الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              3220 [ 1795 ] وعن حضين بن المنذر أبي ساسان قال: شهدت عثمان بن عفان أتي بالوليد قد صلى الصبح ركعتين، ثم قال: أزيدكم؟ قال: فشهد عليه رجلان - أحدهما حمران -: أنه شرب الخمر، وشهد آخر أنه رآه يتقيأ، فقال عثمان: إنه لم يتقيأ حتى شربها، فقال: يا علي، قم فاجلده، فقال علي: قم يا حسن فاجلده، فقال الحسن: ول حارها من تولى قارها، فكأنه وجد عليه، فقال: يا عبد الله بن جعفر، قم فاجلده، فجلده وعلي يعد حتى بلغ أربعين، فقال: أمسك، ثم قال: جلد النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكل سنة، وهذا أحب إلي.

                                                                                              رواه مسلم (1707) (38) وأبو داود (4480 و 4481).

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              و(قوله في "الأم": عبد الله الداناج ) بالجيم. ويقال: الداناء، بهمزة مكان الجيم، ويقال بهاء، وهو بالفارسية: العالم (عن حضين ) بالحاء المهملة، والضاد المعجمة: تصغير (حضن) وهو ما دون الإبط إلى الكشح. وحضن الشيء: جانبه، ونواحي كل شيء: أحضانه. و( الوليد ) هو ابن عقبة بن أبي معيط ، ظهر عليه أنه شرب الخمر، فكثر على عثمان فيه، فلما شهد عنده بأنه شربها أقام عليه الحد كما ذكر.

                                                                                              و(قوله: فشهد حمران : أنه شربها، وشهد آخر: أنه رآه يتقيأ ): فيه من [ ص: 134 ] الفقه: تلفيق الشهادتين إذا أدتا إلى معنى واحد، فإن أحدهما شهد برؤية الشرب، والآخر بما يستلزم الشرب، ولذلك قال عثمان : إنه لم يتقيأ حتى شربها .

                                                                                              غير أنه قد ذكر الحميدي محمد بن نصر في حديث عمر حين شهد عنده الجارود : بأن قدامة شرب الخمر ثم دعا بأبي هريرة وقال: علام تشهد؟ فقال: لم أره حين شرب! وقد رأيته سكران يقيء. فقال عمر : لقد تنطعت يا أبا هريرة في الشهادة! فلما استحضر قدامة أنكر. فقال أبو هريرة : يا أمير المؤمنين! إن كنت تشك في شهادتنا فسل بنت الوليد امرأة ابن مظعون فأرسل عمر إلى هند ينشدها بالله، فأقامت هند على زوجها الشهادة، فجلده.

                                                                                              فظاهر هذا: أن عمر لم يسمع شهادة أبي هريرة لما قال له: إنه لم يره يشرب، وإنما رآه يتقيأ.

                                                                                              والجواب: أن عمر إنما توقف في شهادة أبي هريرة ; لأن أبا هريرة سلك في أداء الشهادة مسلك من يخبر بتفصيل قرائن الأحوال التي أفادته العلم بالمشهود فيه، ومهما شرع الشاهد في تفصيل ذلك وحكايته لم يحصل لسامع الشهادة الجزم بصحتها; لأن قرائن الأحوال لا تنضبط بالحكاية عنها، وإنما حق الشاهد أن يعرض عنها، ويقدم على الأداء إقدام الجازم المخبر عن علم حاصل، فكان توقف عمر لذلك، ثم إن أبا هريرة لما جزم في الشهادة سمعها عمر وحكم بها، لكنه استظهر بقول هند على عادته في الاستظهار في الشهادات والإخبار، ولا يظن به أنه رد شهادة أبي هريرة ، وقبل شهادة امرأة في الحدود، إلا من هو عن المعارف مصدود.

                                                                                              و(قول عثمان لعلي : قم يا علي فاجلده ) دليل على أن الحد إنما ينبغي أن يقيمه بين أيدي الخلفاء والحكام فضلاء الناس وخيارهم، وكذلك كانت الصحابة تفعل كلما وقع لهم شيء من ذلك. وسبب ذلك: أنه قيام بقاعدة شرعية، وقربة تعبدية تجب المحافظة على فعلها، وقدرها، ومحلها، وحالها، بحيث لا يتعدى [ ص: 135 ] شيء من شروطها، ولا أحكامها؛ ولذلك يجب عند جميع العلماء أن يختار لها أهل الفضل والعدل إذا أمكن ذلك؛ مخافة التعدي في الحدود، وقد وقع في زماننا من جلد في الخمر ثمانين، فتعدى عليه الضارب، فقتله بها، وحرمة دم المسلم عظيمة، فتجب مراعاتها بكل ممكن.

                                                                                              و(قول علي : قم يا حسن فاجلده !) دليل على أن من استنابه الإمام في أمر فله أن يستنيب من يتنزل منزلته في ذلك الأمر.

                                                                                              و(قول حسن : ول حارها من تولى قارها ) هذا مثل من أمثال العرب، قال الأصمعي : معناه: ول شدتها من تولى هنيئها. والقار: البارد. ويعني الحسن بهذا: ول شدة إقامة الحد من تولى إمرة المسلمين، وتناول حلاوة ذلك.

                                                                                              و(قوله: فكأنه وجد عليه ) أي: غضب عليه لأجل توقفه فيما أمره به، وتعريضه بالأمراء.

                                                                                              و(قوله: فقال: يا عبد الله ! قم فاجلده ) يحتمل أن يكون الآمر لعبد الله عليا فكأنه أعرض عن الحسن لما توقف، ويحتمل أن يكون الحسن استناب عبد الله فيما أمره به علي طلبا لرضا علي . والله تعالى أعلم.

                                                                                              و(قوله: فجلده وعلي يعد حتى بلغ أربعين، فقال: أمسك ) ظاهر هذا أنه لم يزد على الأربعين، وفي البخاري من حديث المسور بن مخرمة ، وعبد الرحمن بن الأسود ، وذكر هذا الحديث طويلا، وقال في آخره: إن عليا جلد الوليد ثمانين وهذا تعارض، غير أن حديث حضين أولى؛ لأنه مفصل في مقصوده، [ ص: 136 ] حسن في مساقه، وساقه رواية مساق المتثبت.

                                                                                              والأقرب أن بعض الرواة وهم في حديث المسور ، فوضع (ثمانين) مكان (أربعين).

                                                                                              و(قول علي : جلد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعين وأبو بكر أربعين، وكل سنة) دليل واضح على اعتقاد علي - رضي الله عنه - صحة إمامة الخليفتين أبي بكر ، وعمر ، وأن حكمهما يقال عليه: سنة; خلافا للرافضة والشيعة ، وهو أعظم حجة عليهم; لأنه قول متبوعهم; الذي يتعصبون له، ويعتقدون فيه ما يتبرأ هو منه.

                                                                                              وكيف لا تكون أقوال أبي بكر وعمر وأفعالهما سنة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر )؟!.

                                                                                              و(قوله: وهذا أحب إلي ) ظاهره: أنه أشار إلى الأربعين التي أمر بالإمساك عليها. وقد روي: أن المعروف من مذهبه الثمانون، فيكون له في ذلك القولان، لكنه دام هو على الثمانين لما كثر الإقدام على شرب الخمر.

                                                                                              وحاصل هذا الاختلاف في الأحاديث وبين الصحابة راجع إلى أنه لم يتقدر في الخمر حد محدود، وإنما كان الأدب والتعزير، لكن استقر الأمر: أن أقصى ما بلغ فيه إلى الثمانين، فلا يزاد عليها بوجه، وقد نص على هذا المعنى السائب بن يزيد فيما خرجه البخاري قال: كنا نؤتى بالشارب على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإمرة أبي بكر ، وصدرا من خلافة عمر ، فنقوم إليه بأيدينا، ونعالنا، وأرديتنا، حتى كان آخر إمرة عمر ، فجلد أربعين، حتى إذا عتوا وفسقوا جلد ثمانين.

                                                                                              وعلى هذا: [ ص: 137 ] فلا ينبغي أن يعدل عن الثمانين; لأنه الذي استقر عليه آخر أمر الصحابة أجمعين.




                                                                                              الخدمات العلمية