الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
1201 مالك عن ابن شهاب عن سهل بن سعد الساعدي أنه أخبره أن عويمر بن أشقر العجلاني جاء إلى عاصم بن عدي ( الأنصاري ) فقال له يا عاصم أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه ؟ أم كيف يفعل ؟ سل لي يا عاصم عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأل [ ص: 184 ] عاصم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( المسائل ) وعابها ، حتى كبر على عاصم ما سمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( فلما جاء عاصم إلى أهله جاء عويمر ) فقال : يا عاصم ماذا قال لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال عاصم : لم تأتني بخير , قد كره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( المسألة ) التي سألته عنها . فقال عويمر : والله لا أنتهي حتى أسأله عنها ، فأقبل عويمر حتى أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو وسط الناس فقال : يا رسول الله ، أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه ؟ أم كيف يفعل ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : قد أنزل فيك وفي صاحبتك ، فاذهب فأت بها . فتلاعنا وأنا مع ( الناس ) عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما فرغا ( من تلاعنهما ) قال عويمر : كذبت عليها يا رسول الله ، إن أمسكتها ، فطلقها ( عويمر ) ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

( قال مالك : ) قال ابن شهاب : فكانت تلك [ ص: 185 ] ( بعد ) سنة المتلاعنين .

التالي السابق


هكذا هو في الموطإ ، عند جماعة الرواة .

قال ابن شهاب : فكانت تلك سنة المتلاعنين ، ورواه جويرية عن مالك بإسناده عن ابن شهاب عن سهل وساقه بنحو ما في الموطإ إلى آخره ، وقال : فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان فراقه إياها سنة . هكذا قال في نسق الحديث ، جعله من قول سهل بن سعد لا من قول ابن شهاب وكذلك رواه إبراهيم بن طهمان عن مالك بإسناده ومعناه ، وقال في آخره : فلما فرغا من تلاعنهما طلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : فكانت فرقته إياها سنة بعد . ومن رواة إبراهيم بن طهمان من يقول : عنه فيه : فكان طلاقه إياها سنة . كل ذلك مدرج في كلام سهل لا من قول ابن شهاب وهو عند جماعة رواة الموطإ من قول ابن شهاب كذلك هو عند القعنبي ومطرف ومعن بن عيسى وابن بكير وابن القاسم وابن وهب والشافعي وأبي مصعب والتنيسي ويحيى بن يحيى النيسابوري وأحمد بن إسماعيل المدني وعبد الله بن نافع [ ص: 186 ] الزبيري ، وغيرهم ، واختلف أصحاب ابن شهاب في ذلك أيضا ، قال الدارقطني : وقد روى حديث اللعان عن الزهري عن سهل بن سعد جماعة من الثقات ، فاختلفوا عنه في قوله : فكان فراقه إياها سنة المتلاعنين . فأدرجه جماعة منهم في نفس الحديث وجعلوه من قول سهل بن سعد منهم ابن جريج وابن أبي ذئب والأوزاعي وعياض بن عبد الله الفهري وفليح بن سليمان وإبراهيم بن إسماعيل بن مجمع وفصله عقيل بن خالد وإبراهيم بن سعد ومحمد بن إسحاق ويزيد بن أبي حبيب فيما كتب ( به ) إليه الزهري قالوا في آخره : قال ابن شهاب : فكانت تلك سنة المتلاعنين . كما في الموطإ .

وقد حدثنا محمد بن عمروس ( إجازة ) عن أبي الحسن علي بن عمر الحافظ أنه أخبره ببغداد ، قال : حدثنا البغوي [ ص: 187 ] قال : قرئ على سويد بن سعيد عن مالك عن الزهري عن سهل بن سعد أن رجلا أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا فيقتله فيقتلونه ؟ أم كيف يفعل ؟ قال : فأنزل الله فيهما ما ذكر في القرآن من التلاعن ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : قد قضي فيك وفي امرأتك ، قال : فتلاعنا وأنا شاهد عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله إن أمسكتها فقد كذبت عليها , ففارقها فكانت السنة فيهما أن يفرق بين المتلاعنين ، وكانت حاملا ، فأنكر حملها ، وكان ابنها يدعى إليها ، ثم جرت السنة أن يرثها وترث منه ما فرض الله لها وهذه الألفاظ لم يروها عن مالك فيما علمت غير سويد بن سعيد والله أعلم .

وروى عبد الله بن إدريس هذا الحديث ، عن مالك ومحمد بن إسحاق جميعا عن ابن شهاب عن سهل بن سعد فذكره بطوله وزاد فيه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : قد أنزل الله فيكما قرآنا . وتلا ما أنزل الله في ذلك ولاعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما بعد العصر ، فلما تلاعنا قال : يا رسول الله ظلمتها إن أمسكتها فهي الطلاق [ ص: 188 ] فهي الطلاق ، فهي الطلاق ، ولم يذكر أحد فيما علمت في هذا الحديث أنه لاعن بينهما بعد ( صلاة ) العصر إلا ابن إدريس وأظنه حمل لفظ ابن إسحاق على لفظ مالك وقال الدارقطني : لم يقل في هذا الحديث عن ابن شهاب أحد من أصحابه أنه لاعن بينهما بعد صلاة العصر غير محمد بن إسحاق .

وفي هذا الحديث من الفقه السؤال عن الإشكال وفيه أن الاستفهام بـ " أرأيت " ( عن المسائل ) كان قديما في عصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيه أن من قتل رجلا وادعى أنه إنما قتله لأنه وجده مع امرأته أنه يقتل به ، وقد بينا هذه المسألة في سهيل بن أبي صالح من هذا الكتاب ، وفيه أن يتولى السؤال عن مسألتك غيرك ، وإن كانت مهمة ، وفيه قبول خبر الواحد ، لأنه لو لم يجب قبول خبره عنده ما أرسله يسأل له ، وفيه كراهية سماع الكلام إذا كان فيه تعريض بقبيح قذفا كان أو غيره ، وقد زعم بعض الناس أن في هذا الحديث دليلا على أن الحد لا يجب في التعريض بالقذف ، وهذا لا حجة فيه ، لأن المعرض ( به غير معين ، وإنما يجب الحد على من عرض بقذف رجل يشير إليه ، أو يسميه في مشاتمته ويطلبه المعرض به ، فحينئذ يجب في [ ص: 189 ] التعريض ( بالقذف ) ( الحد إذا كان يعلم من المعرض أنه قصد به قصد القذف ، وقد صح عن عمر أنه كان يحد في التعريض بالقذف ) وهو قول مالك إذا كان مفهوما من ذلك التعريض مراد القاذف . وللكلام في هذه المسألة موضع غير هذا .

واختلف الفقهاء في حكم من قذف امرأته برجل سماه فقال مالك : ليس على الإمام أن يعلم المقذوف ، وهو أحد قولي الشافعي والحجة لمن ذهب هذا المذهب قول الله - عز وجل - : " ولا تجسسوا " ولأن العجلاني رمى امرأته بشريك بن سحماء فلم يبعث فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أعلمه . وقالت طائفة عليه أن يعلمه ، لأنه من حقوق الآدميين ، وقد روي ذلك عن الشافعي واحتج من قال بهذا القول بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واغد يا أنيس على امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها ، وقال مالك : إن ذكر المرمي به في التعانه حد له ، وهو قول أبي حنيفة لأنه قاذف لمن لم يكن به ضرورة إلى قذفه وقال الشافعي : لا حد عليه ، لأن الله لم يجعل على من رمى زوجته بالزنا إلا حدا واحدا بقوله والذين يرمون أزواجهم ، [ ص: 190 ] ولم يفرق بين من ذكر رجلا بعينه ( وبين ) من لم يذكره ، وقد رمى العجلاني زوجته بشريك بن سحماء وكذلك هلال بن أمية فلم يحد واحد منهما .

وفيه أن طباع البشر أن تكون الغيرة تحمل على سفك الدماء إلا أن يعصم الله عن ذلك بالعلم والتثبت والتقى ، وفيه أن العالم إذا كره السؤال ( له ) أن يعيبه وينجه صاحبه . وفيه أن من لقي شيئا من المكروه بسبب غيره كان له أن يؤنب ذلك الذي لقي المكروه بسببه ويعاتبه لقول عاصم لعويمر لم تأتني بخير ، وفيه أن المحتاج إلى المسألة من مسائل العلم لا يردعه عن تفهمها غضب العالم وكراهيته لها حتى يقف على الثلج منها ، وفيه أن السؤال عما يلزم علمه من أمر الدين ، واجب في المحافل وغير المحافل ، وأنه لا حياء يلزم فيه ألا ترى إلى قوله : فأقبل عويمر حتى أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو وسط الناس فقال : يا رسول الله ، أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه ؟ أم كيف يفعل ؟ وفيه أن الملاعنة لا تكون إلا عند السلطان [ ص: 191 ] وأنها ليست كالطلاق الذي للرجل أن يوقعه حيث أحب ، وهذا ما لا خلاف فيه ، وكذلك لا يختلفون أن اللعان لا يكون إلا في المسجد الذي تجمع فيه الجمعة ، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لاعن بين المتلاعنين المذكورين في المسجد . ذكر ذلك ابن مسعود وغيره في حديث اللعان ، وقد ذكرنا حديث ابن مسعود وغيره في باب نافع عن ابن عمر من كتابنا هذا .

واستحب جماعة من أهل العلم أن يكون اللعان في الجامع بعد العصر ، وفي أي وقت كان في المسجد الجامع أجزأ عندهم ، وفيه دليل على أن للعالم أن يؤخر الجواب إذا لم يحضره ورجاه فيما بعد ، وفيه أن القرآن لم ينزل جملة واحدة إلى الأرض ، وإنما كان ينزل به جبريل عليه السلام سورة سورة وآية آية على حسب حاجة النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه وأما نزول القرآن إلى سماء الدنيا فنزل كله جملة واحدة على ما روي عن ابن عباس وغيره في تفسير قول الله - عز وجل - : إنا أنزلناه في ليلة مباركة ، قالوا : ليلة القدر ، نزل فيها القرآن جملة ( واحدة ) إلى السماء الدنيا ، وفيه أن المتلاعنين يتلاعنان بحضرة الحاكم خليفة كان أو غيره ، وفي قوله [ ص: 192 ] " أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا " دليل على أن الملاعنة تجب بين كل زوجين ، لأنه لم يخص رجلا من رجل ، ولا امرأة من امرأة ونزلت آية اللعان على هذا السؤال بهذا العموم فقال : والذين يرمون أزواجهم ، ولم يخص زوجا من زوج .

وهذا موضع اختلف فيه العلماء فقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه لا لعان بين الحر والمملوكة ، ولا بين المملوك والحرة ، ولا بين المسلم والذمية الكتابية ولهم في ذلك حجج ( لا تقوم على ساق ) منها حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا لعان بين مملوكين ، ولا كافرين . وهذا حديث ليس دون عمرو بن شعيب من يحتج به ، واحتجوا من جهة النظر أن الأزواج لما استثنوا من جملة الشهداء بقوله ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم وجب أن لا يلاعن إلا من تجوز شهادته لا عبد ولا كافر ، ولا يلاعن عندهم إلا الحر المسلم ، وقال مالك وأهل المدينة اللعان بين كل زوجين ، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور وداود والحجة لهم أن اللعان [ ص: 193 ] يوجب فسخ النكاح ، فأشبه الطلاق ، وكل من يجوز طلاقه يجوز لعانه . واللعان أيمان ليس بشهادة ، ولو كان شهادة ( ما ) سوى فيه بين ( الرجل ) والمرأة , ولكانت المرأة على النصف من الرجل ، ولا يشهد أحد لنفسه ، وقد سمى الله أيمان المنافقين شهادة بقوله نشهد إنك لرسول الله ، وقال : اتخذوا أيمانهم جنة ، ومن جهة القياس والنظر محال أن ينتفي عنه ولد الحرة المسلمة باللعان ، ولا ينتفي عنه ولد الأمة ، والكتابية باللعان .

وفيه أن الحاكم يحضر مع نفسه للتلاعن قوما يشهدون ذلك ألا ترى إلى قول ( سهل بن سعد فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي شهود ) سهل بن سعد لذلك دليل على جواز شهود الغلمان والشبان التلاعن مع الكهول والشيوخ بين يدي الحاكم ، لأن سهلا كان يومئذ غلاما .

قال أبو عمر :

ما أدرك سهل بن سعد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا وهو غلام صغير .

[ ص: 194 ] وأخبرنا عبد الوارث حدثنا قاسم حدثنا أحمد بن زهير قال : حدثنا عبيد الله بن عمر قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا محمد بن إسحاق عن الزهري قال : قلت لسهل بن سعد ابن كم أنت يومئذ ؟ - يعني يوم المتلاعنين - قال : ابن خمس عشرة سنة ، .

وقد احتج بهذا الحديث من قال : إن الطلاق ثلاثا بكلمة واحدة مباح ، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر على العجلاني أن طلق امرأته ثلاثا بكلمة واحدة بعد الملاعنة ، واختلفوا هل تقع الثلاث مجتمعات في الطهر للسنة أم لا ؟ وسنذكر ذلك في حديث مالك عن نافع عن ابن عمر ، إن شاء الله .

واختلف الفقهاء في فرقة المتلاعنين هل تحتاج إلى طلاق أم لا ؟ فقال مالك وأصحابه والليث بن سعد وهو قول زفر بن الهذيل إذا فرغا جميعا من اللعان وقعت الفرقة ، وإن لم يفرق الحاكم ، ثم لا يجتمعان أبدا .

ومن حجتهم في أن للفرقة تأثيرا في التعان المرأة : وجوبه عليها , وقياسا على أن تفاسخ البيع لا يكون إلا بتمام تحالفهما جميعا ، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن لا تقع الفرقة بعد فراغهما من اللعان حتى يفرق الحاكم بينهما ، وهو قول الثوري لقول ابن عمر : فرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين المتلاعنين ، فأضاف [ ص: 195 ] الفرقة إليه لا إلى اللعان ، ولقوله عليه السلام لا سبيل لك عليها .

وحجة مالك أن تفريقه - صلى الله عليه وسلم - إنما كان إعلاما منه أن ذلك شأن اللعان , ومثله قوله لا سبيل لك عليها .

ومن حجته أيضا أنه لما افتقر اللعان إلى حضور الحاكم افتقر إلى تفريقه كفرقة العنين ، وقال الأوزاعي نحو قول مالك وقال الشافعي : إذا أكمل الزوج الشهادة والالتعان فقد زال فراش امرأته , التعنت أو لم تلتعن ( قال ) : وإنما التعان المرأة لدرء الحد ، وليس لالتعانها في زوال الفراش معنى ، ولما كان لعان الزوج ينفي الولد ويسقط الحد رفع الفراش ( وقد ذكرنا حجته في باب نافع عن ابن عمر من كتابنا هذا ، والحمد لله ) .

وكل الفقهاء من أهل المدينة ، وسائر الحجازيين ، وأهل الشام ، وأهل الكوفة يقولون إن اللعان مستغن عن الطلاق [ ص: 196 ] وإن حكمه وسنته الفرقة بين المتلاعنين ، وإنما اختلافهم الذي قدمنا في أن الحاكم يلزمه أن يفرق بينهما . إلا عثمان البتي في أهل البصرة ، فإنه لم ير التلاعن ينقض شيئا من عصمة الزوجين حتى يطلق ، وهو قول لم يتقدمه إليه أحد من الصحابة . على أن البتي قد استحب للملاعن أن يطلق بعد اللعان ، ولم يستحبه قبل ذلك فدل على أن اللعان عنده قد أحدث حكما .

( قال أبو عمر ) :

معنى قول ابن شهاب في آخر حديث مالك فكانت سنة المتلاعنين . يعني الفرقة بينهما إذا تلاعنا ، لا أنه أراد الطلاق ، وذلك موجود منصوص عليه في حديث ابن شهاب مع ما يعضده من الأصول التي ذكرنا في هذا الكتاب .

وروى ابن وهب في موطئه ، قال : أخبرني عياض بن عبد الله الفهري عن ابن شهاب عن سهل بن سعد أن عويمر بن أشقر الأنصاري أحد بني العجلان جاء إلى عاصم فذكر مثل حديث مالك عن ابن شهاب عن سهل وزاد فيه : [ ص: 197 ] وكانت امرأة عويمر حبلى فأنكر حملها ، وكان الغلام يدعى إلى أمه ، قال : وجرت السنة في الميراث أنه يرثها وترث عنه ما فرض الله للأم ، قال ابن شهاب : قال عويمر عن ذلك : ليس هذا حقا إن أنا رميت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكذب ، قال : فمضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما ، ولا يجتمعان أبدا ، فهذا نص عن ابن شهاب في ذلك ) .

وجمهور الفقهاء على أنه لا يجوز للملاعن أن يمسكها ويفرق بينهما ، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه فرق بين المتلاعنين . وحدثني سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق قال : حدثنا حجاج قال : حدثنا همام قال : حدثنا أيوب أن سعيد بن جبير حدثه عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرق بين أخوي بني العجلان [ ص: 198 ] وروى ابن عيينة عن الزهري عن سهل بن سعد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرق بين المتلاعنين .

وروى مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رجلا لاعن امرأته في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وانتفى من ولدها ففرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما ، وألحق الولد بأمه ، ولم يذكر أحد من أصحاب ابن شهاب عنه عن سهل بن سعد في هذا الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرق بين المتلاعنين غير ابن عيينة وحده ، وهو محفوظ من حديث ابن عمر ويقولون إنه لم يقل أحد في حديث ابن عمر : وألحق الولد بأمه . إلا مالك بن أنس وسنذكر حديثه في باب نافع من كتابنا هذا ، إن شاء الله .

واختلفوا في الزوج إذا أبى من الالتعان فقال أبو حنيفة : لا حد عليه ، لأن الله جعل على الأجنبي الحد ، وعلى الزوج اللعان ، فلما ( لم ) ينتقل اللعان إلى الأجنبي لم ينتقل الحد إلى الزوج ، ويسجن أبدا حتى [ ص: 199 ] يلاعن ، لأن الحدود لا تؤخذ قياسا ، وقال مالك والشافعي وجمهور الفقهاء : إن لم يلتعن الزوج حد ، لأن اللعان له براءة كما الشهود للأجنبي ، وإن لم يأت ( الأجنبي ) بأربعة شهداء حد فكذلك الزوج إن لم يلتعن حد ، وجائز عند من احتج بهذه الحجة القياس في الحدود ، وفي حديث العجلاني ما يدل على ذلك لقوله إن سكت سكت على غيظ ، وإن قتلت قتلت ، وإن نطقت جلدت . وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له : عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، ومن جهة القياس أيضا ( أنه ) لما لحق الزوجة من العار بقذف الزوج لها مثل ما لحق الأجنبية ، وجبت التسوية بينهما .

واختلفوا هل للزوج أن يلاعن مع شهوده فقال مالك والشافعي يلاعن , كان له شهود أو لم يكن ، لأن الشهود ليس لهم عمل إلا درء الحد ، وأما رفع الفراش ونفي الولد ، فلا بد فيه من اللعان ، وقال أبو حنيفة وأصحابه إنما جعل اللعان للزوج إذا لم يكن له شهداء غير نفسه .

[ ص: 200 ] واختلفوا إذا أكذب نفسه الملاعن هل له أن يراجعها إذا جلد الحد ؟ فأجاز ذلك حماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن قالوا : يكون خاطبا من الخطاب ، وقال مالك والثوري والأوزاعي والحسن بن حي والليث بن سعد والشافعي وأبو يوسف وزفر وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد لا يجتمعان أبدا سواء أكذب نفسه أو لم يكذبها ، ولكنه إن أكذب نفسه جلد الحد ولحق به الولد ، ولا يجتمعان أبدا .

وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن مسعود ، وبه قال أكثر علماء التابعين بالمدينة ، وروي مثل قول أبي حنيفة في هذه المسألة ، عن سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب وإبراهيم وابن شهاب على اختلاف عن إبراهيم وابن شهاب في ذلك ، لأنه قد روي عنهما أن المتلاعنين لا يتناكحان أبدا ، وكذلك قال الحسن البصري . وقال الشعبي والضحاك : إذا أكذب نفسه جلد الحد وردت إليه امرأته ، وهذا عندي قول ثالث خلاف من قال : يكون خاطبا من الخطاب ، وخلاف من قال لا يجتمعان أبدا .

قال أبو عمر :

التلاعن يقتضي التباعد ، فإذا حصلا متباعدين لم يجز لهما أن يجتمعا أبدا ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه [ ص: 201 ] وسلم : لا سبيل لك عليها ، وفي قوله هذا إعلام أن الفرقة تقع باللعان ، وأن السبيل عنها مرتفعة ، لأن قوله لا سبيل لك عليها مقيد ( بشيء ) .

حدثنا سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن إسماعيل قال : حدثنا الحميدي قال : حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عمر قال : فرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين المتلاعنين ، وقال : حسابكما على الله أحدكما كاذب ، لا سبيل لك عليها ، قال : يا رسول الله مالي ، قال : ( لا ) مال لك : إن كنت صادقا ( فهو ) بما استحللت من فرجها ، وإن كنت كذبت فهو أبعد لك ، وقال بعض أصحابنا ، وهو الأبهري ومن جهة المعنى ، فإنما عوقب الملاعن بمنع التراجع لما أدخل من الشبهة في النسب كما عوقب القاتل عمدا أن لا يرث ، واحتج أيضا لمذهب مالك في النكاح في العدة أنه يفرق بينهما ، ولا يتناكحان أبدا بمنع المتلاعنين من ذلك عقوبة لهما لما قطعا من نسب الولد ، ولم يتصادقا فيه ، قال : فكذلك المتزوج في العدة [ ص: 202 ] لما أدخل في النسب عوقب بالمنع من الاجتماع ورفع فراشهما ، لأنه أفرش غير فراشه .

قال أبو عمر :

الأصول عند أهل العلم مستغنية عن الاحتجاج لهما ، والزاني قد افترش غير فراشه ، ولم يمنع من النكاح بعد الاستبراء ، ولأهل العلم في هذه المسألة أقوال وأغلال ليس هذا موضع ذكر ذلك .

( وقول مالك في مسألة الناكح في العدة هو مذهب عمر بن الخطاب ) وقد روي عن علي وابن مسعود ( في المتلاعنين ) مثل ذلك ( ولا مخالف لهم من الصحابة ) ومن حجة أبي حنيفة ومن ذهب مذهبه في هذه المسألة عموم قول الله - عز وجل - : وأحل لكم ما وراء ذلكم ، فلما لم يجمعوا على تحريمها دخلت تحت عموم الآية ، ومن جهة النظر : لما لحق الولد وجب أن يعود الفراش ، لأن كل واحد منهما يقتضيه عقد النكاح ويوجبه .

قال أبو عمر :

ذكر إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب في هذا الحديث ، عن سهل بن سعد أن المرأة كانت حاملا ، وأنها جاءت بعد [ ص: 203 ] ذلك بولد . وتابعه على ذلك ابن جريج فقال في درج حديثه عن ابن شهاب عن سهل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن جاءت به أحمر قصيرا كأنه وحرة ، فلا أراها إلا قد صدقت وكذب عليها ، وإن جاءت به أسود أعين ذا إليتين ، فلا أراها إلا ( قد ) صدق عليها فجاءت به على المكروه من ذلك فقال ابن جريج : قال ابن شهاب : فكانت السنة بعدهما أن يفرق بين المتلاعنين ، وكانت حاملا ، وكان ابنها يدعى لأمه ، قال : ثم جرت السنة أنه يرثها وترث منه ما فرض الله لها ، وسنذكر هذا المعنى بما فيه للعلماء من التنازع في باب نافع عن ابن عمر لأنه أولى به لقول ابن عمر في حديثه : وانتفى من ولدها .

وليس للحمل ولا للولد ذكر في حديث مالك عن ابن شهاب هذا ، فلذلك أخرناه إلى باب نافع ، إن شاء الله .

وأما كيفية اللعان ، فإن ابن القاسم ذكر عن مالك أنه يحلف أربع شهادات - يريد أربع أيمان - يقول : أشهد بالله لرأيتها تزني [ ص: 204 ] وإن نفى حملها زاد : ولقد استبريتها وما الحمل مني ، يقول ذلك أربع مرات ، والخامسة : لعنة الله علي إن كنت من الكاذبين ، ثم تقوم هي فتقول : أشهد بالله ما رآني أزني ، وإن حملي لمنه . تقول ذلك أربع مرات ، والخامسة غضب الله عليها إن كان من الصادقين ، وقد ذكرنا كيفية اللعان في نفي الحمل عن مالك وأصحابه في باب نافع من كتابنا هذا ، وكان مالك يقول : لا يلاعن إلا أن يقول : رأيتك تزني ، أو ينفي حملا أو ولدا منها ، قال : والأعمى يلاعن إذا قذف .

وقول أبي الزناد ويحيى بن سعيد والليث بن سعد والبتي مثل قول مالك أن الملاعنة لا تجب بالقذف ، وإنما تجب بادعاء الرؤية ، أو نفي الحمل مع دعوى الاستبراء ، وعندهم أنه إذا قال لزوجته يا زانية جلد الحد ، والحجة لهذا القول قائمة من الآثار ، فمنها حديث مالك هذا عن ابن شهاب عن سهل بن سعد قوله فيه أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا ، وكذلك ما حدثنا عبد الوارث بن سفيان وسعيد بن نصر قالا : حدثنا ( قاسم بن أصبغ ) قال : حدثنا إسماعيل ابن إسحاق قال : حدثنا إسماعيل بن أبي أويس قال : حدثني [ ص: 205 ] سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد قال : أخبرني عبد الرحمن بن القاسم عن القاسم بن محمد عن ابن عباس أنه ذكر المتلاعنان عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال عاصم بن عدي في ذلك قولا ثم انصرف ، فأتاه رجل من قومه ، فذكر أنه وجد مع امرأته رجلا ، وذكر الحديث .

وحدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا الحسن بن علي قال : حدثنا يزيد بن هارون قال : أنبأنا عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس قال : جاء هلال بن أمية وهو أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم فجاء من أرضه عشاء فوجد عند أهله رجلا فرأى بعينه وسمع بأذنه ، فلم يهجه حتى أصبح ، ثم غدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، إني جئت أهلي عشاء فوجدت عندهم رجلا فرأيت بعيني وسمعت بأذني . فكره رسول الله ما جاء به واشتد عليه فنزلت والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم الآيتين كلتيهما , فسري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : أبشر يا هلال ( فقد جعل الله لك مخرجا ، وذكر الحديث بطوله . وروى جرير بن حازم عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس قال لما قذف هلال ) [ ص: 206 ] ابن أمية امرأته قيل له والله ليجلدنك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانين . فقال : الله أعدل من أن يضربني وقد علم أني رأيت حتى استبنت ، وسمعت حتى استيقنت . فنزلت آية الملاعنة ، فهذه الآثار كلها تدل على أن الملاعنة التي قضى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما كانت بالرؤية ، فلا يجب أن تتعدى ذلك ، ومن قذف امرأته ولم يذكر رؤية حد بعموم قوله والذين يرمون المحصنات الآية ( ومن جهة النظر ، فإن ذلك قياس على الشهود ) ولأن المعنى في اللعان إنما هو من أجل النسب ، ولا يصح ارتفاعه إلا بالرؤية أو نفي الولد ، فلهذا قالوا : إن القذف ( المجرد ) لا لعان فيه ، وفيه الحد لعموم قول الله - عز وجل - : والذين يرمون المحصنات وقياسا على الشهادة التي لا تصح إلا برؤية ، والله أعلم .

وقال الشافعي : وأبو حنيفة والثوري وأبو عبيد وأحمد بن حنبل وداود وأصحابهم : إذا قال لها : يا زانية . وجب اللعان إن لم يأت بأربعة شهداء ، وسواء عندهم قال : يا زانية ، أو : رأيتك تزنين ، أو : زنيت . وهو قول جمهور العلماء ، وعامة الفقهاء ، وجماعة أصحاب الحديث ، وقد روي أيضا عن مالك مثل ذلك .

[ ص: 207 ] وحجتهم أن الله - عز وجل - قال : والذين يرمون أزواجهم كما قال والذين يرمون المحصنات ، ولم يقل في واحدة منهما برؤية ولا بغير رؤية وسوى بين الرميين بلفظ واحد ، فمن قذف زوجته ولم يأت بأربعة شهداء جلد الحد ، ومن قذف زوجته ولم يأت بأربعة شهداء لاعن ، فإن لم يلاعن حد ، وقد أجمعوا أن الأعمى يلاعن إذا قذف امرأته ، ولو كانت الرؤية من شرط اللعان ما لاعن الأعمى ، ولهم في هذا حجج يطول ذكرها .

واختلفوا في ملاعنة الأخرس فقال مالك : والشافعي يلاعن لأنه ممن يصح طلاقه وظهاره وإيلاؤه إذا فهم ذلك عنه , ويصح يمينه للمدعى عليه ، وقال أبو حنيفة : لا يلاعن ، لأنه ليس من أهل الشهادة ، ولأنه قد ينطلق لسانه فينكر اللعان ، فلا يمكننا إقامة الحد عليه .

وقال الشافعي : يقول الملاعن : أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي فلانة بنت فلان . ويشير إليها إن كانت حاضرة ، يقول ذلك أربع مرات ، ثم يقعده الإمام ويذكره الله ويقول له : إني أخاف [ ص: 208 ] إن لم تكن صدقت أن تبوء بلعنة الله ، فإن رآه يريد أن يمضي على ذلك أمر من يضع يده على فيه ويقول : إن قولك : " وعلي لعنة الله إن كنت من الكاذبين " موجبة إن كنت كاذبا ، فإن أبى تركه يقول : ولعنة الله علي إن كنت من الكاذبين فيما رميت به فلانة من الزنا .

قال أبو عمر :

أخذ الشافعي هذا من حديث سفيان بن عيينة عن عاصم بن كليب ( عن أبيه ) عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر رجلا حيث أمر المتلاعنين أن يتلاعنا ، أن يضع يده على فيه عند الخامسة ، يقول : إنها موجبة .




الخدمات العلمية