الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 244 ] الثانية عشرة : تجوز رواية الحديث بالمعنى المطابق للفظ ، للعارف بمقتضيات الألفاظ ، الفارق بينها . ومنع منه ابن سيرين ، لقوله عليه السلام : فأداها كما سمعها ، ولقوله عليه السلام للبراء حين قال : ورسولك الذي أرسلت : قل : ونبيك الذي أرسلت

                ولنا : جواز شرح الحديث ، والشهادة على الشهادة العربية بالعجمية ، وعكسه ; فهذا أولى . ولأن التعبد بالمعنى لا باللفظ ، بخلاف القرآن . ولأنه جائز في غير السنة ; فكذا فيها ، إذ الكذب حرام فيهما . والراوي بالمعنى المطابق مؤد كما سمع . ثم المراد منه : من لا يفرق ، وليس الكلام فيه . وفائدة قوله عليه السلام للبراء ما ذكر : عدم الالتباس بجبريل ، أو الجمع بين لفظتي النبوة والرسالة .

                قال أبو الخطاب : ولا يبدل لفظا بأظهر منه ; لأن الشارع ربما قصد إيصال الحكم باللفظ الجلي تارة ، وبالخفي أخرى .

                قلت : وكذا بالعكس ، وأولى ، وقد فهم هذا من قولنا : المعنى المطابق ، والله أعلم .

                التالي السابق


                المسألة " الثانية عشرة : تجوز رواية الحديث بالمعنى المطابق للفظ للعارف بمقتضيات الألفاظ ، الفارق بينها " .

                وتفصيل هذه الجملة : أن الراوي إما غير عالم بمقتضيات الألفاظ ، والفرق بينها ، من جهة الإطلاق والتقييد ، والعموم والخصوص ; فلا يجوز له الرواية بالمعنى وإن كان عالما بذلك ، فإن كان المعنى غير مطابق للفظ ، لم يجز ، وإن كان مطابقا له ، جاز .

                [ ص: 245 ] قال القرافي : يجوز بثلاثة شروط : أن لا يزيد الترجمة ، ولا ينقص ، ولا يكون أخفى من لفظ الشارع .

                قلت : هذا هو معنى المطابقة . ومنع من ذلك ، أي : من الرواية بالمعنى ابن سيرين ، وجماعة من السلف ، وهو اختيار أبي بكر الرازي ، وأوجبوا نقل لفظ النبي صلى الله عليه وسلم ، على صورته ، لقوله صلى الله عليه وسلم : نضر الله امرأ سمع مقالتي فأداها كما سمعها . الحديث . وقد سبق في مسألة عدم اشتراط فقه الراوي ، وهو يقتضي نقل اللفظ بصورته .

                وروى البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : إذا أخذت مضجعك ; فتوضأ وضوءك للصلاة ، ثم اضطجع على شقك الأيمن ، ثم قل : اللهم [ ص: 246 ] إني أسلمت وجهي إليك ، وفوضت أمري إليك ، وألجأت ظهري إليك ، رهبة ورغبة إليك ، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك ، آمنت بكتابك الذي أنزلت ، ونبيك الذي أرسلت . فإن مت من ليلتك ، مت على الفطرة . قال : فرددتهن لأستذكرهن ; فقلت : آمنت برسولك الذي أرسلت ; فقال : قل : آمنت بنبيك الذي أرسلت . متفق عليه ، ورواه أبو داود ، والنسائي والترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح . فأنكر عليه إبدال لفظ النبي بالرسول ، وهما متساويان ، وذلك يدل على اعتبار نقل اللفظ بصورته .

                قوله : " ولنا " ، أي : على جواز الرواية بالمعنى كما قررناه وجوه :

                أحدها : الإجماع على جواز شرح الحديث العربي بالعجمي ، والعجمي بالعربي ، والشهادة على الشهادة العربية بالعجمية ، والشهادة بالعجمية على الشهادة العربية .

                أي : إذا كان شاهد الأصل أعجميا ، جاز أن يتحمل عنه الشهادة عربي ، ويؤديها بلسانه ، وبالعكس : يؤدي العجمي عن العربي ، وكذلك شرح الأحكام الشرعية بلسانهم ، وإذا جاز إبدال العربي بالعجمي ; فإبداله بعربي مثله يؤدي معناه أولى [ ص: 247 ] بالجواز .

                الوجه الثاني : أن التعبد في الحديث بالمعنى ; لأنه المقصود ، لا باللفظ ، بخلاف القرآن ، فإن التعبد بمعناه للإبلاغ ، وبلفظه للتلاوة والإعجاز . بدليل الحروف المقطعة في أوائل السور ; فإنه ليس لها معنى يفهم ; فيمتثل ، ونحن متعبدون بلفظها ، والأجر مترتب عليها ، على كل حرف عشر حسنات ، كسائر حروف القرآن .

                الوجه الثالث : أن تبديل اللفظ بما يؤدي معناه جائز في غير السنة ، كالتخاطب الجاري بين الناس ; فكذلك ينبغي أن يجوز في السنة ; لأن المحذور من ذلك إنما هو الكذب ، وهو حرام فيهما ، أي : في السنة وغيرها من محاورات الناس بينهم . وقد جاز في أحدهما ; فليجز في الآخر .

                قوله : " والراوي بالمعنى المطابق للفظ مؤد كما سمع " . هذا جواب عن دليل الخصم ، وهو القول بموجب الحديث ، فإن اقتضى أن الراوي يؤدي الحديث كما سمعه ، والراوي بالمعنى المطابق يؤدي كما سمع .

                وقولهم : الحديث يقتضي نقل اللفظ بصورته ، قلنا : لا نسلم ، بل نقل [ ص: 248 ] المعنى ; لأنه المقصود ، وإن سلمناه ، لكن يقتضيه وجوبا أو ندبا ، والأول ممنوع ، والثاني مسلم ، ونحن نقول به . " ثم المراد منه " ، أي : من الحديث المذكور ، إن سلمنا أنه يقتضي نقل اللفظ بصورته " من لا يفرق " بين مدلولات الألفاظ وليس الكلام فيه إنما الكلام في العارف الفارق ، الراوي باللفظ المطابق .

                قوله : " وفائدة قوله عليه السلام للبراء ما ذكر " . هذا جواب عن حديث البراء .

                وتقريره : أن فائدة قوله عليه السلام له : قل : ونبيك الذي أرسلت إما عدم الالتباس بجبريل ; فإنه رسول الله إلى الأنبياء ; فلو قال : وبرسولك ، لالتبس به ، وإنما مقصوده ههنا الإيمان به عليه السلام ; لأنه يستلزم الإيمان بجبريل وغيره ، مما يجب الإيمان به ، بخلاف العكس ، أعني أن الإيمان بجبريل لا يستلزم الإيمان بالنبي عليه السلام .

                أو يكون فائدة ذلك الجمع في الحديث بين لفظي النبوة والرسالة ، في قوله : ونبيك الذي أرسلت ، وإحداهما أعم من الأخرى ، على ما سبق في شرح خطبة الكتاب ، والجمع بينهما أبلغ في الإيمان ، وأفخم للرسول عليه السلام .

                " قال أبو الخطاب : ولا يبدل - يعني الراوي بالمعنى - لفظا بأظهر منه ; لأن الشارع ربما قصد إيصال الحكم " إلى المكلفين " باللفظ الجلي تارة " تسهيلا للفهم عليهم ، وباللفظ الخفي أخرى ، تكثيرا لأجرهم ، بإجادة النظر فيه .

                " قلت : وكذا بالعكس وأولى " أي : كذلك لا يبدل لفظا بلفظ أخفى منه ، وهو [ ص: 249 ] أولى بعدم الجواز مما ذكره أبو الخطاب ; لأن فيه تصعيبا لما سهل الشارع فهمه .

                وقد فهم هذا من قولنا في أول المسألة : تجوز الرواية بالمعنى المطابق ; لأن المطابق هو المساوي في العموم والخصوص ; فلا يكون أعم ولا أخص ، وفي الجلاء والخفاء ; فلا يكون أجلى ولا أخفى . والله تعالى أعلم .




                الخدمات العلمية