الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        عولمة الجريمة (رؤية إسلامية في الوقاية)

        الأستاذ الدكتور / محمد شلال العاني

        تقديم

        عمر عبيد حسنة

        الحمد لله الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، فطر الإنسان في أحسن تقويم، فقال تعالى: ( ( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ) ) (التين:4) وجعله أكرم خلقه، قال تعالى: ( ( ولقد كرمنا بني آدم ) ) (الإسراء:70)، ومنحه الحرية والإرادة والقدرة على الاختيار فـ ( ( لا إكراه ) ) ، وبين له معالم طريق الخير والعدل ومخاطر طريق الشر والظلم والإجرام، فهداه النجدين، قال تعالى: ( ( وهديناه النجدين ) ) (البلد:10)، وناط سلوكه بإرادته وقدرته، وملكه مفتاح التغيير الذاتي والإمكانية على الارتقاء والتغيير المجتمعي الذي يجيء دائما ثمرة للتغيير الذاتي، فقال تعالى: ( ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) ) (الرعد:11)، فالناس، في الرؤية الإسلامية، هـم الفاعلون للتغيير والتنمية، وجعل الفوز والفلاح والطهر والعدل منوطا بالعمل على بناء الاستقامة، فقال تعالى: ( ( ونفس وما سواها ) ( فألهمها فجورها وتقواها ) ( قد أفلح من زكاها ) ) (الشمس:7-9)، كما جعل السقوط في الرذيلة والظلم [ ص: 5 ] والفساد والخيبة والجريمة من فعل الإنسان وكسبه أيضا، فقال تعالى: ( ( وقد خاب من دساها ) ) (الشمس:10)، فالتزكية والتدسية من فعل الإنسان وخياره ومسئوليته.

        والصلاة والسلام على المبين عن ربه ما أنزل إليه، الذي أخبر، وهو الصادق المصدوق، عن معرفة الوحي التي تفيد علم اليقين، أن الأصل في خلق الإنسان وقابليته الطهارة والفطرة على دوافع الخير، وأن الميل إلى الجريمة وبروز نوازع الشر هـي اغتيالات خارجة عنه، وثمرة لتربية وبيئة اجتماعية منحرفة، وأن مخزون الفطرة وقابليات الإنسان المركوزة فيه تؤهله للارتقاء والنمو والتحصين ضد الجريمة، وتفتح آفاقا وأمداء واسعة لعملية الصلاح والإصلاح، كما تفتح الباب على مصراعيه أمام المهتمين بالشأن التربوي والثقافي والإصلاحي، وتبعث الأمل في الإصلاح حتى بالنسبة للمنحرفين والمجرمين، فالجريمة ليست أمرا عضويا فطريا، كما ساد في بعض الفلسفات من الحديث عن المجرم بالفطرة وبيان صفاته العضوية وخصائصه النفسية، وإنما هـي مرض وإصابة اجتماعية دخيلة قابلة للعلاج، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه (البيئة الاجتماعية) يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه... ) (أخرجه البخاري ).

        كما ورد في الحديث القدسي، قوله تعالى: ( ... إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم ... ) (أخرجه مسلم )، [ ص: 6 ] حيث لا يقبل العقل ولا الشرع بأن يخلق الله الإنسان مجرما، ومن ثم يحاسبه على فعله الجريمة، كما لا يعقل أن يسلب اختياره ويبرمج على فعل الخير كالملائكة ومن ثم يكافأ على فعل ليس من كسبه واختياره.

        وبعد:

        فهذا «كتاب الأمة» السابع بعد المائة: «عولمة الجريمة.. رؤية إسلامية في الوقاية» للأستاذ الدكتور محمد شلال العاني ، في سلسلة «كتاب الأمة» التي يصدرها مركز البحوث والدراسات بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في دولة قطر، في محاولاته الدائبة لدراسة أسباب التخلف وكشف آثاره، والتعرف على عوامل النهوض، من خلال سنن الله تعالى في الأنفس والآفاق، وبناء التفكير الاستراتيجي القادر على التحليل والمقارنة والمقايسة والنقد والاكتشاف وتحديد مواطن الخلل، وامتلاك القدرة على الرؤية المستقبلية وإبصار العواقب، ودقة القراءة وحسن التقدير للواقع، والمواءمة بين الإمكانات المتوفرة والأهداف المرجوة والفرص المتاحة والظروف المحيطة.

        لقد أصبح من الأهمية بمكان إعادة النظر في تحرير مفهوم « أهل الحل والعقد » والصفات والمواصفات والاختصاصات المطلوبة بحسب القضايا المطروحة، وتحقيق القناعة في الذهنية المسلمة بانتهاء مرحلة الرجل الملحمة، الذي يفهم بكل شيء، ويحسن كل شيء، ويجيب عن كل شيء، وبذلك يحول الأمة إلى قطيع للتلقي أو إلى إقطاعات بشرية لا يحسن التصرف بها ووضع البرامج والأوعية الصحيحة لحركتها. [ ص: 7 ]

        إن نقطة الانطلاق نحو النهوض تبدأ من محاولة تأسيس وتأصيل مفهوم «الاختصاص وتراكم الخبرات» المتأتي من تقسيم العمل، والتحول من مرحلة الحماس إلى مرحلة الاختصاص، ومن فورة الخطباء إلى حقبة الخبراء والفقهاء، وإعادة بناء شبكة العلاقات الاجتماعية، التي بدأت تتآكل وتتراجع بسبب غياب الاختصاص وعدم القناعة الكاملة بأهمية تقسيم العمل وما يتولد عن غيابها من نمو الروح الفردية وغلبة صفات الكبر والعجب وما تورثه من الاستغناء بالنفس عن الآخرين، وبذلك تصبح مفاهيم الأخوة وحقوقها شعارات بلا شعائر وعناوين بلا مضامين، حيث يبرز في مراحل التخلف إنسان الحق ويغيب إنسان الواجب، وتتقدم الغريزة وتتراجع الفكرة، ويعظم الاستهلاك ويتضاءل الإنتاج، وتسود حالة الوهن والتخلف الحضاري، وتصبح الثقافة السائدة: حب الدنيا (حمى الاستهلاك وقضاء الشهوات) وكراهية الموت (غياب الأعمال البانية والإنتاج القويم).

        وما لم يستيقن العقل المسلم اليوم بقيمة الاختصاص ودوره في النهوض والتنمية ، وما لم تشع ثقافة الاختصاص، الذي ينتح بالضرورة تقسيم العمل وإتقانه والإبداع فيه، في الذهنية الجماهيرية والاجتماعية الإسلامية، وما لم نكن قادرين على إحداث هـذه النقلة النوعية حقا في إحياء مفهوم « فروض الكفاية » وإدراك مسئوليتها وثوابها وأبعادها، فسوف تستمر حالة التخلف والوهن والانحطاط، وسوف لا ينفعنا الاستيراد والتكديس وملء أسواقنا ببضائع وإنتاج غيرنا وظهورنا بمظاهر الترقي والتقدم؛ لأن المدقق في [ ص: 8 ] ذلك والقادر على تجاوز الصورة إلى الحقيقة يدرك بسهولة ويسر أن ذلك من علامات التخلف والوهن وطغيان حالة الاستهلاك، التي تؤدي إلى تكريس حالة التخلف والاستنقاع الحضاري.

        ونحن هـنا لا ندعو إلى الانكفاء والانغلاق وعدم الإفادة من إنتاج الآخرين وتلمس سبل تقدمهم وإنتاجهم، فذلك مغاير للسنن الحضارية والتبادل المعرفي والتفاعل الثقافي والحضاري، كما أنه مخالف لتعاليم الشريعة وقيم الوحي التي تؤكد أن ( الحكمة ضالة المؤمن ) (أخرجه الترمذي )، وكأنها المعرفة الغائبة التي يجتهد المؤمن ويبذل وسعه ليبحث عنها ويصل إليها وينفعل ويهتدي بها، لكن الذي ندعو إليه أنه لا بد أن يسبق ذلك بناء الإنسان القادر على امتلاك أدوات البحث ومعايير الأخذ والرد، الإنسان الذي يمتلك العقل المميز، الذي يحسن إدراك ما هـي مواصفات الحكمة، وكيف يصل إليها، وكيف يفيد منها ويوظفها ويرتقي بها، ويجد الحل لمعادلته الصعبة باستعمالها.

        إن الانفتاح والتعامل مع (الآخرين) يخصب الذهن، ويغني العقل، ويختصر الزمن، ويجنب الخطأ، ويقود إلى الصواب، وأن الانكفاء غيبوبة وخروج من الحياة وتخشب وتخلف وانطفاء.

        ولعلنا نقول هـنا: بأن الرسالة الخاتمة التي جاءت ثمرة النبوة التاريخية، أخذت فيها قصص الأنبياء من لدن آدم ، عليه السلام، من المساحات التعبيرية والدعوة إلى الاعتبار الحظ الأوفر، حسبها أنها أنضجت قوانين [ ص: 9 ] الحركة الاجتماعية في عقل المسلم المؤمن، واختصرت له أحقابا زمنية، وأضافت عقولا إلى عقله، وأعمارا إلى عمره، وتجارب إلى تجربته، وبصرته بسبيل المجرمين، ليأخذ حذره ويحدد طريقه، قال تعالى: ( ( ولتستبين سبيل المجرمين ) ) (الأنعام:55).

        ولو أحسنا قراءة هـذا النص القرآني: ( ( قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ) ( هذا بيان للناس ) ) (آل عمران:137-138)، وتدبرناه كما ينبغي، لفتح أمامنا طريق العلاج وبصرنا بسبل التدبير، ولأدركنا تماما أهمية استيعاب التجارب الأخرى، ذلك أن المسلم المخاطب بهذا النص ابتداء هـو الذي يعيش مع الموحى إليه، ويعايش قيادته للبشرية ورصيده من النبوة، جماع الرسالات السماوية، ومع ذلك يطلب إليه السير في الأرض، واستطلاع مسيرة البشرية، واكتشاف قوانين الحركة الاجتماعية وسنن السقوط والنهوض، لتكون في ذلك هـداية للارتقاء والاتعاظ ووقاية من السقوط والجريمة ( ( وموعظة للمتقين ) ) .

        والحقيقة الحاضرة بقوة في مجتمعات المسلمين اليوم، ومنذ عهد بعيد، أن الإحساس بالتخلف والتقهقر والتراجع والاستنقاع الحضاري، الذي استنبت الكثير من الظواهر السلبية والإشكاليات الأمنية، يكاد يشمل جميع أفراد الأمة، على مختلف مستوياتهم، حيث الدلالات عليه واضحة في [ ص: 10 ] ما تفرزه من حالات الغضب والانفعال، وما تورثه من التبرم والشكوى، والندب على الأطلال، والبكاء والاستبكاء على الماضي، وما يفرزه ذلك أيضا من حماس وخطب، وما يترتب عليه من تبديد للطاقة واستمرار للحركة في الفراغ.

        واللافت للنظر أنه يستوي في الإصابة من يهربون إلى الماضي للاحتماء ومعالجة مركب النقص فيدخلون بذلك غرفة الانتظار لمجئ البطل المنقذ والحاكم الملهم أو الرجل الملحمة الأسطورة، الذي يخرق العادة وينهي حالة التخلف ويشكل العلاج لكل الإصابات، أو من يهربون ويلوذون (بالآخر) للاستنجاد وطلب الإنقاذ ويتوهمون بأن الاستيراد للأفكار والأشياء والتكديس لها يعوض عن الإبداع والاستنبات والإنتاج، وبكلمة مختصرة: يحسبون التورم عافية، وهو في حقيقته تكريس للتخلف وإطفاء للفاعلية وتغييب للقلق السوي.

        وفي تقديرنا أن إشكالية التخلف سوف لن تحل مالم نتحول من الإحساس بالمشكلة إلى الإدراك لأبعادها وأسبابها وآثارها، ومن ثم نفكر بوضع خطة تأخذ بالاعتبار الزمن كعامل أساس وقيمة، كما تضع في اعتبارها الإمكانات المتاحة والظروف المحيطة والواقع بكل إشكالاته وتعقيداته، تهتدي في ذلك بقيم الوحي، وتستبصر بتراثها، وتستصحب حكمة (الآخر). [ ص: 11 ]

        وقد تكون الإشكالية في كثير من الأحيان كامنة في سوء الفهم أو سوء الإدراك - كما أسلفنا – لأسباب حالة التخلف وأبعادها والتوهم بأنها حالة طارئة أو جزئية أو جانبية مؤقتة، والحقيقة التي لا بد من إدراكها - فيما نرى - وتمثل الخطوة الأولى باتجاه العلاج أن التخلف حالة عامة مركبة، تتجلى في كل المجالات، وتنعكس على كل الأنشطة، وتحكم الكثير من السلوكيات، وترتهن العقول، إذ لا يمكن أن يتصور عقلا وواقعا التجاور بين النمو والتقدم في جانب والتخلف والتراجع والعجز في جانب آخر، فالسلوك لا يتجزأ، والتنمية والتقدم أيضا حالة شاملة، كما أن عملية الوهن والتخلف والانحطاط حالة شاملة أيضا، فهي تصبح أقرب للوباء والمناخ الاجتماعي المتوارث الذي ينشأ عليه الأفراد.

        والذي يبعث الأمل، ويحمل الرجاء للخروج من نفق التخلف والبدء في عملية النهوض والإقلاع من جديد، وجود الخمائر الاجتماعية ذات البصيرة، القادرة على التفاعل وتوسيع دوائر الخير، إضافة إلى امتلاكها المعايير المعصومة الخالدة القادرة على الإنتاج في كل زمان ومكان، فالاستقراء الحضاري يثبت أن الأمة كلما استمسكت بقيمها في الكتاب والسنة وأحسنت التعامل معها واستطاعت أن تتجاوز عملية التقليد وعقليات التخلف، التي تنعكس على قراءة القيم في الكتاب والسنة وتفسيرها، وامتلكت الأدوات الصحيحة للإفادة من التجربة التاريخية [ ص: 12 ] الحضارية السابقة للأمة، واستطاعت أن تضع الحاضر في موضعه الملائم من المسيرة الحضارية، كلما نهضت.

        يضاف إلى ذلك التفاعل العالمي اليوم، الذي بلغ شأوا في التأثير والتأثر وتحريك عوامل البعث الحضاري، الذي لم يعد ينفع معه الركود والقعود في غرف الانتظار؛ لأن ذلك يعني الموت، ذلك أن الاحتماء الأعشى بالتراث والاستمساك العاطفي والحماس بالقيم والمرجعيات سوف لا يغني شيئا، لأن صلاحه إنما كان لعصره، والإفادة منه لحاضر الأمة ومستقبلها إذا أمكن الامتداد بها والبناء عليه.. والخلود يبقى للقيم الثابتة في الكتاب والسنة وليس لإنتاج البشر.. والخلود هـو القدرة على تنزيل القيم على الواقع، بمشكلاته وإصاباته، بوضع الخطط والبرامج التي تسهم بالنمو وتقي المجتمع من السقوط.

        وفي تقديرنا أن الوصول إلى مجتمع التقدم والأمن والتنمية ، والانفكاك من مناخ التخلف والخروج عليه، يبدأ من عودة الإيمان بالفكرة، والقناعة بأن الإرادة أقوى من ضغط الشهوة، للوصول إلى مرحلة الاستمتاع بالإنتاج أكثر من الاستمتاع بالاستهلاك، واعتبار الإنتاج هـو معيار التقدم وليس مستوى الاستهلاك، أو بعبارة أخرى: بناء إنسان الواجب قبل إقامة إنسان الحق.

        هذا الجانب يكاد يرتكز حول إعادة بناء عالم الأفكار والقناعات بكل أبعاده، الأمر الذي يتطلب توفير مناخ الأمن الاجتماعي والأمن السياسي والأمن الاقتصادي، وأولا وقبل كل شيء الأمن الفكري، الذي [ ص: 13 ] يسترد إنسانية الإنسان ويمنحه حقه في الاختيار والحرية تحت شعار: ( ( لا إكراه ) ) ، ذلك أن الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي والإرهاب الفكري والجهل المعرفي هـو الذي يوقف النمو ويقتل الإبداع ويقضي على إنسانية الإنسان.. إنها سلسلة من الجرائم الكبرى، تبعث القلق والخوف والاستلاب وإهدار كرامة وإنسانية الإنسان.. هـذه الجرائم الكبرى، أو الكبائر، هـي التي تعبث بأمن المجتمع وتكرس التخلف في جميع مجالاته.

        وقد تكون الإشكالية - كما أسلفنا- في الخلل الواقع في عالم الأفكار قبل عالم الأشياء، ولعلنا نقول هـنا: إن التفاعل الذي يحدثه مناخ التخلف وما ينتجه في أفكار يتناقض عكسا مع معادلة التقدم والنهوض وإنتاج أفكار النهضة، وقد يقود إلى نوع من الوهم والالتباس بأن التقدم والتغيير وحسم إشكالية التخلف يمكن أن يتحقق باستيراد الأشياء أو بتغيير الأشخاص، نتيجة ثورة رعاع، أو انقلاب عسكر، أو تدخل قوة باطشة، وبذلك تختل المعادلة ويتحول سبب التخلف ليصبح وسيلة التقدم والنهوض.

        إن مناخ التخلف ينشئ عالم أفكار متخلف، وعالم الأفكار المتخلفة التقليدية البعيدة عن كل إبداع أو اجتهاد أو رؤية أو اكتشاف هـو الذي يكرس التخلف، فيصبح كل منهما لزيما ل (لآخر)، هـو مقدمه وهو نتيجة في الوقت نفسه. [ ص: 14 ]

        وقضية النهوض والأمن والتنمية ، بكل أبعادها وجوانبها، يبقى محورها حرية الإنسان وكرامة الإنسان؛ لأن ذلك هـو البذرة الأساس التي تنتج كل شيء، وأن الظلم الاجتماعي والاستبداد السياسي يفسد كل شيء، بما في ذلك الإنسان محور التغيير والتنمية ووسيلتها وهدفها، فتظهر الصورة المزيفة، ويكثر النفاق الاجتماعي، وتغيب الحقيقة، وتنطفئ الفاعلية، ويتقدم الاستهلاك، ويتراجع الإنتاج، ويعم الوهن الحضاري، ويبرز الإنسان الأمة، الرجل الملحمة، الذي لا تسعه الألقاب، ليصبح هـو الأنموذج المنقذ، والإمام المنتظر، وتسود الألقاب الكبيرة في مجال السياسة والتدين والثقافة، من مثل: القائد الملهم، والزعيم الأوحد، إلى آخر هـذه القائمة من الألقاب الكبيرة والالتباسات المبهمة في حياة الأمة، والوصايات الخطيرة التي ترتهن عقل الأمة، والتي لا تقتصر على البعد السياسي وإنما تحتل الشأن الديني أيضا.

        إنها الجرائم الحضارية، أو ما يمكن أن نطلق عليها: «الجرائم غير المسماة» التي تساهم بامتداد التخلف وتأسيسه وتأصيله، ذلك أنه على الرغم من أن ادعاء وجود الرجل الملحمة في هـذا العصر يعتبر من التخريف والأساطير القديمة المعاصرة، فإن هـذه الفكرة أو هـذا الادعاء أو هـذه الجريمة الثقافية والسياسية والاجتماعية - إن صح التعبير- سوف تساهم بتعطيل الكثير من المواقع التي يغشاها الرجل الملحمة، ولا يكاد يحفظ عناوينها ناهيك عن استحالة توفر وقته وقدرته على شغلها. لذلك سوف يتحول هـذا [ ص: 15 ] الفرد الأسطورة، أو البطل الأسطورة، إلى إشكالية وجريمة اجتماعية وسياسية ممتدة الآثار.

        ونكاد نرى هـنا أن الطاغوت المتمثل في الاستبداد السياسي، هـو أعظم الجرائم، والحكم الشمولي والدكتاتوريات بكل أشكالها، من الزعيم الأوحد، إلى القائد الملهم، إلى قدر الأمة، يكاد يقابله أو يسير على الخط الموازي له في مجال التدين المغشوش والحكم على الأمة بالعقم، الرجل الملحمة العلامة بكل شيء، حيث أصبح يمثل أنواعا من الجبت إلى جانب الطاغوت، ذلك أن ممارسات القمع والاستبداد السياسي تترافق أو يقابلها غالبا الارتهان الفكري والتقليد والجمود، على الرغم من كم الإنتاج الفاشل والعاجز عن التغيير في المجالات السياسية والفكرية معا. إنها الجرائم الخطيرة «غير المسماة»، كما أسلفنا.

        والأمر الملفت حقا أن فكرة الزعيم الأوحد، والقائد الملهم، والإمام العلامة، لا توجد بشكل خطير ولافت إلا في المجال السياسي وصور التدين المغشوش، اللذين يشكلان مواقع التسلط (!)

        من هـنا ندرك القيمة الحضارية والنهضوية الكبرى لفك الالتباس في القيم الإسلامية بين الذات والقيمة، وموقفها الحاسم من الكهانات الدينية والسياسية، والتحذير من تسرب علل التدين التي وقعت فيها الأمم السابقة، [ ص: 16 ] فهي ليست علل تدين واستبداد ووصاية فقط بقدر ما هـي جرائم اجتماعية وثقافية وحضارية، وهي أخطر بكثير من الجرائم محدودة الأثر، أو جرائم ومعاصي الجوارح؛ لأنها جرائم الأفكار ومعاصي القلوب.

        وندرك أيضا لماذ تمحورت الحضارة الإسلامية حول القيمة المتأتاة من الوحي وليس من الذات الإنسانية، واعتبرتها معيارا ومقياسا للذات، تمحورت حول البطولة والإنجاز (القيمة) لتكون محط أنظار الجميع، وأمل الجميع في التطلع إليها والاستنهاض لبلوغها، ولم تتمركز وتحصر في حدود البطل (الذات)، الذي يحيطه الوهم الذي يغشي أعين الناس، وشيئا فشيئا ونتيجة لهذا الالتباس بين الذات والقيمة تغيب القيمة وتبرز وتتضخم الذات؛ تنتهي القيمة، فتتحول الذات إلى مقياس ومعيار، تغيب البطولة والحقيقة والقيمة ويبرز البطل الوهم الخرافة، ولعل ذلك من أخطر جرائم الفكر في حق الثقافة والحضارة والنهوض، ومن أبرز أسباب التخلف الذي يشكل المناخ الملائم للجريمة وغياب الأمن.

        وقد تكون الإشكالية اليوم، أو إشكالية الحضارة المعاصرة، ونحن جزء منها على أحسن الأحوال، إن لم نكن محلا لسلبياتها فقط لعجزنا عن محاكاة ومقاربة عوامل القوة فيها، أن «الجرائم غير المسماة» هـي سمتها على مستوى الإنسان، في السياسة، والاقتصاد، والاجتماع، والثقافة، حتى أنها في وجهتها المعرفية وإنجازها العلمي، وإبداعها التقني، نرى أنها تقتصر على إنتاج وسائل السيطرة، والظلم، والتفوق، والهيمنة، والتسلط والتمكن والاستكبار، إلى [ ص: 17 ] آخر هـذه القائمة التي يمكن أن تضاف إلى قائمة الجرائم الحضارية التي تستهدف إنسانية الإنسان، وتهدر كرامته، وتصادر حريته، وتمارس إكراهه، فإذا كانت الجرائم المادية، تستهدف الإنسان الفرد - كما أسلفنا - فإن الجرائم الثقافية والحضارية والسياسية اليوم تستهدف أمن الأمم واستقلالها واقتصادها وثقافتها وتاريخها، وتحولها إلى توابع تدور في فلك الأقوى المهيمن الذي يستغلها للتزود بالغذاء والكساء والطاقة، وحتى السواعد والأدمغة، لتكون في خدمة قوى الاستكبار المهيمنة.

        لذلك نقول: إن البحث في الوقاية من الجرائم المادية أو الفردية، على ضرورة ذلك وأهميته وخطورة تلك الجرائم ودورها في هـدم الأمن النفسي والاجتماعي، فإن ذلك إذا ما قيس بالجرائم التي تمارسها قوى الاستكبار والتحكم، وقد لا يوجد من يستطيع أن يقول لا أو حتى يسميها بأسمائها، تعتبر نوعا من السخريات الصغيرة والملهاة في كثير من الأحيان، أو يمكن اعتبارها من اللمم أمام الكبائر أو الجرائم الدولية على مستوى السياسة والثقافة والاقتصاد، التي تمارسها القوى المهيمنة اليوم باسم « العولمة ».

        ومهما شرقنا أو غربنا، ومهما كنا بارعين في فلسفة الجرائم الاجتماعية أو السياسية ووضع المسوغات لها، فإن ذلك لا يغني من الحق شيئا، ويبقى الإنسان وأمنه النفسي والسياسي والاجتماعي والغذائي هـو مقياس الحضارة ومعيارها، ويبقى هـذا الأمن من أجل النعم التي تقتضي شكر المنعم [ ص: 18 ] طلبا لاستمرار عونه ورضاه للمحافظة عليها، يقول تعالى: ( ( فليعبدوا رب هـذا البيت ) ( الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ) ) (قريش:3-4).. إنه خطاب لقريش، التي كانت تقيم في هـذه البقعة من الأرض، التي سوف تشكل الأنموذج، في مهبط الوحي، محج الناس، حيث الشعار الدائم قوله تعالى: ( ( ومن دخله كان آمنا ) ) (آل عمران:97).

        لذلك نرى أن خلود الحضارة الإسلامية، وشخوص تجربتها التاريخية، وعدم غيابها عن الواقع الإنساني، رغم كل الظروف والحروب والمواجهات والجرائم بحقها- من أبنائها أولا وثانيا وثالثا، قبل كيود (الآخر) لأن جرائم أعدائها إنما تنفذ غالبا بيد أبنائها بعد صنع قابلياتهم لذلك- إنما كان بسبب ما أصلته من وحدة الجنس البشري وإلغاء التمييز الذي يعتبر بؤرة للجرائم وتسلط الإنسان على الإنسان، وما أسسته من الحرية والمساواة والعدالة، وما قصدت إليه من إلحاق الرحمة بالعالمين، ذلك أن الغاية الكبرى من الرسالة الإسلامية والفعل الحضاري الإسلامي، الذي يعتبر من تجلياتها وتجسيدها ومعيار خيريتها، هـو إلحاق الرحمة بالعالمين، يقول تعالى: ( ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) ) (الأنبياء:107).

        فالرحمة والتراحم والإحساس بحاجات (الآخر) والنهوض لقضائها هـي أعلى درجات الأمن والسلام والتعاون والمساواة، ومن ثمراتها منح حرية [ ص: 19 ] المعتقد وبناء إرادة الاختيار، فالمجتمع الإسلامي المنشود ليس مجتمع الأمن والمساواة والعدل فحسب، وإنما هـو مجتمع الرحمة والتراحم والإحسان، وهو مرتبة فوق مرتبة العدل، وفي ضوء ذلك يمكن أن نقرأ كلمة الإمام العالم العارف ابن القيم ، رحمه الله، بكل تفكر وإمعان، حيث يقول: «إن الشريعة مبناها وأساسها مصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة».

        وبالإمكان القول هـنا: بأن مقاصد الشريعة، التي تهدف إلى تحقيق مصالح العباد، في معاشهم ومعادهم، هـي محور الأحكام في الأمر والنهي، في العبادات والمعاملات والآداب وتوصيف الجنايات وتشريع العقوبات.

        وإذا أمعنا النظر في مقاصد الشريعة، التي أسماها بعض الفقهاء بالكليات الخمس، أو الضروريات الخمس: النفس (حق الحياة)، الدين (حق حرية الاعتقاد)، العقل (حق حرية التفكير والتعبير)، العرض (حق النسل والزواج)، المال (حق التملك والتصرف)، التي لا تستقيم الحياة ولا يأمن الناس إلا بتوفرها وحمايتها، نراها جميعا تتمحور حول حفظ حقوق الإنسان وحماية إنسانية الإنسان وتحقيق كرامة الإنسان، يمكننا القول في ضوء ذلك: إن حماية حقوق الإنسان، وإلحاق الرحمة به، وتحقيق كرامته، وإطلاق حريته وإرادته، وإن أي انتهاك لها أو عدوان عليها، يعتبر جريمة كبرى، [ ص: 20 ] وخرقا لحدود الله، قال تعالى: ( ( تلك حدود الله فلا تعتدوها ) ) (البقرة:229) - أما بالنسبة للجرائم، فيقول تعالى: ( ( تلك حدود الله فلا تقربوها ) ) (البقرة:187) - تستحق العقاب في الدنيا والعذاب في الآخرة، لمن ينجو من عقاب الدنيا ولم يكن عقاب الدنيا كفارة له.

        والأمر الذي أريد التوقف عنده قليلا أن هـذه المقاصد الخمسة، التي انتهى إليها الإمام الشاطبي ، رحمه الله، نتيجة استقراء الأحكام الشرعية، ودرج على اعتبارها من جاء بعده من الفقهاء والدارسين، هـي اجتهاد لا يقتضي بالضرورة أن تكون هـذه هـي المقاصد حصرا دون غيرها، بل الأمر - فيما نرى - مفتوحا للاجتهاد وإبصار مقاصد أخرى في ضوء مستجدات العصر والأوليات الغائبة عن إدراك الناس، أو ضمور وغياب بعض المعاني التي كانت حاضرة في المجتمع الإسلامي، هـذا من جانب.. ومن جانب آخر، نعاود القول: بأن الاعتداء على هـذه المقاصد أو هـذه الحقوق الإنسانية الطبيعية الممنوحة بأصل الخلق وحكم الشرع، يعتبر جريمة فردية وجماعية في وقت واحد.

        ولم يكتف الإسلام بالنص على أن الاعتداء على هـذه الحقوق، أو انتهاك هـذه الحدود، يعتبر جريمة، بل تجاوز ذلك إلى النص على العقوبة أيضا، حتى ينفي الجريمة من الأرض ولا يدع مثل هـذه الجرائم الخطيرة على حقوق الإنسان للاجتهاد وتقدير البشر؛ لأن البشر هـم محل تنفيذ العقوبة وليس تشريعها. [ ص: 21 ]

        فإذا كان عمدة القانون الجزائي (الجنائي) عالميا أن لا عقوبة ولا جريمة إلا بنص، ليكون الإنسان على بينة من أمره فيما يفعل وما يدع، فإن الإسلام سبق إلى ذلك بقرون عديدة بما يطلق عليه مصطلح « الحدود »، إضافة إلى أن تحديد الجرائم والعقوبات وإنفاذها هـو دين من الدين وليس من وضع البشر؛ لأن الله الذي خلق الإنسان هـو أعلم بما يصلح حاله ويحفظ أمنه، ويحول بذلك دون أن يكون القانون ألعوبة بيد الإنسان، يغيره ويبدله كلما تعارض مع مصلحته، وقد يضعه في كثير من الأحيان ليكون قنطرة يعبر عليها إلى التسلط على الآخرين، هـذا عدا عن أن الإنسان المشرع له يأبى أن يقبل، من الناحية النفسية والعملية، مواضعات إنسان مثله، قد يجهله وقد يعتبر التشريع سبيلا للتسلط عليه، إضافة إلى أن الإنسان يصير في هـذه الحالة هـو واضع القانون وهو محل تطبيقه (!)

        وفي غياب التنصيص على الجريمة والعقوبة تبدو الخطورة كبيرة، خاصة في الجرائم السياسية والاجتماعية، الكبرى، التي تهز كيان المجتمع وتحول دون تحقيق مصالح العباد في الدنيا والآخرة.

        وحتى لا تبقى حقوق الإنسان مدعاة للعبث والاختراق، ولا يبقى أمن المجتمع فيما يشكل كيانه عرضة للاهتزاز والاضطراب، لذلك نص على العقوبة في الجرائم التي تهدد كيان المجتمع وتفقده أمنه، من الله، ليتساوى أمامها الناس جميعا، ولأن القانون في كثير من الأحيان، وخاصة إذا كان من وضع البشر، يفتقد احترامه، وينتهك من قبل أصحاب النفوذ، وبذلك يتحول ليصبح كنسيج العنكبوت لا يلتقط إلا الحشرات الضعيفة، أما الحيوانات القوية فتمزقه، أو تستبدله في أحسن الأحوال، أو تتخفى حتى لا يطالها. [ ص: 22 ]

        وإذا كان للقاضي والمجتهد من مجال في إطار « الحدود » التي تنتظم الجميع دون استثناء- ( إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ) (أخرجه البخاري )- فإنما يكون الاجتهاد في محل الحكم، أو محل تنزيل الحد ، ومدى توافر الشروط لتنزيله، والحيلولة دون إقامته عند وجود شبهة.

        إن الإيمان بأن الحدود (العقوبات المحددة والمنصوص عليها) هـي من عند خالق البشر، المطلع على خفايا نفوسهم ( إن لم تكن تراه فإنه يراك ) ، العالم بتقلباتهم وتكوينهم، بفطرتهم وغرائزهم، يمنح هـذا القانون أو هـذا التشريع عدة مزايا، يأتي في مقدمتها: عدم التحيز، لأنه من الله؛ والملاءمة لأنه من خالق البشر

        ( ( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) ) (الملك:14)؛

        والمساواة أمامه بين العباد؛ والاحترام في حالة الغيب والشهادة، واكتساب الثواب بالإيمان به وتطبيقه، والاستشعار بالمسئولية الذاتية تجاهه، ونمو الوازع الداخلي لالتزامه وعدم الإخلال به، والشعور بالأمن والاطمئنان، عنصري السكينة والتنمية، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( إقامة حد بأرض خير لأهلها من مطر أربعين ليلة ) (أخرجه النسائي )، وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أقيموا حدود الله في القريب والبعيد، ولا تأخذكم في الله لومة لائم ) (أخرجه ابن ماجه ). [ ص: 23 ]

        وحسبنا أن نقول: إن التزام الحدود عبادة، وإنفاذها عبادة، وتلقي عقوبتها بالنسبة للمذنب عبادة وكفارة، وإنها سبيل أمن المجتمع والفرد وحماية حقوقه وكرامته.

        وعلى الرغم من أن الحدود إنما شرعت لحماية المجتمع وتحقيق أمنه في الأساس وليست لإقامته، فهي تساهم أيضا لو بشكل غير مباشر بإقامته وتنميته؛ لأن الأمن مناخ التنمية، وبدون العدل والأمن تصبح دعاوى التنمية والتحديث والإصلاح أسطورة أو سخرية صغيرة، أو كبيرة.

        وإشكالية تحقيق أمن الفرد والمجتمع ووقايته من الجريمة، لها في الإسلام فلسفة، أو رؤية متفردة أو متميزة، حسبها ابتداء أنها متأتاة من الوحي، من الخالق، أولا وقبل كل شيء، وإذا كانت من الخالق فهي ملائمة وناجعة.

        فالإسلام بالنسبة لمعالجة الجرائم وتحقيق أمن المجتمع وتنميته لم يقتصر على تشريع العقوبات، من خارج النفس، على ما في تشريعها وملاءمتها من ردع ونفي للجريمة من الأرض وضمان حياة وأمن المجتمع، بل تجاوز إلى بناء الوازع الداخلي وتنمية الرقابة الذاتية على طريق الإيمان بقدسية هـذه التشريعات وثواب التزامها والتربية والتدريب عليها. والأهم من ذلك أنه لم يقتصر على الوصايا والمواعظ والتعاليم والقيم، وهذا مستوفى كله، وإنما أضاف إلى البناء النفسي والحس بقدسية التعاليم وأنها دين من الدين، أن وضع أيضا التشريعات الملزمة من خارج النفس... فبنى الإنسان من داخل نفسه وضبطه من خارج نفسه، في الوقت نفسه، فالعقيدة والعقوبة تسيران جنبا إلى جنب. [ ص: 24 ]

        لذلك نرى اليوم أن عالم المسلمين، أو بلاد العالم الإسلامي، التي تعيش على بقية البقية من القيم الإسلامية، لا يمكن أن تقاس الجرائم فيها بالجرائم التي تقع في غيرها من المجتمعات، على الرغم أيضا من أن الكثير من العقوبات الإسلامية لا تطبق.. فالإيمان بحرمة الجريمة وآثامها وحسابها عند الله يحول دون تفشي الجرائم وانتشارها في المجتمع، فكيف إذا أضيف التشريع الملزم إلى التربية السليمة؟

        إن إنفاذ العقوبات هـو إحدى الضمانات الكبرى لوقاية المجتمع من الجريمة الفردية والمنظمة، ذلك أن من أمن العقوبة أساء الأدب.

        وهنا قضية قد يكون من المفيد التوقف عندها ولو بشكل يسير وبما يتسع له المجال، وهي أن الكثير من الدول والثقافات المعاصرة حاولت النيل من قيمة العقوبات البدنية، واعتبارها نوعا من التوحش، والهمجية، وهدر كرامة الإنسان، والعدوان على حقه الطبيعي في الحياة والتمتع بحياته وحواسه (!)

        ولا نريد هـنا أن نقلب صفحات تلك الثقافات إلى ممارساتها في القتل الجماعي واستخدام أسلحة الدمار والأسلحة المحرمة، وحرمان الناس من أبسط حقوقهم، وإعطاء نفسها الحق المطلق فيما تعتبره جريمة وما لا تعتبره جريمة، على مزاجها، وتدفع بأفعالها وتسلطها وهيمنتها وحرمانها الناس من حقهم في بلدهم وثرواتهم إلى اقتراف الجرائم والمواجهات، ولكن هـنا نريد أن نقتصر على ما انتهت إليه تلك الفلسفات والثقافات من الفشل في منع [ ص: 25 ] الجرائم، بسبب عدم السماح بالعقوبات البدنية، وإعلانها العودة للإقرار بأن بعض الجرائم لا تردعها إلا العقوبات البدنية، فعادت لإقرارها وممارستها من جديد، بعد أن جعلت مجتمعاتها حقلا لتجارب عديدة في هـذا الشأن.

        أما التفسير القاصر لأسباب الجريمة، وعوامل وجودها، والخلط في ذلك، وتغييب الأسباب الحقيقية، وممارسة الخداع، وتسييس أسباب الجرائم بدل الاعتراف بالحقيقة، فحدث ولا حرج.

        فكثيرا ما فسر العديد من الجرائم بالبعد الاجتماعي، ونحن هـنا لا ننكر دور الحرمان، والتشرد، وفقدان الحنان، وغياب العطف الأسري، في صنع الجريمة، لكن كثيرا ما نلاحظ وجود هـذه الأسباب وعدم وقوع الجريمة، بل على العكس من ذلك فإن المعاناة قد تنتج أناسا أسوياء رحيمين، لأنهم الأكثر إدراكا لمرارة الحرمان.

        وكثيرا ما تفسر الجرائم بعامل العوز والفقر - والفقر عامل بلا شك- لكن الكثير من الفقراء كان فقرهم سبب جودهم وكرمهم ورحمتهم بالناس وزهدهم وقناعتهم، وأن الكثير من الجرائم تأتي من أبناء الأغنياء، ومساحة الجرائم في المجتمعات الصناعية وذات الدخل الكبير تفوق بمئات المرات جرائم المجتمعات الفقيرة، بل نكاد نقول: إن ما يكشف عنه من جرائم الرشوة، والاختلاسات، والقتل، وتبييض الأموال ، وشراء الذمم والضمائر، إنما تكاد تتمركز في الأوساط المالية الكبيرة؛ لأنها تعتقد أنها قادرة على الانفلات من العقوبة، وتغيير القوانين، وشراء القضاة، هـذا إلى جانب الكثير من الأسباب المدعاة التي لا يتسع المجال لتتبعها. [ ص: 26 ]

        لكن أعتقد أن السبب الأساس لاستنبات معظم الجرائم هـو الاستبداد ، والتسلط، والهيمنة، والاستفزاز، والتحدي لعقيدة الناس وثقافتهم، وكبتهم، وحرمانهم من حرية الاختيار.. السبب هـو الاحتقان السياسي، والثقافي، والظلم الاجتماعي، وعدم وجود أدوات التعبير وممارسة التغيير، الأمر الذي يقود إلى الانفجارات من الأغنياء والفقراء وسائر شرائح المجتمع على سواء.

        إن مناخ الاستبداد والقهر والاستئثار بالثروة هـو الذي ينتج الجريمة الفردية والمنظمة، بل يطور أساليب وأنواع الجرائم بالقدر نفسه الذي تتطور فيه أدوات القمع والتعذيب والقهر والاستبداد وتسلط الإنسان على الإنسان.

        فالجريمة – كما أسلفنا - مكتسبة وليست فطرية، والمدرسة القانونية التي روجت للإجرام بالفطرة وذهبت تضع مواصفات عضوية لأصحابها انتهت لتصبح مثالا للتندر؛ فالإنسان مفطور على فعل الخير، والجريمة إصابة ومرض، ولكل مرض سبب، ولكل مرض دواء، ولكل حالة ظرفها، والعلاج إنما يكون بمعالجة الأسباب المنشئة، كما يكون بالعقوبة الرادعة للجريمة الواقعة، لمحاصرة الآثار ونفي الجريمة من الأرض، وتحقيق أمن المجتمع، ففي العقوبة أمن للمجتمع، يقول تعالى: ( ( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب ) ) (البقرة:179)، لأن الجريمة تروع الجميع بأقدار متفاوتة: ( ( أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ) ) (المائدة:32). [ ص: 27 ]

        وقد يكون من الإشكاليات الكبرى في عالم اليوم، أو في حقبة « العولمة » وممارسة عمليات الإكراه والإذعان والاغتصاب الثقافي والسياسي من قبل القوي المهيمن، أن تتحول العقوبات إلى جرائم كبرى أخطر بكثير من الجرائم المدعاة وأبعد أثرا.

        كما أن الوجه الآخر للإشكالية عندما يعطي الأفراد أنفسهم الحق في إنفاذ العقوبات متذرعين بفلسفات ومسوغات وأفكار تدعو إلى الحزن والإشفاق عليهم، تلك الفلسفات والمسوغات التي فتحت الباب أمام العبث بالأحكام الشرعية، ذلك أنه من المعروف عقلا وشرعا أن هـناك من الأحكام الشرعية ما هـو منوط إنفاذه بالفرد، وبعضها ما هـو منوط إنفاذه بالجماعة، ومنها ما هـو منوط إنفاذه بالسلطة والقضاء مع توفر التخصصات المطلوبة؛ أما أن يعطي الأفراد أنفسهم الحق في إنفاذ العقوبات برغم غياب السلطة وعدم توفرها فذلك الخطر الذي لا يدانيه خطر، ظنا منهم أن ذلك استجابة لأمر الله، فالله يقول: ( ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ) ) (المائدة:38)، وقد لا توجد سلطة لقطع يد السارق إذن فلنمارس القطع حتى لا يعطل الحكم (!)

        إن الكثير من الجرائم تمارس اليوم، على مستوى الذات و (الآخر) تحت مسمى «العقوبات».. فبعض العابثين بالأحكام الشرعية أفتوا لأنفسهم في حال غياب الدولة المسلمة أنهم الدولة، يمارسون سلطانها، وفي حال غياب الإمام هـم الإمام الذي يجيش الجيوش ويعلن الحرب ويقيم العهود... إلخ، وفي حال غياب السلطة القضائية هـم القضاة، ينفذون الأحكام بالناس، ويصفونهم بالإجرام... أليس هـذا يفضي إلى جرائم أكبر في حياة الناس باسم إيقاع العقوبات؟! [ ص: 28 ]

        ولا يدري هـؤلاء ما يترتب على ذلك من الشر المستطير، وأن هـناك شروطا مطلوبة في مقدمتها إقامة السلطة القضائية المتخصصة في دراسة الجريمة، ومدى توفر عناصرها وغياب الشبهات الدارئة للعقوبة، وأن هـناك مؤهلات مطلوبة للقاضي، لعل أولها معرفته بالحكم وبمواصفات تنزيله على محله، وأن نصيب الأفراد من الخطاب الإلهي المتعلق بالسارق والزاني والمحارب هـو العمل على إقامة السلطة المنوط بها النظر في هـذه الجرائم وتقدير العقوبات ومن ثم تنفيذها، وليس ممارسة العقوبة.. وهكذا تقع الجرائم والانتهاكات لمقاصد الشريعة باسم الشريعة، وتتحول العقوبات إلى جرائم كبرى في حياة الأمة.

        وبعد:

        فلا شك أن الأمن النفسي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي هـو العامل الأكثر تأثيرا في رقي المجتمع وحضارته، وأنه من أجل النعم وأعلاها، والمناخ الصحي السليم للإنتاج والإبداع والتفكير والتعبير وممارسة حرية التدين والتملك والتصرف بدون قلق أو خوف.

        وقد تمنن الله على قريش، صاحبة التجارة والمال، التي تمثل القاعدة البشرية الأولى للرسالة الخاتمة، بأنها خليقة بشكر نعم الله الخالق، حيث أطعمها من جوع وآمنها من خوف، وجعل أرضها تحتضن واحة السلام والأمن ( البيت الحرام)، قال تعالى: ( ( ومن دخله كان آمنا ) ) ، وجعل أربعة أشهر من عامها أشهرا حرما وسلما لا يجوز فيها أي اعتداء، حتى يكون ذلك فرصة للتدريب والتعميم على سائر أشهر السنة. [ ص: 29 ]

        وهذا الكتاب، محاولة لدراسة أبعاد الوقاية من الجريمة، وبيان رؤية الإسلام في الوقاية، في هـذه الحقبة الخطيرة من تطور الجرائم وتعاظمها والتي يمكن أن تسمى «حقبة عولمة الجريمة»، ذلك أن الوقاية خير من العلاج، وأن ما يقدمه الإسلام من قيم تربوية وأخلاقية وتشريعية أصبح يشكل حاجة ووقاية للحيلولة دون وقوع الجريمة، وأن ما شرعه من العقوبات المتأتاة من خالق الإنسان، العالم بكينونته، لنفي العقوبة في الأرض، هـو خير وصلاح وأمن للعالم، يقول تعالى: ( ( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب ) ) ، ويقول: ( ( أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ) ) (المائدة:32).

        هـذا إضافة إلى أن المجتمع الآمن هـو مجتمع الإبداع والإنتاج وحرية التدين والتفكير والتعبير، وأن الخطورة، كل الخطورة، تبقى في ما استجد من الجرائم السياسية والثقافية والإعلامية والحضارية «غير المسماة» اليوم، التي يمارسها القوي بما يمتلك من أدوات الهيمنة والتسلط بعيدا عن أي وازع داخلي تصنعه القيم الدينية الصحيحة في نفوس الناس.

        إن بناء الوازع الداخلي وتنمية الرقابة الذاتية، إلى جانب التشريعات الملزمة، هـو خير وقاية من الجريمة، التي تحول دون تنمية المجتمع وسعادة الإنسانية.

        والحمد لله رب العالمين. [ ص: 30 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية