الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
151 - وعن عائشة رضي الله عنها ، قالت : تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات وقرأ إلى : وما يذكر إلا أولو الألباب . قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فإذا رأيت - وعند مسلم : رأيتم - الذين يتبعون ما تشابه منه ، فأولئك الذين سماهم الله ، فاحذروهم " . متفق عليه .

التالي السابق


151 - ( وعن عائشة رضي الله عنها ، قالت : تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هو الذي أنزل عليك الكتاب ، أي : القرآن ( منه ) : أي بعضه ( آيات محكمات ) : وهي ما أمن من احتمال التأويل ، كالنصوص الدالة على ذاته وصفاته ( وقرأ إلى : وما يذكر إلا أولو الألباب يحتمل الاختصار في الذكر من عائشة ، أو ممن دونها ، والتتمة : هن أي تلك الآيات : أم الكتاب أي أصله ، وأخر أي آيات أخر متشابهات المتشابه : ما بلغ في الخفاء غايته ولا يرجى معرفته كقوله : يد الله فوق أيديهم ، فأما الذين في قلوبهم زيغ أي ميل عن اتباع الحق إلى الباطل فيتبعون ما تشابه منه أي يبحثون فيه ابتغاء الفتنة ، أي : لطلب الفتنة ، يعني إيقاع الشك والخصومة بين المسلمين وابتغاء تأويله لاستنباط معانيه وما يعلم تأويله إلا الله المذهب الصحيح الوقف عليه والراسخون مبتدأ أي الثابتون في العلم ، أي : في علم الدين يقولون آمنا به ، أي : بالمتشابه ووكلنا علمه إلى عالمه ، كما قال الإمام مالك لما سئل عن الاستواء : الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة . كل أي من المحكم والمتشابه من عند ربنا ، أي : نزل من عنده وهو حق وصواب وحكمة وقوع المتشابه فيه إعلام ( للعقول ) - بقصورها لتستسلم لبارئها وتعترف بعجزها وتسلم من الغرور والعجب والتكبر والتعزز وما يذكر ، أي : يتعظ وينتفع بما فيه من الموعظة إلا أولو الألباب ، أي : أصحاب العقول السليمة من علل الخواطر السقيمة . ( قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( فإذا رأيت ) : بفتح التاء على الخطاب العام ، أي : أيها الرائي ، وحكي بالكسر على أن الخطاب لعائشة وإن كان المراد عاما ( وعند مسلم : رأيتم ) : وهو يؤيد الأول ( الذين يتبعون ما تشابه منه ؟ ) : يحتمل أن يكون المراد بهم الذين يقتصرون على تتبع المتشابه ، ويحتمل الإطلاق سدا للباب ( فأولئك ) : بفتح الكاف وقيل بالكسر ( الذين سماهم الله ) : أهل الزيغ أو زائغين لقوله : في قلوبهم زيغ ( فاحذروهم ) ، أي : لا تجالسوهم ولا تكالموهم أيها المسلمون .

[ ص: 237 ] قال الطيبي : وقع في صحيح البخاري وفي بعض نسخ المصابيح : رأيت بفتح التاء على الخطاب العام ، ولهذا جمعه في : فاحذروهم وفي بعضها بكسر التاء على خطاب أم المؤمنين عائشة بيانا لشرفها وغزارة علمها كما يقال : يا فلان افعلوا كيت وكيت لرئيس القوم إظهارا لشرفه وتقدمه ، ومنه قوله تعالى : يا أيها النبي إذا طلقتم النساء اهـ . وتبعه ابن حجر وفيه : أن هذا التحقيق يستدعي حضور قوم معها ، ويمكن أن يحمل خطاب المذكر الجمع على تعظيمها تنزيلا لها منزلة الرجال لكمال عقلها كقوله تعالى : وكانت من القانتين والله أعلم .

قال النووي : حذر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن اختلاف يؤدي إلى الكفر والبدعة كاختلاف اليهود والنصارى ، وذلك مثل الاختلاف في نفس القرآن ، أو في معنى لا يسوغ الاجتهاد فيه ، أو فيما يوقع في شك وشبهة وفتنة وخصومة ، وأما الاختلاف لاستنباط فروع في الدين منه ، ومناظرة أهل العلم فيه على سبيل الفائدة وإظهار الحق فليس بمنهي عنه بل هو مأمور به وفضيلته ظاهرة ، وقد أجمع المسلمون عليه من عهد الصحابة إلى الآن اهـ . وقال ابن حجر : هذا بناء على ما عليه الجمهور من الوقف على الجلالة ليفيد أن علم المتشابه على حقيقة ما هو عليه مختص بالله تعالى ، ولا ينافي هذا جعل ابن عباس والآخرين الوقف على العلم المفيد أن الراسخين فيه يعلمون تأويل المتشابه ؟ لأنهم وإن علموه لم يدركوا حقيقته المرادة لله تعالى منه ، وإنما علموه بصرف ظاهره عن الله تعالى لاستحالته بلا خلاف بين الفريقين ، ومن ثم اتفق السلف والخلف على تنزيه الله تعالى عن ظواهر المتشابهات المستحيلة على الله تعالى ، ثم اختلفوا بعد فأمسك أكثر السلف عن الخوض في تعيين المراد من ذلك المتشابه ، وفوضوا علمه إلى الله تعالى ، وهذا أسلم لأن من أول لم يأمن من أن يذكر معنى غير مراد له تعالى فيقع في ورطة التعيين وخطره ، وخاض أكثر الخلف في التأويل ، ولكن غير جازمين بأن هذا مراد الله تعالى من تلك النصوص ، وإنما قصدوا بذلك صرف العامة عن اعتقاد ظواهر المتشابه والرد على المبتدعة المتمسكين بأكثر تلك الظواهر الموافقة لاعتقاداتهم الباطلة . وقال الشافعي : لا يحل تفسير المتشابه إلا بسند عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو خبر عن أحد من الصحابة ، أو إجماع العلماء . ( متفق عليه ) .




الخدمات العلمية