الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              3199 (3) باب

                                                                                              حد البكر والثيب إذا زنيا

                                                                                              [ 1780 ] عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا; البكر بالبكر، جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم.

                                                                                              رواه أحمد (5 \ 313) ومسلم (1690) (12) وأبو داود (4416) والترمذي (1434).

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              (3) ومن باب حد البكر والثيب إذا زنيا

                                                                                              (قوله - صلى الله عليه وسلم -: خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا ) أي: افهموا عني تفسير السبيل المذكور في قوله تعالى: فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا [النساء: 15] واعملوا به؛ وذلك أن مقتضى هذه الآية أن من زنى حبس في بيته إلى أن يموت، كذا قاله ابن عباس في النساء، وحكي عن ابن عمر : أن ذلك حكم الزانيين; يعني: الرجل والمرأة. فكان ذلك [ ص: 81 ] الحبس هو حد الزناة; لأنه كان يحصل به إيلام الجاني وعقوبته; بأن يمنع من التصرف والنكاح وغيره طول حياته، وذلك عقوبة وزجر، كما يحصل من الجلد والتغريب، فحقيق أن يسمى ذلك الحبس حدا، غير أن ذلك الحكم كان محدودا إلى غاية وهو أن يبين الله لهن سبيلا آخر غير الحبس، فلما بلغ وقت بيانه المعلوم عند الله أوضحه الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - فبلغه لأصحابه، فقال لهم: ( خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مائة، وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم ) فارتفع حكم الحبس في البيوت لانتهاء غايته، وهذا نحو قوله تعالى: ثم أتموا الصيام إلى الليل [البقرة: 187] فإذا جاء الليل ارتفع حكم الصيام، لانتهاء غايته، لا لنسخه، وبهذا يعلم بطلان قول من قال: إن الحبس في البيوت في حق البكر منسوخ بالجلد المذكور في النور ، وفي حق الثيب بالرجم المجمع عليه. وهذا ليس بصحيح لما ذكرناه أولا، ولأن الجمع بين الحبس والجلد والرجم ممكن، فلا تعارض، وهو شرط النسخ مع علم [المتأخر من] المتقدم، كما قدمناه في باب النسخ في الأصول.

                                                                                              وإذا تقرر هذا فاعلم أن الأمة مجمعة على أن البكر - ويعني به: الذي لم يحصن - إذا زنى جلد الحد، وجمهور العلماء من الخلفاء والصحابة والتابعين ومن بعدهم على وجوب التغريب مع الحد إلا أبا حنيفة وصاحبه محمد بن الحسن فإنهما قالا: لا تغريب عليه، فإن النص الذي في الكتاب إنما هو على جلد الزاني، والتغريب زيادة عليه، والزيادة على النص نسخ، فيلزم عليه نسخ القرآن القاطع بخبر الواحد، فإن التغريب إنما ثبت بخبر الواحد.

                                                                                              والجواب: أنا لا نسلم أن الزيادة على النص نسخ، بل زيادة حكم آخر مع [ ص: 82 ] الأصل، فلا تعارض، فلا نسخ. وقد بينا ذلك في الأصول، سلمنا ذلك، لكن هذه الآية ليست بنص، بل عموم ظاهر، فيخصص منها بعض الزناة بالتغريب، كما يخصص بعضهم بالرجم، ثم يلزمهم رد الحكم بالرجم؛ فإنه زيادة على نص القرآن، وهو ثابت بأخبار الآحاد.

                                                                                              ولو سلمنا أن الرجم ثبت بالتواتر، فشرطه الذي هو الإحصان ثبت بأخبار الآحاد، ثم هم قد نقضوا هذه القاعدة التي قعدوها في مواضع كثيرة بيناها في الأصول.

                                                                                              ومن أوضح ذلك أنهم أجازوا الوضوء بالنبيذ معتمدين في ذلك على خبر ضعيف لم يصح عند أهل العلم بالحديث، وهو زيادة على ما نص عليه القرآن من استعمال الماء.

                                                                                              ثم القائلون بالتغريب اختلفوا فيه، فقال مالك : ينفى من مصر إلى الحجاز وشعب وأسوان ونحوها. ومن المدينة إلى خيبر وفدك وكذلك فعل عمر بن عبد العزيز . وقد نفى علي - رضي الله عنه - من الكوفة إلى البصرة . قال مالك : ويحبس في البلد الذي نفي إليه. وقيل: ينفى إلى عمل غير عمل بلده. وقيل: إلى غير بلده. وقال الشافعي : أقل ذلك يوم وليلة.

                                                                                              قلت: والحاصل: أنه ليس في ذلك حد محدود، وإنما هو بحسب ما يراه الإمام، فيختلف بحسب اختلاف أحوال الأشخاص على حسب ما يراه أردع.

                                                                                              ثم القائلون بالتغريب لم يختلفوا في تغريب الذكر الحر، واختلفوا في تغريب المرأة والعبد. فممن رأى التغريب فيهما; أخذا بعموم حديث التغريب، ابن عمر وقد حد مملوكة له في الزنى، ونفاها إلى فدك وبه قال الشافعي ، وأبو ثور ، والثوري ، والطبري ، وداود .

                                                                                              وهل ينفى العبد والأمة سنة أو نصف سنة؟ قولان عند الشافعي . وذهب معظم القائلين بالنفي إلى أنه لا نفي على مملوك، وبه قال الحسن وحماد بن [ ص: 83 ] أبي سليمان ، ومالك ، وأحمد ، وإسحاق .

                                                                                              ولم ير مالك ، والأوزاعي على النساء نفيا. وروي مثله عن علي بن أبي طالب بناء على تخصيص حديث النفي.

                                                                                              أما في الأمة: فبقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها ثلاثا) ثم قال بعد ذلك: (ثم إن زنت فبيعوها ولو بضفير) ولم يذكر النفي، وهو موضع بيان، ووقته، لا يجوز تأخيره عنه، ولأن تغريب المملوك عقوبة لمالكه يمنعه من منافعه في مدة تغريبه، ولا يناسب ذلك تصرف الشرع، فلا يعاقب غير الجاني، ألا ترى أن العبد لا يجب عليه الحج، ولا الجمعة، ولا الجهاد لحق السيد; فبأن لا يغرب أولى.

                                                                                              وأما في حق الحرة: فلأنها لا تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم أو زوج، فإن أوجبنا التغريب على هؤلاء معها كنا قد عاقبناهم وهم برآء، وإن لم نوجبه عليهم لم يجز لها أن تسافر وحدها فتعذر سفرها.

                                                                                              فإن قيل: تسافر مع رفقة مأمونة أو النساء; كما يقوله مالك في سفر الحج.

                                                                                              فالجواب: إن ذلك من مالك سعي في تحصيل وظيفة الحج لعظمها وتأكد أمرها، بخلاف تغريب الزانية فإن المقصود منه المبالغة في الزجر والنكال، وذلك حاصل بالجلد، ولأن إخراج المرأة من بيتها الأصل منعه.

                                                                                              ألا ترى أن صلاتها في بيتها أفضل، ولا تخرج منه في العدة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (أعروا النساء يلزمن الحجال).

                                                                                              وحاصل ذلك أن في إخراجها من بيتها إلى بلد آخر تعريضها لكشف عورتها، وتضييعا لحالها، وربما يكون ذلك سببا لوقوعها فيما أخرجت من سببه، وهو الفاحشة. ومآل هذا البحث تخصيص عموم التغريب بالمصلحة المشهود لها بالاعتبار، وهو مختلف فيه، كما ذكرناه في الأصول.

                                                                                              [ ص: 84 ] و(قوله: والثيب بالثيب جلد مائة والرجم ) الثيب هنا: هو المحصن، وهو البالغ، العاقل، الحر، المسلم، الواطئ وطئا مباحا في عقد صحيح. هذه شروط الإحصان عند مالك ، وقد اختلف في بعضها، ولبيان ذلك موضع آخر.

                                                                                              فإذا زنى المحصن وجب الرجم بإجماع المسلمين، ولا التفات لإنكار الخوارج والنظام الرجم، إما لأنهم ليسوا بمسلمين عند من يكفرهم، وإما لأنهم لا يعتد بخلافهم; لظهور بدعتهم وفسقهم على ما قررناه في الأصول.

                                                                                              وهل يجمع عليه الجلد والرجم؟ كما هو ظاهر هذا الحديث; وبه قال الحسن البصري ، وإسحاق ، وداود ، وأهل الظاهر. وروي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: أنه جمع ذلك على شراحة ، وقال: جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو يقتصر على الرجم وحده؟ وهو مذهب الجمهور، متمسكين بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجم ماعزا والغامدية ولم يجلدهما، وقال: (اغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها) ولم يذكر الجلد، فلو كان مشروعا لما سكت عنه، وكأنهم رأوا: أن هذا أرجح من حديث الجمع بين الجلد والرجم إما لأنه منسوخ إن عرف التاريخ، وإما لأن العمل المتكرر من النبي - صلى الله عليه وسلم - في أوقات متعددة أثبت في النفوس، وأوضح، فيكون أرجح.

                                                                                              وقد شذت طائفة فقالت: يجمع الجلد والرجم على الشيخ، ويجلد الشاب تمسكا بلفظ الشيخ، وهو خطأ، فإنه قد سماه في الحديث الآخر الثيب.

                                                                                              [ ص: 85 ] و(قوله في الأصل: كرب لذلك وتربد وجهه) أي: أصابه كرب، وعلت وجهه غبرة. والربدة: تغيير البياض للسواد، وقد تقدم في الإيمان.




                                                                                              الخدمات العلمية