الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
المسألة الثانية : إذا أنزل المني بالمباشرة بقبلة أو غمز أو بالوطء دون الفرج ونحو ذلك ، فهل يفسد نسكه ؟ على ثلاث روايات :

أحدها : يفسد حجه كالوطء في الفرج ، نقلها المروذي في القبلة ، ونقلها أبو طالب وابن إبراهيم في الوطء دون الفرج ، وهذا اختيار القاضي وأصحابه ; لأن كل عبادة أفسدها الوطء أفسدها الإنزال عن مباشرة كالصيام والاعتكاف لا سيما ومنع الإحرام من المباشرة أشد من منع الصيام ، فإذا أفسد ما لا يعظم وقعه فيه ، فإفساد ما يعظم وقعه أولى .

وأيضا فإن المباشرة مع الإنزال قد يحصل بها من المقصود واللذة أكثر من الوطء المجرد عن إنزال ; ولهذا ما زال الإنزال موجبا للغسل ، والوطء المجرد [ ص: 221 ] قد عري عن الغسل في الإسلام .

والرواية الثانية : لا يفسد ، نقلها الميموني في المباشرة إذا أمنى مطلقا ، ونقلها ابن منصور في الجماع دون الفرج إذا أنزل ، وهذا اختيار ... ; لأن الأمر إنما جاء في الجماع .

والمباشرة دون الفرج دونه في أكثر الأحكام ، فلم يجز أن يلحق به بمجرد القياس لجواز أن يكون الإفساد معلقا بما في الجماع من الخصائص .

والرواية الثالثة : الفرق بين الجماع دون الفرج وبين القبلة والغمز ، فإن وطئ دون الفرج فأنزل فسد حجه ، وإن قبل فأنزل لم يفسد ، وهذه اختيار الخرقي ، وقد ذكر الرواية الأولى ولم يذكر الثانية ، وذكر ابن أبي موسى الروايتين في الوطء دون الفرج ، ولم يذكر في المباشرة خلافا .

فإن قلنا : قد فسد حجه ، فعليه بدنة بلا ريب في الحج ، وإن قلنا : لم يفسد فعليه بدنة أيضا ، نص عليه في رواية الميموني في المباشرة إذا أمنى مطلقا ، وهذا قول كثير من أصحابنا في القبلة وغيرها من المباشرات ، ونقل عنه ابن منصور [ ص: 222 ] إن جامع دون الفرج وأنزل فعليه بدنة وقد تم حجه ، وإن قبل فأمنى أو أمذى أو لم يمن ولم يمذ أرجو أن يجزيه شاة .

وكذلك قال ابن أبي موسى ، ولو باشرها كان عليه دم شاة ، ولو قبلها لزمه دم شاة ، فإن وطئها دون الفرج فأنزل فعليه بدنة قولا واحدا ، وفي فساد حجه روايتان .

وإن أمذى بالمباشرة فنقل عنه ابن منصور أن في ذلك ما في المباشرة المجردة كما تقدم .

فأما المباشرة من فوق حائل فقال أصحابنا ، القاضي وابن عقيل وغيرهما : لا أثر لها ، كما لا أثر لها في نقض الوضوء ، ويحرم عليه أن ينظر لشهوة ، فإن نظر لشهوة فلم ينزل .... قال الخرقي : وإن نظر فصرف بصره فأمنى فعليه دم .

[ ص: 223 ] وإن أمذى فعليه شاة ، وإن أمنى لم يفسد حجه وعليه دم ، وهل هو بدنة أو شاة ؟ على روايتين ، وحكى ابن عقيل إحدى الروايتين : عليه بدنة في مطلق الإنزال ، والأخرى : عليه بدنة إن أمنى وشاة إن أمذى ، وذكر أنها اختيار شيخه ، وهذا غلط وذلك لما روى مجاهد قال : " جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال : يا ابن عباس أحرمت فأتتني فلانة في زينتها فما ملكت نفسي أن سبقتني شهوتي ، فضحك ابن عباس رحمه الله حتى استلقى ثم قال : إنك لشبق لا بأس عليك أهرق دما وقد تم حجك " رواه سعيد ، وفي رواية النجاد عن ابن عباس في محرم نظر إلى امرأته حتى أمنى ، قال : عليه شاة ، وفي رواية له قال : " جاء رجل إلى ابن عباس فقال : فعل الله بهذه وفعل ، إنها تطيبت وأتتني كلمتني وحدثتني حتى سبقتني الشهوة ، فقال ابن عباس : انحر بدنة وتم حجك " .

ولا نعرف له مخالفا في الصحابة ولا في التابعين ، بل المنقول عن سعيد بن جبير " أن عليه دما وحجه تام " .

[ ص: 224 ] وقال عطاء : " عليه ناقة ينحرها " وقال الحسن : " عليه بدنة والحج من قابل " .

وهذا لأن تكرار النظر لشهوة حرام يمكن الاحتراز منه ، فإذا اقترن به الإنزال تغلظ فأوجب الفدية كالمباشرة ، وإنما يفسد الحج لما تقدم عن ابن عباس ، ولأن .... ، ويتخرج فساد الحج كالصوم .

ثم إن قلنا : يجب بدنة ، وهو اختيار الخرقي والقاضي وابن عقيل ... ، وهذا فيما إذا كرر النظر ، فأما النظرة الواحدة إذا تعمدها ولم يدمها فأمنى فعليه شاة ، هكذا قال أصحابنا ، وعنه ما يدل على أنه لا شيء عليه ; قال في رواية ابن إبراهيم : إذا كرر النظر فأنزل فعليه دم .

وعنه ما يدل على أن عليه بدنة ، قال في رواية حنبل : إذا أمنى من [ ص: 225 ] نظر وكان لشهوة : فعليه بدنة ، وإن أمذى فعليه شاة . وإن أمنى ، أو أمذى بفكر غالب : فلا شيء عليه ، وإن استدعى الفكر : ففيه وجهان :

أحدهما : لا شيء عليه قاله القاضي وأبو الخطاب وغيرهما .

والثاني : أن الفكر كالنظر قاله ابن عقيل .

فعلى هذا إذا لم يستدمه : ففيه دم ، وإن استدامه ، فهل فيه بدنة ، أو شاة ؟ على وجهين . ولا يفسد الحج بحال ، ويتخرج في النظر والتفكير إذا استدامهما أن يفسد الحج . والمنقول عن أحمد في التفكير يتحمل الوجهين ، زعم القاضي : أن ظاهره يقتضي أن لا يتعلق بالتفكير حكم ، وزعم ابن عقيل أنه يدل على أنه يتعلق بالمستدعى منه حكم .

قال - في رواية أبي طالب وأحمد بن جميل - في محرم نظر فأمنى : فعليه دم ، قيل له : فإن ذكر شيئا فأمنى ؟ قال : لا ينبغي أن يذكر ، قيل له : وقع في قلبه شيء ، قال : أرجو أن لا يكون عليه شيء .

فمن حيث جعل في الإنزال بالنظر دما ، ولم يجعل في الإنزال بالذكر شيئا ، بل نهاه عنه : كان قول القاضي متوجها ، ومن حيث فرق بين ما يقع في قلبه في أنه لا شيء عليه ، وبين ما يذكره عمدا : يتوجه قول ابن عقيل . إلا أن للقاضي أن يقول : استدعاء الفكر مكروه ، فينهى عنه ، ولهذا قال : لا ينبغي له أن يذكر حيث الغالب منه ، فإنه لا يوصف بالكراهة ، فالفرق عاد إلى هذا لا إلى وجوب الدم .

[ ص: 226 ] والدم الواجب بالمباشرة ونحوها من الاستمتاع : يتعين ، ولا يجزئ عنه الصيام والصدقة مع وجوده بخلاف ما يجب بالطيب واللباس ، قاله القاضي - في خلافه - والمنصوص عنه أنه يجبر ، قال - في رواية الميموني - : والمتمتع إذا طاف فجامع قبل أن يقصر ، أو يحلق ، فإن ابن عباس قد أفتى بهذا بعينه : عليه دم ، أو فدية من صيام ، أو صدقة ، أو نسك ، وإنما يحل بالحلق أو التقصير . وهكذا ذكره القاضي وابن عقيل وغيرهما من أصحابنا إذا كان الدم شاة ، فإن كان بدنة قضى ولم يفسد حجه . فهل هو على الترتيب ، أو التخيير على وجهين ؛ أحدهما : أنه على الترتيب قاله ابن عقيل .

التالي السابق


الخدمات العلمية