الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا ( 30 ) وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا ( 31 ) )

يقول تعالى ذكره : فلما قال قوم مريم لها ( كيف نكلم من كان في المهد صبيا ) وظنوا أن ذلك منها استهزاء بهم ، قال عيسى لها متكلما عن أمه : ( إني عبد الله آتاني الكتاب ) . وكانوا حين أشارت لهم إلى عيسى فيما ذكر عنهم غضبوا .

كما حدثني موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، قال : لما أشارت لهم إلى عيسى غضبوا ، وقالوا : لسخريتها بنا حين تأمرنا أن نكلم هذا الصبي أشد علينا من زناها ( قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا ) .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عمن لا يتهم ، عن وهب بن منبه ( قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا ) فأجابهم عيسى [ ص: 190 ] عنها فقال لهم ( إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا ) . . . الآية .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله ( قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا ) قال لهم ( إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا ) فقرأ حتى بلغ ( ولم يجعلني جبارا شقيا ) فقالوا : إن هذا لأمر عظيم .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول ( كيف نكلم من كان في المهد صبيا قال إني عبد الله ) لم يتكلم عيسى إلا عند ذلك حين ( قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا )

وقوله ( آتاني الكتاب ) يقول القائل : أوآتاه الكتاب والوحي قبل أن يخلق في بطن أمه؟ فإن معنى ذلك بخلاف ما يظن ، وإنما معناه : وقضى يوم قضى أمور خلقه إلي أن يؤتيني الكتاب .

كما حدثني بشر بن آدم ، قال : ثنا الضحاك ، يعني ابن مخلد ، عن سفيان ، عن سماك ، عن عكرمة ( آتاني الكتاب ) قال : قضى أن يؤتيني الكتاب فيما مضى .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : أخبرنا سفيان ، عن سماك ، عن عكرمة ، في قوله ( إني عبد الله آتاني الكتاب ) قال : القضاء .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، في قوله ( إني عبد الله آتاني الكتاب ) قال : قضى أن يؤتيني الكتاب .

وقوله ( وجعلني نبيا ) وقد بينت معنى النبي واختلاف المختلفين فيه ، والصحيح من القول فيه عندنا بشواهده فيما مضى بما أغنى عن إعادته .

وكان مجاهد يقول في معنى النبي وحده ما حدثنا به محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : النبي وحده الذي يكلم وينزل عليه الوحي ولا يرسل .

وقوله ( وجعلني مباركا ) اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معناه : وجعلني نفاعا . [ ص: 191 ]

ذكر من قال ذلك :

حدثني سليمان بن عبد الرحمن بن حماد الطلحي ، قال : ثنا العلاء ، عن عائشة امرأة ليث ، عن ليث ، عن مجاهد ( وجعلني مباركا ) قال : نفاعا .

وقال آخرون : كانت بركته الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

ذكر من قال ذلك :

حدثني سليمان بن عبد الجبار ، قال : ثنا محمد بن يزيد بن خنيس المخزومي ، قال : سمعت وهيب بن ابن الورد مولى بني مخزوم ، قال : لقي عالم عالما لما هو فوقه في العلم ، قال له : يرحمك الله ، ما الذي أعلن من علمي ، قال : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإنه دين الله الذي بعث به أنبياءه إلى عباده ، وقد اجتمع الفقهاء على قول الله : ( وجعلني مباركا أينما كنت ) وقيل : ما بركته؟ قال : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أينما كان .

وقال آخرون معنى ذلك : جعلني معلم الخير .

ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : ثنا سفيان في قوله ( وجعلني مباركا أين ما كنت ) قال : معلما للخير .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد ، قوله ( وجعلني مباركا أين ما كنت ) قال : معلما للخير حيثما كنت .

وقوله ( وأوصاني بالصلاة والزكاة ) يقول : وقضى أن يوصيني بالصلاة والزكاة ، يعنى المحافظة على حدود الصلاة وإقامتها على ما فرضها علي . وفي الزكاة معنيان : أحدهما : زكاة الأموال أن يؤديها . والآخر : تطهير الجسد من دنس الذنوب; فيكون معناه : وأوصاني بترك الذنوب واجتناب المعاصي .

وقوله ( ما دمت حيا ) يقول : ما كنت حيا في الدنيا موجودا ، وهذا يبين عن أن معنى الزكاة في هذا الموضع : تطهير البدن من الذنوب ، لأن الذي يوصف به عيسى صلوات الله وسلامه عليه أنه كان لا يدخر شيئا لغد ، فتجب عليه زكاة المال ، إلا أن تكون الزكاة التي كانت فرضت عليه الصدقة بكل ما فضل عن قوته ، فيكون ذلك وجها صحيحا . [ ص: 192 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية