الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الفصل الثاني : أن المحرم إذا وطئ في الإحرام فسد حجه والإحرام باق عليه ، وعليه أن يمضي فيه فيتمه ، ويكون حكم هذا الإحرام الفاسد حكم الإحرام الصحيح : في تحريم المحظورات ، ووجوب الجزاء بقتل الصيد وغيره من المحظورات ، ثم عليه قضاء الحج من قابل ، وعليه أن يهدي بدنة .

قال ابن عبد البر : أجمعوا على أن من وطئ قبل الوقوف بعرفة فقد أفسد حجه وعليه قضاء الحج والهدي قابلا . قال بعض أصحابنا : لا نعلم في وجوب القضاء خلافا في المذهب ولا في غيره ، ونصوص أحمد وأصحابه توجب قضاء الحجة الفاسدة أكثر من أن تحصر . وقد ذكر أبو الخطاب : الحكم هذا ، كما ذكر غيره في المناسك ، وقال - في الصيام - : من دخل في حجة تطوع ، أو صوم تطوع : لزمه إتمامها ، فإن أفسدهما ، أو فات وقت الحج ، فهل يلزمه القضاء ؟ على روايتين . وأصحابنا : يعدون هذا غلطا ، وإنما الروايتان في الفوات خاصة ، وفي الإحصار أيضا ؛ لما روى يحيى بن أبي كثير قال : " أخبرني يزيد بن نعيم ، أو زيد بن [ ص: 228 ] نعيم - شك الراوي - أن رجلا من جذام جامع امرأته - وهما محرمان ، فسأل الرجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال لهما : اقضيا نسككما ، واهديا هديا ، ثم ارجعا حتى إذا جئتما المكان الذي أصبتما فيه ما أصبتما فتفرقا ولا يرى واحد منكما صاحبه وعليكما حجة أخرى فتقبلان حتى إذا كنتما بالمكان الذي أصبتما فيه ما أصبتما فأحرما وأتما نسككما واهديا " رواه أبو داود في المراسيل .

وقال ابن وهب : أخبرني ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن عبد الرحمن بن حرملة الأسلمي ، عن سعيد بن المسيب : " أن رجلا من جذام [ ص: 229 ] جامع امرأته - وهما محرمان - فسأل الرجل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال لهما : " أتما حجكما ، ثم ارجعا وعليكما حجة أخرى من قابل حتى إذا كنتما في المكان الذي أصبتما فأحرما وتفرقا ، ولا يؤاكل واحد منكما صاحبه ، ثم أتما مناسككما ، واهديا " رواه النجاد . وهذا المرسل قد شهد له ظاهر القرآن ، وعمل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وعوام علماء الإسلام .

وأيضا : فإنه إجماع الصحابة والتابعين ؛ عن يزيد بن جابر قال : " سألنا مجاهدا عن الرجل يأتي امرأته - وهو محرم - قال : كان على عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال عمر : يقضيان حجهما - والله أعلم بحجهما - ثم يرجعان حلالا كل واحد منهما لصاحبه حلالا حتى إذا كان من قابل حجا وأهديا وتفرقا من حيث أصابا فلم يجتمعا حتى يقضيا حجهما .

[ ص: 230 ] وعن عمر بن أسيد عن سيلاه قال : " كنت عند عبد الله بن عمرو فأتاه رجل فقال : أهلكت نفسي فأفتني إني رأيت امرأتي فأعجبتني فوقعت عليها ونحن محرمان ؟ فقال له : هل تعرف ابن عمر ؟ قال : لا ، فقال لي : اذهب به إلى ابن عمر ، فانطلقت معه إلى ابن عمر ، فسأله وأنا معه عن ذلك ، فقال له ابن عمر : أفسدت حجك انطلق أنت وأهلك مع الناس فاقضوا ما يقضون وحل إذا حلوا فإذا كان العام المقبل فحج أنت وامرأتك واهديا هديا ، قال : فإن لم تجدا فصوما ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتما ، فرجع إلى عبد الله بن عمرو ، فقال : هل تعرف ابن عباس ؟ قال : لا ، قال : فاذهب به إلى ابن عباس فسله ، قال : فذهب إلى ابن عباس ، فسأله وأنا معه ، فقال له مثل قول ابن عمر ، فرجع إلى عبد الله بن عمرو فقال : أفتني أنت ، فقال : هل عسى أن أقول إلا كما قال صاحباي .

وعن أبي بشر عن رجل من قريش - من بني عبد الدار - قال : بينما نحن جلوس في المسجد الحرام إذ دخل رجل وهو يقول : يا لهفة يا ويلة ، فقيل له : ما شأنك ؟ فقال : وقعت على امرأتي وأنا محرم ، فقيل له : ائت جبير بن مطعم ، فإنه يصلي عند المقام ، فأتاه فقال له : أحرمت حتى إذا بلغت الصفاح [ ص: 231 ] زين لي الشيطان فوقعت على امرأتي ، فقال : أف لك لا أقول لك فيها شيئا ، وطرح بيده ، فقيل له : ائت ابن عباس - ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في زمزم ، فسله فيفرج عنك ، قال : فدفعه الناس حتى أدخلوه على ابن عباس ، فقال : يا ابن عباس ، وقعت على امرأتي وأنا محرم ، فقال : اقضيا ما عليكما من نسككما هذا ، وعليكما الحج من قابل فإذا أتيتما على المكان الذي فعلتما فيه ما فعلتما فتفرقا ولا تجتمعان حتى تقضيا نسككما وعليكما الهدي جميعا ، قال أبو بشر : فحدثت به سعيد بن جبير ، فقال : صدقت هكذا كان يقول ابن عباس .

وعن عبد العزيز بن رفيع سأل رجل ابن عباس عن محرم جامع قال : يمضيان لحجهما ، وينحر بدنة ، ثم إذا كان من قابل فعليه الحج ، ولا يمران على المكان الذي أصابا فيه ما أصابا إلا وهما محرمان ، ويتفرقا إذا أحرما . رواهن سعيد .

وعن مالك أن عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وأبا هريرة : سئلوا عن رجل أصاب أهله وهو محرم بالحج ، فقالوا : ينفذان لوجههما حتى يقضيا حجهما ، ثم عليهما حج قابل والهدي ، قال علي : فإذا أهلا بالحج من عام قابل تفرقا حتى يقضيا حجهما . [ ص: 232 ] وذلك ؛ لأن الله أمر بإتمام الحج والعمرة ، فيجب عليهما المضي فيه امتثالا لما أوجبته هذه الآية ، وعليهما القضاء لأنهما التزما حجة صحيحة ، ولم يوفيا ما التزماه ، فوجب عليهما الإتيان بما التزماه أولا ، ووجب الهدي ؛ لأن كل من فعل شيئا من المحظورات : فعليه دم ، ووجب القضاء من قابل ؛ لأن القضاء على الفور . هذا هو المذهب المنصوص ، وسواء قلنا : الحج المبتدأ على الفور ، أو على التراخي ؛ لما تقدم من إجماع الصحابة على ذلك ؛ ولأن الأداء كان قد وجب فعله بالشروع فيه ، فصار واجبا على الفور ، والقضاء يقوم مقام الأداء ؛ ولأن ... .

التالي السابق


الخدمات العلمية