الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              مسألة : في وجوب الاجتهاد على المجتهد وتحريم التقليد عليه

              . وقد اتفقوا على أنه إذا فرغ من الاجتهاد وغلب على ظنه حكم فلا يجوز له أن يقلد مخالفه ويعمل بنظر غيره ويترك نظر نفسه ، أما إذا لم يجتهد بعد ولم ينظر فإن كان عاجزا عن الاجتهاد كالعامي فله التقليد ، وهذا ليس مجتهدا لكن ربما يكون متمكنا من الاجتهاد في بعض الأمور وعاجزا عن البعض إلا بتحصيل علم على سبيل الابتداء ، كعلم النحو مثلا في مسألة نحوية وعلم صفات الرجال وأحوالهم في مسألة خبرية وقع النظر فيها في صحة الإسناد ; فهذا من حيث حصل بعض العلوم واستقل بها لا يشبه العامي ، ومن حيث إنه لم يحصل هذا العلم فهو كالعامي ، فيلحق بالعامي أو بالعالم ؟ فيه نظر .

              والأشهر والأشبه أنه كالعامي ، وإنما المجتهد هو الذي صارت العلوم عنده بالقوة القريبة ، أما إذا احتاج إلى تعب كثير في التعليم بعد فهو في ذلك الفن عاجز ، وكما يمكنه تحصيله فالعامي أيضا يمكنه التعلم ولا يلزمه بل يجوز له ترك الاجتهاد . وعلى الجملة بين درجة المبتدئ في العلم وبين رتبة الكمال منازل واقعة بين [ ص: 369 ] طرفين ، وللنظر فيها مجال ، وإنما كلامنا الآن في المجتهد .

              لو بحث عن مسألة ونظر في الأدلة لاستقل بها ولا يفتقر إلى تعلم علم من غيره فهذا هو المجتهد ، فهل يجب عليه الاجتهاد أم يجوز له أن يقلد غيره ؟ هذا مما اختلفوا فيه ، فذهب قوم إلى أن الإجماع قد حصل على أن من وراء الصحابة لا يجوز تقليدهم وقال قوم : من وراء الصحابة والتابعين وكيف يصح دعوى الإجماع ؟ وممن قال بتقليد العالم أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وسفيان الثوري وقال محمد بن الحسن : يقلد العالم الأعلم ولا يقلد من هو دونه أو مثله

              وذهب الأكثرون من أهل العراق إلى جواز تقليد العالم العالم فيما يفتي وفيما يخصه . وقال قوم : يجوز فيما يخصه دون ما يفتي وخصص قوم من جملة ما يخصه ما يفوت وقته لو اشتغل بالاجتهاد واختار القاضي منع تقليد العالم للصحابة ولمن بعدهم ، وهو الأظهر عندنا والمسألة ظنية اجتهادية .

              والذي يدل عليه أن تقليد من لا تثبت عصمته ولا يعلم بالحقيقة إصابته بل يجوز خطؤه وتلبيسه حكم شرعي لا يثبت إلا بنص أو قياس على منصوص ولا نص ولا منصوص إلا العامي والمجتهد ، إذ للمجتهد أن يأخذ بنظر نفسه وإن لم يتحقق وللعامي أن يأخذ بقوله ; أما المجتهد إنما يجوز له الحكم بظنه لعجزه عن العلم فالضرورة دعت إليه في كل مسألة ليس فيها دليل قاطع .

              أما العامي فإنما جوز له تقليد غيره للعجز عن تحصيل العلم والظن بنفسه ، والمجتهد غير عاجز فلا يكون في معنى العاجز فينبغي أن يطلب الحق بنفسه فإنه يجوز الخطأ على العالم بوضع الاجتهاد في غير محله والمبادرة قبل استتمام الاجتهاد والغفلة عن دليل قاطع وهو قادر على معرفة جميع ذلك ليتوصل في بعضها إلى اليقين وفي بعضها إلى الظن ، فكيف ينبني الأمر على عماية كالعميان وهو بصير بنفسه ؟ وهو ليس يقدر إلا على تحصيل ظن وظن غيره كظنه لا سيما عندكم وقد صوبتم كل مجتهد .

              قلنا : مع هذا إذا حصل ظنه لم يجز له اتباع ظن غيره فكان ظنه أصلا وظن غيره بدلا ، يدل عليه أنه لم يجز العدول إليه مع وجود المبدل فلا يجوز مع القدرة على المبدل كما في سائر الأبدال والمبدلات إلا إن ورد نص بالتخيير فترتفع البدلية أو يرد نص بأنه بدل عند الوجود لا عند العدم ، كبنت مخاض وابن لبون في خمس وعشرين من الإبل ، فإن وجوب بنت مخاض يمنع من قبول ابن لبون والقدرة على شرائه لا تمنع منه .

              فإن قيل : حصرتم طريق معرفة الحق في الإلحاق ثم قطعتم طريق الإلحاق ، ولا نسلم أن مأخذه الإلحاق بل عمومات تشمل العامي والعالم ، كقوله تعالى : { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } وما أراد من لا يعلم شيئا أصلا فإن ذاك مجنون أو صبي بل من لا يعلم تلك المسألة ، وكذلك قوله تعالى : { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } وهم العلماء .

              قلنا : أما قوله تعالى : { فاسألوا أهل الذكر } فإنه لا حجة فيه من وجهين :

              أحدهما : أن المراد به أمر العوام بسؤال العلماء إذ ينبغي أن يتميز السائل عن المسئول فمن هو من أهل العلم مسئول وليس بسائل ، ولا يخرج عن كونه من أهل العلم بأن لا تكون المسألة حاضرة في ذهنه إذ هو متمكن من معرفتها من غير أن يتعلم من غيره .

              الثاني : أن معناه : سلوا لتعلموا ، أي سلوا عن الدليل لتحصيل العلم ، كما يقال : كل لتشبع ، واشرب لتروى .

              [ ص: 370 ] وأما أولو الأمر فإنما أراد بهم الولاة إذ أوجب طاعتهم كطاعة الله ورسوله ولا يجب على المجتهد اتباع المجتهد ، فإن كان المراد بأولي الأمر الولاة فالطاعة على الرعية ، وإن كان هم العلماء فالطاعة على العوام ولا نفهم غير ذلك .

              ثم نقول : يعارض هذه العمومات عمومات أقوى منها يمكن التمسك بها ابتداء في المسألة ، كقوله تعالى : { فاعتبروا يا أولي الأبصار } وقوله تعالى : { لعلمه الذين يستنبطونه منهم } وقوله : { أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها } وقوله { وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله } وقوله { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } فهذا كله أمر بالتدبر والاستنباط والاعتبار ، وليس خطابا مع العوام ، فلم يبق مخاطب إلا العلماء والمقلد تارك للتدبر والاعتبار والاستنباط .

              وكذلك قوله تعالى : { اتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم } و { لا تتبعوا من دونه أولياء } وهذا بظاهره يوجب الرجوع إلى الكتاب فقط لكن دل الكتاب على اتباع السنة والسنة على الإجماع والإجماع على القياس وصار جميع ذلك منزلا فهو المتبع دون أقوال العباد . فهذه ظواهر قوية والمسألة ظنية يقوى فيها التمسك بأمثالها ، ويعتضد ذلك بفعل الصحابة فإنهم تشاوروا في ميراث الجد والعول والمفوضة ومسائل كثيرة وحكم كل واحد منهم بظن نفسه ولم يقلد غيره .

              فإن قيل : لم ينقل عن طلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف وهم أهل الشورى نظر في الأحكام مع ظهور الخلاف ، والأظهر أنهم أخذوا بقول غيرهم .

              قلنا : كانوا لا يفتون اكتفاء بمن عداهم في الفتوى ، أما عملهم في حق أنفسهم لم يكن إلا بما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم والكتاب وعرفوه ، فإن وقعت واقعة لم يعرفوا دليلها شاوروا غيرهم لتعرف الدليل لا للتقليد .

              فإن قيل : فما تقولون في تقليد الأعلم ؟ قلنا : الواجب أن ينظر أولا فإن غلب على ظنه ما وافق الأعلم فذاك ، وإن غلب على ظنه خلافه فما ينفع كونه أعلم وقد صار رأيه مزيفا عنده ، والخطأ جائز على الأعلم وظنه أقوى في نفسه من ظن غيره ، وله أن يأخذ بظن نفسه وفاقا ولم يلزمه تقليده ; لكونه أعلم فينبغي أن لا يجوز تقليده ، ويدل عليه إجماع الصحابة رضي الله عنهم على تسويغ الخلاف لابن عباس وابن عمر وابن الزبير وزيد بن ثابت وأبي سلمة بن عبد الرحمن وغيرهم من أحداث الصحابة لأكابر الصحابة ولأبي بكر ولعمر رضي الله عن جميعهم . فإن قيل : فهل من فرق بين ما يخصه وبين ما يفتي به ؟ قلنا : يجوز له أن ينقل للمستفتي مذهب الشافعي وأبي حنيفة لكن لا يفتي من يستفتيه بتقليد غيره ، إذ لو جاز ذلك لجاز الفتوى للعوام

              وأما ما يخصه إذا ضاق الوقت وكان في البحث تفويت فهذا هل يلحقه بالعاجز في جواز التقليد ؟ فيه نظر فقهي ذكرناه في مسألة العدول إلى التيمم عند ضيق الوقت وتناوب جماعة على بئر ماء ، فهذه مسألة محتملة . والله أعلم .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية