الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              3217 [ 1792 ] وعن أبي عبد الرحمن قال: خطب علي فقال: يا أيها الناس، أقيموا على أرقائكم الحد، من أحصن منهم، ومن لم يحصن، فإن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت، فأمرني أن أجلدها، فإذا هي حديثة عهد بنفاس، فخشيت إن أنا جلدتها أن أقتلها، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: أحسنت.

                                                                                              رواه مسلم (1705) وأبو داود (4473) والترمذي (1441).

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              و(قوله: فإن أمة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - زنت ) كذا جاء في كتاب مسلم . وفي كتاب أبي داود : ( فجرت جارية لآل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وظاهره: أن هذه الجارية كانت لبعض عشيرته، وهذه الرواية أحسن من رواية مسلم وأليق بحال من ينتسب لحضرة بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم – وملكه؛ استصحابا لما شهد الله تعالى به من الطهارة لذلك الجناب الكريم، كما قال تعالى: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا [الأحزاب: 33] وكيف يليق بمن كان في مثل هذا البيت الكريم، وبمن صح له ذلك الملك الشريف أن تقع منه فاحشة الزنى؟! هذا والله من البعد على الغاية القصوى، فإن العبد من طينة سيده! ألا ترى أنه لما كثر المنافقون على مارية في ابن عمها الذي كان يزورها، فبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب ليقتله، فدخل عليه، فلما رآه كشف عن فرجه فإذا هو أجب، فقرأ علي - رضي الله عنه -: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا [ ص: 125 ] [الأحزاب: 33] هذا كله مع احتمال أن يراد بآل محمد نفسه، كما قدمناه في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (اللهم صل على آل أبي أوفى )، وفي قوله: (لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود ). وتكون هذه الأمة من الإماء المتخذات للخدمة والتصرف، ولعلها قريبة عهد بالجاهلية، لكن الأول أليق وأسلم. والله تعالى أعلم.

                                                                                              و(قوله: فأمرني أن أجلدها ) هذا إنما كان لما ظهر من زناها بالحبل، كما دل عليه قوله: ( فإذا هي حديثة عهد بنفاس ).

                                                                                              و(قوله: فخشيت إن أنا جلدتها أن أقتلها ) هذا فيه أصل من أصول الفقه، وهو ترك العمل بالظاهر لما هو أولى منه، وتسويغ الاجتهاد. ألا ترى أن عليا - رضي الله عنه - قد ترك ظاهر الأمر بالجلد مخافة أمر آخر هو أولى بالمراعاة، فحسنه النبي - صلى الله عليه وسلم - له وصوبه، ولو كان الأمر على ما ارتكبه أهل الظاهر من الأصول الفاسدة لجلدها وإن هلكت.

                                                                                              وفيه من الفقه ما يدل على أن من كان حده دون القتل لم يقم عليه الحد في مرضه حتى يفيق، لا مفرقا، ولا مجموعا، ولا مخففا، ولا مثقلا، وهو مذهب الجمهور؛ تمسكا بهذا الحديث، وهو أولى مما خرجه أبو داود من حديث سهل بن [ ص: 126 ] حنيف : أن رجلا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - اشتكى حتى أضنى، فعاد جلدة على عظم، فوقع على جارية لغيره، ثم ندم، فاستفتي له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأخذوا له مائة شمراخ فيضربوه بها ضربة واحدة ; لأن إسناده مختلف فيه، ولحديث سهل هذا; قال الشافعي : يضرب المريض بعثكول نخل تصل شماريخه كلها إليه، أو بما يقوم مقامه. وهذا في مريض ليس عليه حد القتل، فلو كان عليه جلد وقتل، يجلد الحد ثم يقتل بعد ذلك.

                                                                                              وحديث علي هذا: قد أخرجه النسائي ، والترمذي ، وزاد فيه: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ( دعها حتى ينقطع دمها ثم أقم عليها الحد، وأقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم ) وهذا لفظ أبي داود . وهو نص على صحة مذهب الجمهور، وهو أصح من حديث سهل وأعلى، فالعمل به أوجب وأولى، والحد الذي أمر علي بإقامته هو نصف حد الحرة الذي قال الله تعالى فيه: فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب وهو خمسون جلدة، وهو قول الجمهور، ولا رجم على أمة وإن كانت متزوجة بالإجماع.

                                                                                              فروع: قال ابن المنذر : أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم أن الجلد بالسوط; والسوط الذي يجلد به سوط بين سوطين، ولا تجرد المرأة، وتستر، وينزع عنها ما يقيها، وهو مذهب مالك وغيره، بل لا خلاف فيه فيما أعلم.

                                                                                              وأما الرجل: فاختلف في تجريده. فقيل: لا يجرد، وبه قال طاوس ، والشعبي ، وقتادة ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور وروي ذلك عن ابن مسعود ، وأبي عبيدة بن الجراح .

                                                                                              وقالت طائفة أخرى: يجرد وتستر عورته، وبه قال عمر بن عبد العزيز ، ومالك ، وقال الأوزاعي : ذلك إلى الإمام، إن شاء جرد، وإن شاء لم يجرد، واتفقوا على أن المجلود وعليه قميصه مجلود.

                                                                                              وتضرب المرأة قاعدة عند [ ص: 127 ] الجمهور، واختلف في الرجال، فالجمهور على أنهم يجلدون قياما، قاله الشافعي وغيره، وقال مالك : قعودا. واتفقوا: على أن الجلد كيفما وقع أجزأ، ولا يمد المجلود ولا يربط، وتترك له يداه عند الجمهور.

                                                                                              قال ابن مسعود : لا يحل في هذه الأمة تجريد ولا مد، والضرب الذي يجب هو أن يكون مؤلما; لا يجرح، ولا يبضع، ولا يخرج الضارب يده من تحت إبطه، وبه قال الجمهور، وعلي ، وابن مسعود .

                                                                                              وأتي عمر برجل في حد، فأتي بسوط بين سوطين، وقال للضارب: اضرب، ولا يرى إبطك، وأعط كل عضو حقه. واتفقوا: على أنه لا يضرب في الوجه; لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، ولا يضرب في الفرج عند العلماء، والجمهور على اتقاء الرأس. وقال أبو يوسف : يضرب في الرأس. وقد روي: أن عمر ضرب صبيغا في رأسه، وكان تعزيرا، لا حدا.

                                                                                              قلت: وإنما منع من الضرب في الفرج مخافة الموت، فيجب أن تتقى المقاتل كلها، كالدماغ، والقلب، وما أشبه ذلك، وهذا لا يختلف فيه إن شاء الله تعالى.




                                                                                              الخدمات العلمية