنه حرض إما أن يكون لإرادة أنه ذو حرض فحذف المضاف ، أو لإرادة أنه لما تناهى في الفساد والضعف فكأنه صار عين الحرض ونفس الفساد .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما الحرض بكسر الراء فهو الصفة ، وجاءت القراءة بهما معا .

                                                                                                                                                                                                                                            إذا عرفت هذا فنقول : للمفسرين فيه عبارات :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : الحرض والحارض هو الفاسد في جسمه وعقله .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيهما : سأل نافع بن الأزرق ابن عباس عن الحرض ، فقال : الفاسد الدنف .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أنه الذي يكون لا كالأحياء ولا كالأموات ، وذكر أبو روق أن أنس بن مالك قرأ : ( حتى تكون حرضا ) بضم الحاء وتسكين الراء ، قال : يعني مثل عود الأشنان ، وقوله : ( أو تكون من الهالكين ) أي من الأموات ، ومعنى الآية أنهم قالوا لأبيهم : إنك لا تزال تذكر يوسف بالحزن والبكاء عليه حتى تصير بذلك إلى مرض لا تنتفع بنفسك معه ، أو تموت من الغم ، كأنهم قالوا : أنت الآن في بلاء شديد ، ونخاف أن يحصل ما هو أزيد منه وأقوى ، وأرادوا بهذا القول منعه عن كثرة البكاء والأسف .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : لم حلفوا على ذلك مع أنهم لم يعلموا ذلك قطعا ؟

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : إنهم بنوا هذا الأمر على الظاهر .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : القائلون بهذا الكلام وهو قوله : ( تالله تفتأ ) من هم ؟

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : الأظهر أن هؤلاء ليسوا هم الإخوة الذين قد تولى عنهم ، بل الجماعة الذين كانوا في الدار من أولاد أولاده وخدمه . [ ص: 158 ]

                                                                                                                                                                                                                                            ثم حكى تعالى عن يعقوب عليه السلام أنه قال : ( قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ) يعني أن هذا الذي أذكره لا أذكره معكم ، وإنما أذكره في حضرة الله تعالى ، والإنسان إذا بث شكواه إلى الله تعالى كان في زمرة المحققين كما قال عليه الصلاة والسلام : أعوذ برضاك من سخطك ، وأعوذ بعفوك من غضبك ، وأعوذ بك منك والله هو الموفق ، والبث هو التفريق ، قال الله تعالى : ( وبث فيها من كل دابة ) ( البقرة : 164 ) .

                                                                                                                                                                                                                                            فالحزن إذا ستره الإنسان كان هما ، وإذا ذكره لغيره كان بثا ، وقالوا : البث أشد الحزن ، والحزن أشد الهم ، وذلك لأنه متى أمكنه أن يمسك لسانه عن ذكره لم يكن ذلك الحزن مستوليا عليه ، وأما إذا عظم وعجز الإنسان عن ضبطه وانطلق اللسان بذكره شاء أم أبى ، كان ذلك بثا ، وذلك يدل على أن الإنسان صار عاجزا عنه ، وهو قد استولى على الإنسان ، فقوله : ( بثي وحزني إلى الله ) أي لا أذكر الحزن العظيم ولا الحزن القليل إلا مع الله ، وقرأ الحسن : ( وحزني ) بفتحتين وحزني بضمتين ، قيل : دخل على يعقوب رجل وقال : يا يعقوب ضعف جسمك ونحف بدنك ، وما بلغت سنا عاليا ! فقال : الذي بي لكثرة غمومي ، فأوحى الله إليه : يا يعقوب أتشكوني إلى خلقي ؟ فقال : يا رب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي ، فغفرها له ، وكان بعد ذلك إذا سئل قال : ( إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ) وروي أنه أوحى الله إليه : إنما وجدت عليكم لأنكم ذبحتم شاة فقام ببابكم مسكين فلم تطعموه ، وإن أحب خلقي إلي الأنبياء والمساكين ، فاصنع طعاما وادع إليه المساكين ، وقيل : اشترى جارية مع ولدها فباع ولدها فبكت حتى عميت .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال يعقوب عليه السلام : ( وأعلم من الله ما لا تعلمون ) أي أعلم من رحمته وإحسانه ما لا تعلمون ، وهو أنه تعالى يأتي بالفرج من حيث لا أحتسب ، فهو إشارة إلى أنه كان يتوقع وصول يوسف إليه .

                                                                                                                                                                                                                                            وذكروا لسبب هذا التوقع أمورا :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن ملك الموت أتاه فقال له : يا ملك الموت هل قبضت روح ابني يوسف ؟ قال : لا يا نبي الله ، ثم أشار إلى جانب مصر وقال : اطلبه ههنا .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أنه علم أن رؤيا يوسف صادقة ؛ لأن أمارات الرشد والكمال كانت ظاهرة في حق يوسف ، ورؤيا مثله عليه السلام لا تخطئ .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : لعله تعالى أوحى إليه أنه سيوصله إليه ، ولكنه تعالى ما عين الوقت ، فلهذا بقي في القلق .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : قال السدي : لما أخبره بنوه بسيرة الملك وكمال حاله في أقواله وأفعاله ؛ طمع أن يكون هو يوسف ، وقال : يبعد أن يظهر في الكفار مثله .

                                                                                                                                                                                                                                            وخامسها : علم قطعا أن بنيامين لا يسرق ، وسمع أن الملك ما آذاه وما ضربه ، فغلب على ظنه أن ذلك الملك هو يوسف ، فهذا جملة الكلام في المقام الأول .

                                                                                                                                                                                                                                            والمقام الثاني : أنه رجع إلى أولاده ، وتكلم معهم على سبيل اللطف ، وهو قوله : ( يابني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ) .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أنه عليه السلام لما طمع في وجدان يوسف بناء على الأمارات المذكورة قال لبنيه : تحسسوا من يوسف ، والتحسس طلب الشيء بالحاسة وهو شبيه بالسمع والبصر ، قال أبو بكر الأنباري : يقال : تحسست عن فلان ، ولا يقال : من فلان ، وقيل : ههنا ( من يوسف ) ؛ لأنه أقام ( من ) مقام ( عن ) ، قال : ويجوز أن يقال : ( من ) للتبعيض ، والمعنى تحسسوا خبرا من أخبار يوسف ، واستعلموا بعض أخبار يوسف ، فذكرت كلمة ( من ) لما فيها من الدلالة على التبعيض ، وقرئ ( تجسسوا ) بالجيم كما قرئ بهما في الحجرات . [ ص: 159 ]

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال : ( ولا تيأسوا من روح الله ) قال الأصمعي : الروح ما يجده الإنسان من نسيم الهواء فيسكن إليه ، وتركيب الراء والواو والحاء يفيد الحركة والاهتزاز ، فكلما يهتز إنسان له ويلتذ بوجوده فهو روح .

                                                                                                                                                                                                                                            وقال ابن عباس : لا تيئسوا من روح الله يريد من رحمة الله ، وعن قتادة : من فضل الله ، وقال ابن زيد : من فرج الله ، وهذه الألفاظ متقاربة ، وقرأ الحسن وقتادة : ( من روح الله ) بالضم أي : من رحمته .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية