الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ( 34 ) )

يقول تعالى ذكره : هذا الذي بينت لكم صفته ، وأخبرتكم خبره ، من أمر الغلام الذي حملته مريم ، هو عيسى ابن مريم ، وهذه الصفة صفته ، وهذا الخبر خبره ، وهو ( قول الحق ) يعني أن هذا الخبر الذي قصصته عليكم قول الحق ، والكلام الذي تلوته عليكم قول الله وخبره ، لا خبر غيره ، الذي يقع فيه الوهم والشك ، والزيادة والنقصان ، على ما كان يقول الله تعالى ذكره : فقولوا في عيسى أيها الناس ، هذا القول الذي أخبركم الله به عنه ، لا ما قالته اليهود ، الذين زعموا أنه لغير رشدة ، وأنه كان ساحرا كذابا ، ولا ما قالته النصارى ، من أنه كان لله ولدا ، وإن الله لم يتخذ ولدا ، ولا ينبغي ذلك له .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله ( ذلك عيسى ابن مريم قول الحق ) قال : الله الحق . [ ص: 194 ]

حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن جده ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، قال : كانوا يقولون في هذا الحرف في قراءة عبد الله ، قال : ( الذي فيه يمترون ) ، قال : "كلم الله" .

ولو وجه تأويل ذلك إلى : ذلك عيسى ابن مريم القول الحق ، بمعنى ذلك القول الحق ، ثم حذفت الألف واللام من القول ، وأضيف إلى الحق ، كما قيل : ( إن هذا لهو حق اليقين ) وكما قيل : ( وعد الصدق الذي كانوا يوعدون ) كان تأويلا صحيحا .

وقد اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء الحجاز والعراق ( قول الحق ) برفع القول على ما وصفت من المعنى . وجعلوه في إعرابه تابعا لعيسى ، كالنعت له ، وليس الأمر في إعرابه عندي على ما قاله الذين زعموا أنه رفع على النعت لعيسى ، إلا أن يكون معنى القول الكلمة ، على ما ذكرنا عن إبراهيم من تأويله ذلك كذلك ، فيصح حينئذ أن يكون نعتا لعيسى ، وإلا فرفعه عندي بمضمر ، وهو هذا قول الحق على الابتداء ، وذلك أن الخبر قد تناهى عن قصة عيسى وأمه عند قوله ( ذلك عيسى ابن مريم ) ثم ابتدأ الخبر بأن الحق فيما فيه تمتري الأمم من أمر عيسى ، هو هذا القول ، الذي أخبر الله به عنه عباده ، دون غيره ، وقد قرأ ذلك عاصم بن أبي النجود وعبد الله بن عامر بالنصب ، وكأنهما أرادا بذلك المصدر : ذلك عيسى ابن مريم قولا حقا ، ثم أدخلت فيه الألف واللام ، وأما ما ذكر عن ابن مسعود من قراءته " ذلك عيسى ابن مريم قال الحق " فإنه بمعنى قول الحق ، مثل العاب والعيب ، والذام والذيم .

قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك عندنا : الرفع ، لإجماع الحجة من القراء عليه . وأما قوله تعالى ذكره : ( الذي فيه يمترون ) فإنه يعني : الذي فيه يختصمون ويختلفون ، من قولهم : ماريت فلانا : إذا جادلته وخاصمته .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله ( ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ) امترت فيه اليهود والنصارى; فأما اليهود فزعموا أنه ساحر كذاب; وأما النصارى [ ص: 195 ] فزعموا أنه ابن الله ، وثالث ثلاثة ، وإله ، وكذبوا كلهم ، ولكنه عبد الله ورسوله ، وكلمته وروحه .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله ( الذي فيه يمترون ) قال : اختلفوا ; فقالت فرقة : هو عبد الله ونبيه ، فآمنوا به . وقالت فرقة : بل هو الله . وقالت فرقة : هو ابن الله . تبارك وتعالى عما يقولون علوا كبيرا ، قال : فذلك قوله ( فاختلف الأحزاب من بينهم ) والتي في الزخرف ، قال دقيوس ونسطور ومار يعقوب ، قال أحدهم حين رفع الله عيسى : هو الله ، وقال الآخر : ابن الله ، وقال الآخر : كلمة الله وعبده ، فقال المفتريان : إن قولي هو أشبه بقولك ، وقولك بقولي من قول هذا ، فهلم فلنقاتلهم ، فقاتلوهم وأوطئوهم إسرائيل ، فأخرجوا منهم أربعة نفر ، أخرج كل قوم عالمهم ، فامتروا في عيسى حين رفع ، فقال أحدهم : هو الله هبط إلى الأرض وأحيا من أحيا ، وأمات من أمات ، ثم صعد إلى السماء ، وهم النسطورية ، فقال الاثنان : كذبت ، ثم قال أحد الاثنين للآخر : قل فيه ، قال : هو ثالث ثلاثة : الله إله ، وهو إله ، وأمه إله ، وهم الإسرائيلية ملوك النصارى; قال الرابع : كذبت ، هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ، وهم المسلمون ، فكان لكل رجل منهم أتباع على ما قال ، فاقتتلوا ، فظهر على المسلمين ، وذلك قول الله : ( ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس ) قال قتادة : هم الذين قال الله : ( فاختلف الأحزاب ) اختلفوا فيه فصاروا أحزابا .

التالي السابق


الخدمات العلمية