الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              1791 1890 - حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا الليث، عن خالد بن يزيد ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه، عن عمر - رضي الله عنه - قال: اللهم ارزقني شهادة في سبيلك، واجعل موتي في بلد رسولك - صلى الله عليه وسلم -.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 571 ] وقال ابن زريع، عن روح بن القاسم، عن زيد بن أسلم ، عن أمه، عن حفصة بنت عمر - رضي الله عنهما - قالت: سمعت عمر نحوه.

                                                                                                                                                                                                                              وقال هشام، عن زيد، عن أبيه، عن حفصة: سمعت عمر رضي الله عنه. [فتح: 4 \ 100]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ذكر حديث خبيب -بالخاء المعجمة- بن عبد الرحمن ، عن حفص بن عاصم ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي قال: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي" وهذا سلف في باب فضل ما بين القبر والمنبر.

                                                                                                                                                                                                                              وحديث عائشة قالت: لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة وعك أبو بكر وبلال، فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول:


                                                                                                                                                                                                                              كل امرئ مصبح في أهله والموت أدنى من شراك نعله

                                                                                                                                                                                                                              وكان بلال إذا أقلع عنه الحمى يرفع عقيرته ويقول:


                                                                                                                                                                                                                              ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وحولي إذخر وجليل
                                                                                                                                                                                                                              وهل أردن يوما مياه مجنة وهل يبدون لي شامة وطفيل

                                                                                                                                                                                                                              قال: اللهم العن شيبة بن ربيعة ، وعتبة بن ربيعة ، وأمية بن خلف ، كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء، ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، اللهم بارك لنا في صاعنا وفي مدنا، وصححها لنا، وانقل حماها إلى الجحفة". قالت: وقدمنا المدينة وهي أوبأ أرض الله. قالت: فكان بطحان يجري نجلا. تعني: ماء آجنا.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 572 ] وذكر فيه عن زيد بن أسلم ، عن أبيه، عن عمر قال: اللهم ارزقني شهادة في سبيلك، واجعل موتي في بلد رسولك - صلى الله عليه وسلم -.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن زريع، عن روح بن القاسم، عن زيد بن أسلم ، عن أمه، عن حفصة بنت عمر قالت: سمعت عمر، نحوه، وقال هشام، عن زيد، عن أبيه، عن حفص سمعت عمر.

                                                                                                                                                                                                                              الشرح:

                                                                                                                                                                                                                              حديث أبي هريرة سلف.

                                                                                                                                                                                                                              وحديث عائشة أخرجه مسلم أيضا، وفي رواية: فدخلت عليهما فقلت: يا أبه كيف تجدك؟ ويا بلال كيف تجدك؟ ذكره في المرضى، وفيه: قالت عائشة: فجئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته فقال: "اللهم حبب إلينا المدينة" وقال: "في صاعها وفي مدها" وفي "موطأ معن بن عيسى" : عرض علي مالك، عن يحيى بن سعيد قالت عائشة: وكان عامر بن فهيرة يقول:

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 573 ]

                                                                                                                                                                                                                              لقد رأيت الموت قبل ذوقه إن الجبان حتفه من فوقه
                                                                                                                                                                                                                              كالثور يحمي جلده بروقه

                                                                                                                                                                                                                              وهذا لعمرو اللخمي أخي عمرو بن عبد الملك ذكره المرزباني، وفيه رد لقول أبي عمر: لم يذكره مالك عن يحيى بن سعيد ، قال أبو عمر: ورواه ابن عيينة وإسحاق، عن هشام، عن أبيه عنها، فجعل الداخل على أبي بكر وبلال وعامر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا عائشة. وفيه: فقال: "اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك دعاك لأهل مكة، وأنا عبدك ورسولك أدعوك لأهل المدينة بمثل ما دعاك إبراهيم لأهل مكة، اللهم بارك لنا في مدينتنا" الحديث، وفيه: "وانقل وباءها إلى خم والجحفة".

                                                                                                                                                                                                                              وفي لفظ ابن إسحاق: "وانقل وباءها إلى مهيعة".

                                                                                                                                                                                                                              قلت: والذي في "سيرة ابن إسحاق" عن هشام كما في البخاري أولا.

                                                                                                                                                                                                                              قال: وفي رواية ابن أبي الزناد ، عن موسى بن عقبة ، عن سالم، عن أبيه: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "رأيت في المنام امرأة سوداء ثائرة الشعر [ ص: 574 ] تفلة أخرجت من المدينة فأسكنت مهيعة، فأولتها وباء المدينة ينقله الله إلى مهيعة" وذكر ابن الكلبي أن العماليق أخرجوا بني (عبيل) وهم إخوة عاد من يثرب، فنزلوا الجحفة، وكان اسمها مهيعة، فجاءهم سيل فأجحفهم، فسميت الجحفة.

                                                                                                                                                                                                                              وتعليق ابن زريع وصله أبو نعيم فقال: حدثنا أبو علي الصواف، ثنا إبراهيم بن هشام، ثنا أمية بن بسطام، ثنا يزيد بن زريع ، ثنا روح بلفظ: سمعت عمر وهو يقول: اللهم قتلا في سبيلك، ووفاة في بلد نبيك، قال: قلت: وأنى يكون لك هذا؟ قال: يأتي به الله جل وعلا إذا شاء. وقال الإسماعيلي: أخبرنا إبراهيم بن هاشم، ثنا أمية بن بسطام، نا يزيد بن زريع ، ثنا روح بن القاسم به.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 575 ] وتعليق هشام وصله ابن سعد في "طبقاته": أخبرنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه، عن حفصة، فذكره كما ذكره أبو نعيم قبل، قال: وأخبرنا عبد الله بن جعفر الرقي، حدثنا عبد الله بن عمرو ، عن عبد الملك بن عمير ، عن أبي بردة، عن أبيه قال: رأى عوف بن مالك زمن أبي بكر رؤيا، فيها: وأن عمر شهيد مستشهد فقال عمر في خلافته لما قصها عليه ثانيا أنى لي بالشهادة وأنا بين ظهراني جزيرة العرب; لست أغزو والناس حولي، ثم قال: ويلي! ويلي! يأتي بها الله إن شاء الله -عز وجل-.

                                                                                                                                                                                                                              إذا تقرر ذلك فالكلام على ذلك من أوجه:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ("روضة من رياض الجنة") قد أسلفنا أنه يحتمل أن يكون حقيقة، وأن يكون مجازا، وجه الأول: أن يكون الموضع الذي بين المنبر والقبر يوم القيامة في الجنة روضة، يؤيده قوله تعالى عن أهل الجنة: وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء [الزمر: 74] فدلت أن الجنة تكون في الأرض يوم القيامة.

                                                                                                                                                                                                                              ووجه الثاني: أن يكون معناه أن من صلى فيما بين القبر والمنبر فقد استوجب روضة في الجنة يجازى بها يوم القيامة على قصده وصلاته في [ ص: 576 ] هذا الموضع كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "ارتعوا في رياض الجنة" يعني: حلق الذكر والعلم، لما كانت مؤدية إلى الجنة، ويكون معناه التحريض على [ ص: 577 ] زيارة قبره - صلى الله عليه وسلم - والصلاة في مسجده، وكذلك يدل قوله: "صلاة في [ ص: 578 ] مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه" على الحض والندب على قصده والصلاة فيه والزيارة له، وقد بسطنا القول في ذلك في فضل ما بين القبر والمنبر فراجعه منه.

                                                                                                                                                                                                                              الثاني: قول عمر: (اللهم اجعل موتي في بلد رسولك) احتج به من فضل المدينة، وقالوا: لو علم عمر بلدة أفضل من المدينة لدعا ربه أن يجعل [ ص: 579 ] موته وقبره فيها، وكان مما استدل به على فضلها أن الله تعالى لما اختارها لنبيه علم أنه لم يختر له إلا أفضل البقاع.

                                                                                                                                                                                                                              وقد جاء أن ابن آدم إنما يدفن في التربة التي خلق منها، وقد سلف ذلك.

                                                                                                                                                                                                                              الثالث: حديث عائشة ووعك أبي بكر وبلال وإنشادهما في ذلك، فإن الله تعالى لما ابتلى نبيه بالهجرة وفراق الوطن ابتلى أصحابه بما يكرهون من الأمراض التي تؤلمهم، فتكلم كل إنسان حسب علمه ويقينه بعواقب الأمور فتعزى الصديق عند أخذ الحمى له بما ينزل به من الموت في صباحه ومسائه، ورأى أن ذلك شامل للخلق، فلذلك قال:


                                                                                                                                                                                                                              كل امرئ مصبح في أهله

                                                                                                                                                                                                                              يعني: تصبحه الآفات وتمسيه. وأما بلال فإنه تمنى الرجوع إلى مكة وطنه الذي اعتاده ودامت فيه صحته، فبان فضل الصديق وعلمه بسرعة فناء الدنيا حتى مثل الموت بشراك نعله.

                                                                                                                                                                                                                              فلما رأى - عليه السلام - ما نزل بأصحابه من الحمى والوباء خشي منهم كراهية البلد; لما في النفوس من استثقال ما تكرهه، فدعا ربه تعالى في رفع الوباء عنهم، وأن يحبب إليهم المدينة كحبهم مكة أو أشد، فدل ذلك أن أسباب التحبيب والتكرمة بيد الله تعالى وهبة منه يهبها لمن يشاء، وفي هذا حجة واضحة على من كذب بالقدر؛ إذ الذي ملك النفوس فيحبب إليها ما أحب ويكره إليها [ ص: 580 ] ما أكره هو الرب جل جلاله، فأجاب الله دعوة نبيه، فأحبوها حبا دام في نفوسهم حتى ماتوا عليه، وفيه رد على الصوفية إذ قالوا: إن الولي لا تتم ولايته إلا إذا تم له الرضى بجميع ما نزل به، ولا يدعو الله في كشف ذلك عنه، فإن دعا فليس في الولاية كاملا. وقد أزروا في قولهم هذا بنبيه وأصحابه، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل به شيء يكثر عليه الرقى والدعاء في كشفه.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه: أن الله تعالى أباح للمؤمن أن يسأل ربه صحة جسمه، وذهاب الآفات عنه إذا نزلت به، كسؤاله إياه في الرزق والنصر، وليس في دعاء المؤمن ورغبته في ذلك إلى الله لوم ولا قدح في دينه، وكان من دعائه - صلى الله عليه وسلم - كثيرا "وقوتي في سبيلك".

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 581 ] قال القاضي في "معونته": لا يجوز أن يسأل الشارع ربه أن يحبب إليه الأدون دون الأعلى، ودعاؤه بالبركة في الصاع والمد عبر به عن الطعام الذي يكال بهما.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: ("وانقل حماها إلى الجحفة") لأنها كانت يومئذ دار شرك، وكان - صلى الله عليه وسلم - كثيرا ما يدعو على من لم يجبه إلى الإسلام، إذا خاف منه معونة أهل الكفر، ويسأل الله أن يبتليهم بما يشغلهم عنه، وقد دعا على قومه أهل مكة حين يئس منهم فقال: "اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف" ودعا على أهل الجحفة بالحمى؛ ليشغلهم بها فلم تزل الجحفة من يومئذ أكثر بلاد الله حمى، وإنه ليتقى شرب الماء من عينها التي يقال لها: عين خم، فقل من شرب منه إلا حم، وهو متغير الطعم. وقال الخطابي: كان أهل الجحفة إذ ذاك يهودا. وقيل: إنه لم يبق أحد من أهلها حينئذ إلا أخذته الحمى.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 582 ] قلت: ويحتمل أن يكون هذا هو السر في الطاعون لا يدخل المدينة; لأنه وباء عند الأطباء وغيرهم، والشارع دعا بنقل الوباء عنها، فأجاب الله دعاءه إلى آخر الأبد.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه: حجة على بعض المعتزلة القائلين ألا فائدة في الدعاء مع سابق القدر.

                                                                                                                                                                                                                              والبيتان المذكوران من إنشاد بلال، ذكر أسامة بن مرشد في كتابه "التمام في تصريف الأحلام" أنهما لبكر بن غالب بن عامر بن الحارث بن مضاض الجرهمي عندما نفتهم خزاعة عن مكة، قال: ورويا لغيره.

                                                                                                                                                                                                                              وقولها: (يرفع عقيرته) أي: صوته إذا تغنى أو قرأ. ومعنى أقلع: زال، وأصل ذلك عند العرب أن رجلا قطعت إحدى رجليه فرفعها ووضعها على الأخرى وصرخ بأعلى صوته، فقيل لكل رافع صوته: قد رفع عقيرته. وعن أبي زيد يقال: رفع عقيرته: إذا قرأ أو غنى، ولا يقال في غير ذلك، ذكره في "الموعب" وفي "التهذيب" للأزهري: أصله أن رجلا أصيب عضو من أعضائه، وله إبل اعتادت حداه، فانتشرت عليه إبله، فرفع صوته بالأنين; لما [ ص: 583 ] أصابه من العقر في بدنه، فسمعت به إبله فحسبته يحدو بها، فاجتمعت إليه، فقيل لكل من رفع (عقيرته) بالغناء: قد رفع عقيرته. وفي "المحكم": عقيرة الرجل: صوته إذا غنى أو قرأ أو بكى. ومعنى (وعك): حم. قال ابن سيده: رجل وعك ووعك: موعوك، وهذه الصيغة على توهم فعل كألم، أو على النسب كطعم، والوعك: الألم يجده الإنسان من شدة التعب. وفي "الجامع": وعك: إذا أخذته الحمى، وأخذته وعكة يراد ذلك، والواعك الشديد من الحمى، وقد وعكته الحمى تعكه إذا دكته، وفي "المجمل": الوعك: الحمى. وقيل: نغث الحمى.

                                                                                                                                                                                                                              والإذخر والجليل: نبتان بمكة. وقال بعضهم: شجرتان، وأنكر عليه، وإنما هما نبتان. وشامة وطفيل: جبلان بها.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الفاكهاني: بينهما وبين مكة نحو ثلاثين ميلا.

                                                                                                                                                                                                                              قال الخطابي: وكنت مرة أحسبهما جبلين حتى أنبئت أنهما عينان، والجليل - بجيم مفتوحة ثم لام مكسورة ثم مثناة تحت ثم لام، واحدته جليلة. قال أبو نصر: أهل الحجاز يسمون الشام: الجليل، وهو شجر ضعيف.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 584 ] و(مياه): جمع ماء وهو بالياء في جمعه، ومجيئه دليل على أن الهمزة في ماء مبدلة من هاء.

                                                                                                                                                                                                                              و(شامة) بشين معجمة ثم ألف ثم ميم كذا ذكره أبو عبيد، وقيده ابن الأثير والصنعاني بباء موحدة بعد الألف.

                                                                                                                                                                                                                              و(طفيل) بفتح الطاء المهملة ثم فاء مكسورة ثم مثناة تحت قيل: جبل من حدود هرشى، يشرف هو وشامة على مجنة، ومجنة على بريد من مكة. وقال ابن فارس: طفيل موضع، وتمنى بلال رجوعه إلى مكة لما استثقل حمى المدينة ووباءها. والوباء بالهمز: الموت الذريع، قال في "الصحاح": يمد ويقصر: مرض عام.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن الأثير: هو يمد ويقصر ويهمز الطاعون والمرض العام.

                                                                                                                                                                                                                              وفي "التمهيد" قيل: إن أحدهما بجدة.

                                                                                                                                                                                                                              وفي "المحكم" و"الجامع" و"المجمل": شامة وطفيل: موضعان، ويقال: وبدل الطاء بالقاف.

                                                                                                                                                                                                                              ومجنة -بفتح أوله وثانيه ثم نون مشددة ثم هاء بعدها- ماء عند عكاظ على أميال يسيرة من مكة بناحية مر الظهران. وقال ابن التين: سوق هجر بقرب مكة. قال أبو الفتح: يحتمل أن تسمى مجنة ببساتين [ ص: 585 ] تتصل بها، وهي الجنان وأن تكون فعلة من مجن يمجن، سميت بذلك; لأن ضربا من المجون كان بها. وحكى صاحب "المطالع" كسر الميم أيضا، وقال الأزرقي: هي على بريد من مكة.

                                                                                                                                                                                                                              وقولها: (بطحان تجري نجلا) بطحان: اسم للمكان المنبطح، وهو المستوي المتسع، وبطحان بضم أوله عند المحدثين، وبفتحها عند أهل اللغة، ثم بطاء مكسورة، قال البكري لا يجوز غيره، وهو: واد بالمدينة. و(تجري نجلا): يريد واسعا، تقول العرب: استنجل الوادي: إذا اتسع جريه، ومنه العين النجلاء: الواسعة، وطعنة نجلاء أي: واسعة، وفي البخاري: ماء آجنا، وقيل إن النجل: النز حين يظهر.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن التين: ضبط في بعض المصنفات بفتح الجيم، وفي بعضها بالكسر، والصواب عند أهل اللغة سكون الجيم، والآجن: المتغير الريح، يقال: منه أجن الماء يأجن ويأجن، وأجن -بالكسر- يأجن.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه من المعاني:

                                                                                                                                                                                                                              جواز هذا النوع من الغناء، وهو نشيد الأعراب للشعر بصوت رفيع، وفي المسألة مذاهب: ذهب أبو حنيفة ومالك وأحمد وعكرمة والشعبي والنخعي وحماد والثوري وجماعة أهل الكوفة إلى تحريم الغناء، وذهب آخرون إلى كراهته، نقل ذلك عن ابن عباس ، ونص عليه الشافعي وجماعة من أصحابه، وحكي ذلك عن مالك وأحمد، وذهب [ ص: 586 ] آخرون إلى إباحته -لكن بغير هذه الهيئة التي تعمل الآن- فمن الصحابة عمر، ذكره ابن عبد البر، وعثمان ذكره الماوردي، وعبد الرحمن بن عوف ذكره ابن أبي شيبة، وسعد بن أبي وقاص وابن عمر ذكرهما ابن قتيبة، وأبو مسعود البدري وأسامة بن زيد وبلال وخوات بن جبير ذكرهم البيهقي، وعبد الله بن الأرقم ذكره أبو عمر، وجعفر بن أبي طالب ذكره السهروردي في "عوارفه" والبراء بن مالك ذكره أبو نعيم ، وابن الزبير ذكره صاحب "القوت" وابن جعفر [ ص: 587 ] ومعاوية وعمرو بن العاص والنعمان بن بشير وحسان بن ثابت وخارجة بن زيد وعبد الرحمن بن حسان ذكرهم أبو الفرج في "تاريخه" وقرظة بن كعب ذكره الهروي، ورباح بن المغترف.

                                                                                                                                                                                                                              ومن التابعين جماعة ذكرهم ابن طاهر وابن قتيبة وأبو الفرج.

                                                                                                                                                                                                                              وذهبت طائفة إلى التفرقة بين الغناء القليل والكثير، وطائفة إلى التفرقة بين الرجال والنساء، فحرموه من الأجانب وجوزوه من غيرهم، وقد أوضحت ذلك بزيادة في شرحي لـ"المنهاج" في الشهادات، فراجعه منه.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن حزم: من نوى به ترويح القلب ليقوى به على الطاعة فهو مطيع، ومن نوى به التقوية على المعصية فهو عاص، وإن لم ينو شيئا فهو لغو معفو عنه. وقال الأستاذ أبو منصور: إذا سلم من تضييع فرض ولم يترك حفظ حرمة المشايخ به فهو محمود وربما أجر.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الطبري: وهذا النوع من الغناء هو المطلق المباح بإجماع الحجة، وهو الذي غني به في بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم ينه عنه، وهو الذي كان السلف يجيزون ويسمعون، وروى سفيان بن عيينة، عن هشام بن عروة ، عن أبيه قال: نعم زاد الراكب الغناء نصبا. وروى [ ص: 588 ] ابن وهب عن أسامة وعبد الله ابني زيد بن أسلم ، عن أبيهما زيد، عن أبيه أن عمر قال: الغناء من زاد الراكب. وروى ابن شهاب ، عن عمر بن عبد العزيز أن محمد بن نوفل أخبره أنه رأى أسامة بن زيد واضعا إحدى رجليه على الأخرى يتغنى النصب.

                                                                                                                                                                                                                              قال الطبري: وإنما يسميه العرب: النصب: لنصب المتغني به صوته، وهو الإسناد له بصوت رفيع. وروى ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن أبيه أنه سمع عبد الله بن الأرقم رافعا عقيرته يتغنى، قال عبد الله بن عتبة: والله ما رأيت رجلا أخشى لله من عبد الله بن الأرقم.

                                                                                                                                                                                                                              وقد سلف شيء من ذلك في باب سنة العيدين لأهل الإسلام، وسيأتي ما يحل منه في الاستئذان في (باب: كل لهو باطل إذا شغله عن الطاعة) إن شاء الله.

                                                                                                                                                                                                                              وحديث: "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه، خير له من أن [ ص: 589 ] يمتلئ شعرا" فمؤول إما على الهجو، وإما على الغلبة عليه.

                                                                                                                                                                                                                              قال لبيد بن ربيعة: ما قلت بيت شعر منذ أسلمت.

                                                                                                                                                                                                                              وفي حديث عائشة من الفقه تمثل الصالحين والفضلاء بالشعر.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه: عيادة الجلة السادة لعبيدهم; لأن بلالا أعتقه الصديق وكانت عائشة تزوره، وكان ذلك قبل نزول الحجاب.

                                                                                                                                                                                                                              آخر الحج بحمد الله ومنه.



                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية