الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الخامس : أن لا يستكثر من الطعام الحلال وقت الإفطار بحيث يمتلئ جوفه فما من وعاء أبغض إلى الله عز وجل من بطن مليء من حلال .

وكيف يستفاد من الصوم قهر عدو الله وكسر الشهوة إذا تدارك الصائم عند فطره ما فاته ضحوة نهاره وربما يزيد عليه في ألوان الطعام حتى استمرت العادات بأن تدخر جميع الأطعمة لرمضان فيؤكل من الأطعمة فيه ما لا يؤكل في عدة أشهر .

ومعلوم أن مقصود الصوم الخواء وكسر الهوى لتقوى النفس على التقوى وإذا دفعت المعدة من ضحوة نهار إلى العشاء حتى هاجت شهوتها وقويت رغبتها ثم أطعمت من اللذات وأشبعت زادت لذتها وتضاعفت قوتها وانبعث من الشهوات ما عساها كانت راكدة لو تركت على عادتها .

فروح الصوم وسره تضعيف القوى التي هي وسائل الشيطان في العود إلى الشرور ولن يحصل ذلك إلا بالتقليل وهو أن يأكل أكلته التي كان يأكلها كل ليلة لو لم يصم فأما إذا جمع ما كان يأكل ضحوة إلى ما كان يأكل ليلا فلم ينتفع بصومه بل من الآداب أن لا يكثر النوم بالنهار حتى يحس بالجوع والعطش ويستشعر ضعف القوى فيصفو عند ذلك قلبه ويستديم في كل ليلة قدرا من الضعف حتى يخف عليه تهجده وأوراده فعسى الشيطان أن لا يحوم على قلبه فينظر إلى ملكوت السماء .

وليلة القدر عبارة عن الليلة التي ينكشف فيها شيء من الملكوت وهو المراد بقوله تعالى : إنا أنزلناه في ليلة القدر ومن جعل بين قلبه وبين صدره مخلاة من الطعام فهو عنه محجوب ومن أخلى معدته فلا يكفيه ذلك لرفع الحجاب ما لم يخل همته عن غير الله عز وجل وذلك هو الأمر كله ومبدأ جميع ذلك تقليل الطعام وسيأتي له مزيد بيان في كتاب الأطعمة إن شاء الله عز وجل .

التالي السابق


(الخامس : أن لا يستكثر من الحلال وقت الإفطار بحيث يمتلئ ) منه ولفظ القوت ومن فضائل الصوم أن يجتنب من حظوظ هذه الجوارح الشبهات من الأشياء وفضول الحلال ويرفض الشهوات الداعية إلى العادات ولا يفطر إلا على حلال متقللا منه فبذلك يزكو الصيام . أهـ .

(فما من وعاء أبغض إلى الله تعالى من بطن مليء من حلال) وروى أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم من حديث المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه : "ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطنه بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه " ، (وكيف يستفاد من الصوم قهر عدو الله) إبليس (وكسر الشهوة) النفسية (إذا تدارك الصائم عند إفطاره ما فاته ضحوة نهاره) من المآكل والمشارب و (ربما يزيد عليه من ألوان الطعام) في أنواعه كما هو مشاهد للمترفهين (حتى استمرت العادات بأن يدخر جميع الأطعمة لرمضان) وكذلك الأشربة (فيؤكل من الأطعمة فيه) ويستعمل من الأشربة (ما لا يؤكل) ولا يشرب في غيره (في عدة أشهر) كما هو معلوم مشاهد لا سيما بعد عصر المصنف بكثير فقد تجاوزوا في ذلك عن الحدود ولا حول ولا قوة إلا بالله (ومعلوم أن مقصود الصوم الخواء) أي : الجوع (وكسر الشهوة) المفضية إلى تعاطي المخالفات المنهية (لتقوى النفس على التقوى) وتصفو الأخلاق ويتنور الباطن (وإذا دفعت المعدة من ضحوة النهار إلى العشاء حتى هاجت) والتهبت (شهوتها وقويت رغبتها) لتلقى ما يرد عليها (ثم أطعمت من اللذات) المتنوعة من الطعام الفاخر النفيس والشراب المشهى المبرد (وأشبعت زادت لذتها وتضاعفت قوتها وانبعثت من الشهوات) الخفية (ما عساها كانت راكدة) أي : ساكنة مستقرة وفي بعض النسخ راقدة (لو تركت على عادتها) التي كانت عليها (فروح الصوم وسره تضعيف القوى) الشهوانية أي : إماتتها وإبطالها وكسر قوتها (التي هي وسائل الشيطان) وحبائله (في القود) والجذب (إلى الشرور) الحاصلة من تلك الشهوات (ولن يحصل ذلك إلا بالتقليل) من المطعوم والمشروب (وهو أن يأكل أكلته) بالضم ما يؤكل من الطعام (التي كان يأكلها) على عادته (كل ليلة لو لم يصم فأما إذا جمع ما كان يأكل ضحوة إلى ما كان يأكل ليلا فلن ينتفع بصومه) وقال صاحب العوارف : ومن آداب الصوفي في صومه أن يقلل الطعام عن الحد الذي كان يأكله وهو مفطر وإلا إذا جمع الأكلات بأكلة واحدة فقد أدرك ما فوت ومقصود القوم من الصوم قهر النفس ومنعها عن الاتساع وأخذهم من الطعام قدر الصورة لعلمهم أن الاختصار على الضرورة يجذب النفس من [ ص: 249 ] سائر الأفعال والأقوال إلى الضرورة والنفس من طبعها أنها إذا قهرت لله تعالى في شيء واحد على الضرورة تأدى ذلك إلى سائر أحوالها فيصير الأكل ضرورة والنوم ضرورة والقول والفعل ضرورة وهذا باب كبير من أبواب الخير لأهل الله تعالى يجب رعايته وافتقاده ولا يخص بعلم الضرورة وفائدتها وطلبها إلا عبد يريد الله أن يقربه ويدنيه ويصطفيه ويزيده . أهـ .

(بل من الآداب أن لا يكثر النوم بالنهار ) تعللا بظاهر الحديث الذي تقدم ذكره : "نوم الصائم عبادة وصمته تسبيح " (حتى يحس بالجوع والعطش ويستشعر) من نفسه (ضعف القوى) ولا يكون النوم عبادة إلا إذا دفع إليه ضرورة أو قصد به التقوي على قيام الليل وأما إذا نوى به تقصير المسافة كما هو عليه عامة الناس بل وخاصتهم اليوم فلا إلا أن يكون ممن يخالطه الناس كثيرا فيخاف على نفسه من صدور شيء من الجوارح من المخالفات فيختار النوم فيكون حينئذ عبادة (فيصفو عند ذلك قلبه) ويرق لتلقي الأنوار الملكوتية (ويستديم في كل ليلة قدرا من الضعف حتى يخف عليه تهجده وأوراده) وما يستعمله (فعسى الشيطان ألا يحوم على قلبه فينظر في ملكوت السماء) وهو العالم العلوي ويشهد لذلك قول المصنف في موضع آخر إذا صار السالك في سماء الدنيا أمن خاطر الشيطان وعصم منه .

وقال الشيخ شمس الدين بن سودكين : سألت الشيخ الأكبر قدس سره عن معنى هذا الكلام فقال : هنا تحقيق ينبغي أن يتفطن له وذلك أن القول إنما يثبت إذا صار الجسد فوق سماء الدنيا إذا مات الإنسان وانتقلت نفسه وأما إذا كان في عالم الكشف وكذا كشف السموات فإنه فيها بروحانية فقط وخياله متصل وللشيطان موازين يعلم بها أين مقام العبد من ذلك المشهد فيظهر له من مناسبة المقام ما يدخل عليه به الوهم والشبهة فإن كان عند السالك ضعف أخذ منه وتحقق بالجهل ونال الشيطان منه غرضه في ذلك الوقت وإن كان السالك عارفا أو على يد شيخ محقق فإن ثم سلوكا يثبت به ما جاء به الشيطان ويستوفيه ثم يأخذ منه فيصير ذلك المشهد الشيطاني مشهدا عليك ثابتا لا يقدر الشيطان أن يدفعه فيذهب خاسرا خاسئا فيجتهد في التخيل ويدقق الحيلة في أمر آخر يقيم له فيفعل به السالك ذلك الفعل أبدا . أهـ . وإذا لم يحم على قلبه بإدخال الوهم والشبهة نظر عجائب الملكوت العلوي (وليلة القدر) عند أهل الله العارفين (عبارة عن الليلة التي ينكشف) وينجلي (فيها شيء من أسرار الملكوت) الأعلى (وهو المراد بقوله تعالى : إنا أنزلناه في ليلة القدر ) ومن جملة أسرار ذلك العالم تقدير الأشياء على ما هي عليه في جري نظام العالم (ومن جعل بين قلبه وبين صدره مخلاة من الطعام) والشراب (فهو عنه) أي : عن عالم الملكوت (محجوب) ممنوع أي : عن مشاهدته (ومن أخلى معدته) عن الطعام والشراب (فلا يكفيه ذلك) القدر والاقتصار عليه (لرفع الحجاب) الظلماني (ما لم تخل همته عن غير الله عز وجل) بكليتها (وذلك) أي : إخلاء الهمة عما سواه (هو الأمر كله) والشأن الأعظم في وصول السالك (ومبدأ جميع ذلك تقليل الطعام) وإخلاء المعدة عنه (وسيأتي له مزيد بيان في كتاب الأطعمة إن شاء الله تعالى) .

وقد خلط في هذا المقام ناس كثيرون حتى ظنوا أن الجوع غاية مقام السالك ولم ينظروا وراءه ولذلك قال أبو عبد الرحمن السلمي الجوع من مغاليط الصوفية بمعنى أن المراد من السالك قطع الشواغل ولا شك ولا خفاء أن الجوع من جملة الشواغل فإذا أعطيت النفس القوام الذي جعله الشارع نصيبها كان أولى قال ابن سودكين : سمعت الشيخ الأكبر قدس سره يقول : نظرنا في المتروكات وما تركت لأجله مما ارتبط بتركها من ذلك العلم فلم نر للجوع أثرا في مقصد اللطيفة الإنسانية وإنما رأينا أثره يعود على تحصيل الثواب في الآخرة وتوفير اللذة الذوقية على الروح الحيواني وذلك أن الحق سبحانه ما جعل لك من هذه إلا ما فيه القوام مما لا بد لك منه في قوام البنية فإذا طلب الزيادة واللذة والتنعم مما يؤخذ من ذلك النصيب نال إلا أن ههنا نكتة وهو أنه من لبس هذا الثوب مثلا يتنعم به نقص من ذلك من نعيمه في الآخرة وكذلك في أكله وشربه وغير ذلك ومن لبسه بغير هذا القصد وهو لا يتأثر بنعيمه فلا ينقص ذلك من حقه في آخرته وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يهدى إليه الثوب الحسن فيلبسه [ ص: 250 ] وعلامة صاحب هذه الدرجة أنه متى أخرج عن ذلك لا يتأثر فإن كان وإن لنفسه به تعلقا فمثل هذا ينقص نصيبه وهذا في مقام الروح الحيواني فمن جاع وتزهد على أن نصيبه يتضاعف ويتوفر له في الدار الآخرة فهذا صحيح مسلم كما قيل لبعضهم كل يا من لم يأكل واشرب يا من لم يشرب ويعطى كل واحد من مناسبة علمه فأما الطبيعة الروحانية التي تتنعم بالعلوم الإلهية فليس هذا بابها وإنما بابها قطع الشواغل وترك الفضول وتعلق الهمة بالله تعالى وإنما حملهم على الجوع أن تضعف القوى فيقل فضول النفس بهذا السبب وقد رأينا الرجل إذا قوي ترد عليه الموارد الإلهية في شبعه وجوعه وفي خلوته وجلوته فلو كان الجوع شرطا لما صح زواله ولكان الوارد يتوقف على الشرط بل متى ورد صادقا فيما يصف لكن لا يكون لكشفه نتيجة ولا فائدة وأما إذا كان الوارد هو الذي يعمر المحل بحيث يبقى الإنسان عشرين يوما مثلا لا يأكل فذلك المقصود ولا يسمى السالك حينئذ جائعا لأنه مستغن عن الطعام بالوارد ليس عنده مطالبة فهو شبعان غير جيعان ، والله أعلم .




الخدمات العلمية