الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              3194 [ 1776 ] وعن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع سارقا في مجن قيمته ثلاثة دراهم.

                                                                                              رواه أحمد (2 \ 80) والبخاري (6797) ومسلم (1686) (6) وأبو داود (4386) والنسائي (8 \ 77) وابن ماجه (2584). [ ص: 70 ]

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              [ ص: 70 ] (23)

                                                                                              كتاب الحدود

                                                                                              هي: جمع حد، وأصل الحد: المنع حيث وقع وإن اختلفت أبنيته وصيغه. وسميت العقوبات المترتبة على الجنايات: حدودا; لأنها تمنع من عود الجاني ومن فعل المعتبر بها.

                                                                                              (1) ومن باب حد السرقة وما يقطع فيه

                                                                                              السرقة والسرق - بكسر الراء فيهما -: هو اسم الشيء المسروق، والمصدر من (سرق يسرق): سرقا - بفتح الراء - كذا قاله الجوهري وأصل هذا اللفظ إنما هو: أخذ الشيء في خفية. ومنه: استرق السمع. وسارقه النظر. قال ابن عرفة : [ ص: 71 ] السارق عند العرب هو: من جاء مستترا إلى حرز فأخذ منه ما ليس له، فإن أخذ من ظاهر فهو مختلس، ومستلب، ومنتهب، ومحترس؛ فإن منع مما في يده فهو غاصب له.

                                                                                              قلت: وهذا الذي قاله ابن عرفة هو السارق في عرف الشرع.

                                                                                              ويستدعي النظر في هذا الباب النظر في السارق، والمسروق منه، والشيء المسروق، وحكم السارق. ولا خلاف في أن السارق إذا كملت شروطه يقطع دون الغاصب، والمختلس، والخائن. وفيمن يستعير المتاع فيجحده خلاف شاذ، حكي عن أحمد ، وإسحاق ، فقالا: يقطع، والسلف والخلف على خلافهما. وسيأتي القول في حديث المخزومية.

                                                                                              وإنما خص الشرع القطع بالسارق; لأن أخذ الشيء مجاهرة يمكن أن يسترجع منه غالبا، والخائن مكنه رب الشيء منه، وكان متمكنا من الاستيثاق بالبينة، وكذلك المعير، ولا يمكن شيء من ذلك في السرقة، فبالغ الشرع في الزجر عنها - لما انفردت به عن غيرها - بقطع اليد.

                                                                                              وقد أجمع المسلمون: على أن اليمنى [تقطع إذا وجدت; لأنها الأصل في محاولة كل الأعمال].

                                                                                              و(قول عائشة - رضي الله عنها -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] يقطع في ربع دينار [ ص: 72 ] فصاعدا ) وفي الطريق الأخرى: ( لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا ) هذا تقرير لقاعدة ما تقطع فيه يد السارق من النبي - صلى الله عليه وسلم – وبلفظه، لكنه ظاهر فيما إذا كان المسروق ذهبا، فلو كان غير ذهب، وكان فضة، فهل يعتبر قيمتها بالذهب; فإن سويت ربع دينار فصاعدا قطع فيها، أو إنما تعتبر بنفسها; فإذا بلغت ثلاثة دراهم وزنا قطع فيها، فيكون كل واحد من الذهب والفضة أصلا معتبرا بنفسه; قولان:

                                                                                              الأول: للشافعي ، والأوزاعي ، والليث بن سعد ، وأبي ثور ، وهو مروي عن عمر ، وعلي ، وعثمان ، وبه قالت عائشة ، وعمر بن عبد العزيز . والثاني: لمالك وأصحابه.

                                                                                              وقال أحمد وإسحاق : إن سرق ذهبا فربع دينار، وإن سرق غير الذهب والفضة فكانت قيمته ربع دينار، أو ثلاثة دراهم من الورق، وهذا نحو مما صار إليه مالك في أحد القولين. وفي المشهور: أنه إنما تقوم العروض بالدراهم، كما قال في حديث ابن عمر .

                                                                                              وقال بعض أصحابنا: يقوم بالغالب في موضع السرقة من الذهب والفضة كما تقوم المتلفات، وهو القياس. وهذان القولان ناشئان من حديثي عائشة ، وابن عمر المذكورين في هذا الباب.

                                                                                              وقد نقلت أقوال عن كثير من السلف والعلماء في تحديد نصاب السرقة لم يثبت فيها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث معتمد، ولا لها في الأصول ظاهر مستند; فمنها ما روي عن عمر ، وقال به سليمان بن يسار ، وابن شبرمة وهو: أن الخمس لا تقطع إلا في خمس.

                                                                                              ومنها: [ ص: 73 ] أنها لا تقطع إلا في عشرة دراهم، وبه قال عطاء ، والنعمان ، وصاحباه.

                                                                                              ومنها: أنها تقطع في أربعة دراهم فصاعدا، وهو مروي عن أبي هريرة ، وأبي سعيد .

                                                                                              ومنها: أنها تقطع في درهم فما فوقه، وهو مروي عن عثمان .

                                                                                              ومنها: أنها تقطع في كل ما له قيمة، وروي عن الحسن في أحد أقواله، وهو قول الخوارج وأهل الظاهر [واختاره ابن بنت الشافعي ].

                                                                                              ومنها: أنها لا تقطع في أقل من درهمين، وروي عن الحسن .

                                                                                              ومنها: أنها لا تقطع في أقل من أربعين درهما، أو أربعة دنانير. وروي عن النخعي .

                                                                                              قلت: وهذه كلها أقوال متكافئة، خلية عن الأدلة الواضحة الشافية، ولا يصح ما رواه الحجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا: ( لا تقطع يد السارق في أقل من عشرة دراهم ) لضعف إسناده، ولما يعارضه من قوله في "الصحيح": ( لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا ) ولا حجة لمن احتج بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ( لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده ) لأنه وإن احتمل أن يراد بالبيضة بيضة الحديد، وبالحبل حبل السفن، كما قد قيل فيه: فالأظهر من مساقه: أنه يراد به التقليل، لكن أقل ذلك القليل مقيد بقوله: ( لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار ) وهذا نص، وبقول عائشة : لم تكن يد السارق تقطع في الشيء التافه، خرجه البخاري وغيره. وهذا منها خبر عن عادة الشرع الجارية عندهم، ومعلوم أن الواحدة من بيض الدجاج، والحبل الذي يشد [ ص: 74 ] به المتاع والرحل تافه. وإنما سلك النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث مسلك العرب فيما إذا أغيت في تكثير شيء أو تحقيره، فإنها تذكر في ذلك ما لا يصح وجوده، أو ما يندر وجوده إبلاغا في ذلك، فتقول: لأصعدن بفلان إلى السماء، ولأهبطن به إلى تخوم الثرى. وفلان مناط الثريا. وهو مني مقعد القابلة. ومن بنى لله مسجدا ولو مثل مفحص قطاة بني له بيت في الجنة. ولا يتصور مسجد مثل ذلك. وتصدقن ولو بظلف محرق، وهو مما لا يتصدق به. ومثل هذا كثير في كلامهم، وعادة لا تستنكر في خطابهم.

                                                                                              وقيل في الحديث: إنه إذا سرق البيضة أو الحبل ربما حمله ذلك على أن يسرق ما يقطع فيه، لأنه ربما يجترئ على سرقة غيرهما، فيعتاد ذلك فتقطع يده.




                                                                                              الخدمات العلمية