الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              قوله تعالى : { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين }

                                                                                                                                                                                                              فيها مسألة واحدة : اختلف الناس في تقديرها ; فمنهم من قال : معناها لا جناح عليكم إن طلقتم النساء المفروض لهن الصداق من قبل الدخول ما لم تمسوهن وغير المفروض لهن قبل الفرض ; قاله الطبري واختاره .

                                                                                                                                                                                                              [ ص: 290 ] ومنهم من قال : معناها إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن ولم تفرضوا لهن فريضة ، وتكون أو بمعنى الواو .

                                                                                                                                                                                                              الثالث : أن يكون في الكلام حذف ، تقديره لا جناح عليكم إن طلقتم النساء فرضتم أو لم تفرضوا ، وهذه الأقوال ترجع إلى معنيين : أحدهما : أن تكون أو بمعنى الواو .

                                                                                                                                                                                                              الثاني : أن يكون في الكلام حذف تقدر به الآية ، وتبقى أو على بابها ، وتكون بمعنى التفصيل والتقسيم والبيان ، ولا ترجع إلى معنى الواو ، كقوله تعالى : { ولا تطع منهم آثما أو كفورا } فإنها للتفصيل .

                                                                                                                                                                                                              واحتج من قال : إنها بمعنى الواو بأنه عطف عليها بعد ذلك المفروض لهن ، فقال تعالى : { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم } فلو كان الأول لبيان طلاق المفروض لهن قبل المسيس لما كرره ، وهذا ظاهر .

                                                                                                                                                                                                              وقد بينا في كتاب " ملجئة المتفقهين " ذلك .

                                                                                                                                                                                                              ولا فرق في قانون العربية بين تقدير حذف ، أو تكون أو بمعنى الواو ; لأن المعاني تتميز بذلك ، والأحكام تتفصل ، فإن المطلقة التي لم تمس ، ولم يفرض لها لا تخلو من أربعة أقسام :

                                                                                                                                                                                                              الأول : مطلقة قبل المس وبعد الفرض .

                                                                                                                                                                                                              الثاني : مطلقة بعد المسيس والفرض .

                                                                                                                                                                                                              الثالث : مطلقة قبل المسيس وبعد الفرض .

                                                                                                                                                                                                              الرابع : مطلقة بعد المس ، وقبل الفرض .

                                                                                                                                                                                                              وقد اختلف الناس في المتعة على أربعة أقوال دائرة مع الأربعة الأقسام .

                                                                                                                                                                                                              والصحيح أن الله تعالى لم يذكر في هذا الحكم إلا قسمين : مطلقة قبل المس وقبل الفرض ، ومطلقة قبل المس وبعد الفرض ; فجعل للأولى المتعة ، وجعل للثانية نصف [ ص: 291 ] الصداق ، وآلت الحال إلى أن المتعة لم يبين الله سبحانه وتعالى وجوبها إلا لمطلقة قبل المسيس والفرض .

                                                                                                                                                                                                              وأما من طلقت وقد فرض لها فلها قبل المسيس نصف الفرض ، ولها بعد المسيس جميع الفرض أو مهر مثلها .

                                                                                                                                                                                                              والحكمة في ذلك أن الله سبحانه وتعالى قابل المسيس بالمهر الواجب ونصفه بالطلاق قبل المسيس ، لما لحق الزوجة من رحض العقد ، ووصم الحل الحاصل للزوج بالعقد ، فإذا طلقها قبل المسيس والفرض ألزمه الله المتعة كفؤا لهذا المعنى ; ولهذا اختلف العلماء في وجوب المتعة ، فمنهم من رآها واجبة لظاهر الأمر بها ، وللمعنى الذي أبرزناه من الحكمة فيها .

                                                                                                                                                                                                              وقال علماؤنا : ليست بواجبة لوجهين : أحدها : أن الله تعالى لم يقدرها ، وإنما وكلها إلى اجتهاد المقدر ، وهذا ضعيف ; فإن الله تعالى قد وكل التقدير في النفقة إلى الاجتهاد ، وهي واجبة ، فقال : { على الموسع قدره وعلى المقتر قدره }

                                                                                                                                                                                                              الثاني : أن الله تعالى قال فيها : { حقا على المحسنين } حقا على المتقين ، ولو كانت واجبة لأطلقها على الخلق أجمعين ; فتعليقها بالإحسان ، وليس بواجب ، وبالتقوي وهو معنى خفي دل على أنها استحباب ، يؤكده أنه قال تعالى في العفو عن الصداق : { وأن تعفوا أقرب للتقوى } فأضافه إلى التقوى وليس بواجب ; وذلك أن للتقوى أقساما بيناها في كتب الفقراء ; ومنها واجب ، و [ منها ] ما ليس بواجب ; فلينظر هنالك .

                                                                                                                                                                                                              فإن قيل : فقد قال تعالى : { وللمطلقات متاع بالمعروف } فذكرها لكل مطلقة ؟ قلنا : عنه جوابان : أحدهما : أن المتاع هو كل ما ينتفع به ، فمن كان لها مهر فمتاعها مهرها ، ومن لم يكن لها مهر فمتاعها ما تقدم .

                                                                                                                                                                                                              [ ص: 292 ] الثاني : أن إحدى الآيتين حقيقة دون الأخرى ، وذلك بين في مسائل الخلاف ، فلينظر هنالك إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية