الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                2083 2084 2085 2086 ص: وقد ذهب جماعة من أصحاب النبي - عليه السلام - في سجود التلاوة إلى أنه غير واجب، وإلى أن التالي لا يضره أن لا يفعله، فمما روي عنهم في ذلك:

                                                [ ص: 490 ] ما قد حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب ، أن مالكا حدثه (ح).

                                                وحدثنا محمد بن عمرو ، قال: ثنا عبد الله بن نمير ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه: ، أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قرأ السجدة وهو على المنبر يوم الجمعة، فنزل فسجد وسجدوا معه، ثم قرأها يوم الجمعة الأخرى فتهيئوا للسجود، فقال عمر: على رسلكم، إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء. فقرأها ولم يسجد ومنعهم أن يسجدوا".

                                                حدثنا ابن مرزوق ، قال: ثنا أبو عامر ، قال: ثنا سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي عبد الرحمن قال: " مر سلمان - رضي الله عنه - بقوم قد قرءوا بالسجدة فقيل له: ألا تسجد؟ فقال: إنا لم نقصد لها". .

                                                حدثنا علي بن شيبة ، قال: ثنا عبد الله بن بكر ، قال: ثنا حاتم بن أبي صغيرة ، عن ابن أبي مليكة ، قال: "لقد قرأ ابن الزبير - رضي الله عنه - السجدة وأنا شاهد فلم يسجد، فقام الحارث بن عبد الله فسجد فقال: يا أمير المؤمنين ما منعك أن تسجد إذ قرأت السجدة؟ فقال: إني إذا كنت في صلاة سجدت، وإذا لم أكن في صلاة فإني لا أسجد".

                                                فهؤلاء الجلة لم يروها واجبة، وهذا هو النظر عندنا; لأنا رأيناهم لا يختلفون أن المسافر إذا قرأها وهو على راحلته أو في جهاد لم يكن عليه أن يسجدها على الأرض، فكانت هذه صفة التطوع لا صفة الفرض; لأن الفرض لا يصلى إلا على الأرض والتطوع يصلى على الراحلة.

                                                وكان أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد رحمهم الله يذهبون في السجود إلى خلاف ذلك ويقولون: هي واجبة.

                                                فثبت بما وصفنا أن ما ذكروا عن أبي لا دلالة فيه على أن لا سجود في المفصل; لأنه قد يجوز أن يكون الحكم كان في السجود عند رسول الله - عليه السلام - على واحد من المعاني التي ذكرناها في ذلك عن عمر ، وسلمان ، وابن الزبير ، - رضي الله عنهم - فترك السجود في

                                                [ ص: 491 ] المفصل
                                                لذلك، ولعله أيضا لم يسجد في تلاوة ما فيه سجود أيضا من غير المفصل.

                                                التالي السابق


                                                ش: أشار بهذا الكلام إلى بيان شيئين:

                                                الأول: بيان الخلاف الواقع في صفة سجدة التلاوة هل هي واجبة أم سنة؟

                                                والثاني: إلى بيان عارض من تلك العوارض التي ذكرها في جواب ذلك المعترض حيث قال: لأنه قد يحتمل أن يكون النبي - عليه السلام - ترك ذلك لمعنى من المعاني التي ذكرناها في الفصل الأول، وأراد بالمعاني: العوارض التي ذكرها هناك.

                                                بيان ذلك: أن بعض الصحابة قد ذهبوا إلى أن سجود التلاوة ليس بواجب، وأن القارئ مخير بين أن يسجد وبين أن يترك، فإذا كان الأمر كذلك فيمكن أن يكون قول أبي بن كعب: "ليس في المفصل سجود" على معنى سجود فرض أو واجب، وليس في ذلك نفي أصل السجدة، والمدعى أن في (النجم) سجدة، ثم كون هذا السجود واجبا أو سنة شيء آخر لا يتعلق بالمدعى، وممن ذهب من الصحابة إلى أن سجود التلاوة ليس بواجب: عمر بن الخطاب ، وسلمان الفارسي ، وعبد الله بن الزبير .

                                                وأخرج ذلك عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من طريقين صحيحين:

                                                أحدهما: عن يونس بن عبد الأعلى عن عبد الله بن وهب ، عن مالك ، عن هشام بن عروة عن أبيه "أن عمر بن الخطاب قرأ السجدة ... " إلى آخره.

                                                وأخرجه مالك في "موطئه" .

                                                وقال البخاري : ثنا إبراهيم بن موسى، قال: أنا هشام بن يوسف، أن ابن جريج أخبرهم، قال: أخبرني أبو بكر بن أبي مليكة ، عن عثمان بن عبد الرحمن التيمي ، عن ربيعة بن عبد الله بن الهدير التيمي- قال أبو بكر: وكان ربيعة من خيار

                                                [ ص: 492 ] الناس-: "حضر ربيعة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قرأ يوم الجمعة على المنبر بسورة النحل حتى إذا جاء السجدة نزل فسجد وسجد الناس، حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها حتى إذا جاء السجدة قال: يا أيها الناس، إنما نمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب ومن لم يسجد فلا إثم عليه، ولم يسجد عمر - رضي الله عنه -".

                                                وزاد نافع عن ابن عمر: "إن الله لم يفرض السجود إلا أن نشاء".

                                                والطريق الآخر: عن محمد بن عمرو بن يونس التغلبي ، عن عبد الله بن نمير الهمداني الكوفي ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه عروة بن الزبير بن العوام: "أن عمر بن الخطاب ... " إلى آخره.

                                                قوله: "على رسلكم" بكسر الراء وسكون السين المهملة، أي على هيئتكم لا تستعجلوا.

                                                وأخرج عن سلمان أيضا بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن مرزوق ، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي البصري ، عن سفيان الثوري ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن حبيب السلمي الكوفي القارئ، ولأبيه صحبة.

                                                وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" : ثنا ابن فضيل ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي عبد الرحمن قال: "دخل سلمان الفارسي - رضي الله عنه - المسجد وفيه قوم يقرءون، فقرءوا السجدة فسجدوا، فقال له صاحبه: يا أبا عبد الله لولا أتينا هؤلاء القوم، فقال: ما لهذا غدونا".

                                                وأخرجه البخاري : وقال: "قال سلمان: ما لهذا غدونا".

                                                وأخرج عن عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه - أيضا بإسناد صحيح: عن علي بن شيبة بن الصلت ، عن عبد الله بن بكر بن حبيب السهمي البصري روى له الجماعة، عن حاتم بن أبي صغيرة وهو ابن مسلم القشيري وأبو صغيرة أبو أمه، وقيل: زوج [ ص: 493 ] أمه، روى له الجماعة، عن عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة واسمه زهير بن عبد الله المكي الأحول، كان قاضيا لعبد الله بن الزبير ومؤذنا له، روى له الجماعة.

                                                وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" بأتم منه: ثنا إسماعيل بن علية ، عن حاتم بن أبي صغيرة، قال: "قلت لعبد الله بن أبي مليكة: قرأت السجدة وأنا أطوف بالبيت فكيف ترى؟ قال: آمرك أن تسجد. قلت: إذا تركني الناس وهم يطوفون فيقولون: مجنون أفأستطيع أن أسجد وهم يطوفون؟ فقال: والله لئن قلت ذلك، لقد قرأ ابن الزبير السجدة فلم يسجد فقام الحارث بن أبي ربيعة فقرأ السجدة ثم جاء، فجلس، فقال: يا أمير المؤمنين ما منعك أن تسجد قبيل حيث قرأت السجدة؟ فقال: لأي شيء أسجد؟ إني لو كنت في صلاة سجدت، فأما إذا لم أكن في صلاة فإني لا أسجد".

                                                قال: "وسألت عطاء عن ذلك فقال: استقبل البيت وأومئ برأسك".

                                                قوله: "فهؤلاء الجلة" أشار به إلى عمر وسلمان وابن الزبير، وهو بكسر الجيم وتشديد اللام جمع جليل بمعنى عظيم كصبية جمع صبي، أي: فهؤلاء العظماء من الصحابة لم يروها -أي سجدة التلاوة- واجبة، وممن ذهب إلى مذهبهم: عبد الله بن عباس ، وعمران بن حصين .

                                                وهو مذهب الأوزاعي أيضا، والشافعي ، ومالك في أحد قوليه، وأحمد وإسحاق وداود، وإليه مال البخاري والطحاوي أيضا حيث قال: وهذا هو النظر عندنا، أي: وكون سجدة التلاوة سنة غير واجبة هو القياس عندنا، ثم بين وجه النظر بقوله: "لأنا رأيناهم ... " إلى آخره، وهو ظاهر.

                                                ولكن لقائل أن يقول: إنما لم يجب على المسافر أن يسجدها على الأرض إذا قرأها على راحلته; لأنها وجبت ناقصة فجاز له أن يؤديها ناقصة، وعدم الأمر بالسجدة على الأرض مبني على هذا لا على أنها واجبة أو سنة.

                                                [ ص: 494 ] قوله: "وكان أبو حنيفة ... " إلى آخره، وممن ذهب إلى ما ذهب إليه هؤلاء: حماد بن أبي سليمان وسعيد بن جبير والحسن البصري وإبراهيم النخعي وأبو العالية والأعمش وإبراهيم التيمي والحكم بن عتيبة وأصحاب عبد الله بن مسعود .

                                                ويحكى ذلك عن عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وأبي هريرة وعبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، وقالوا: إن مواضع السجود في القرآن منقسمة، منها ما هو أمر بالسجود، والأمر للوجوب كما في آخر سورة القلم، ومنها ما هو إخبار عن استنكاف الكفرة عن السجود فيجب علينا مخالفتهم بتحصيله، ومنها ما هو إخبار عن خشوع المطيعين فيجب علينا متابعتهم بقوله تعالى: فبهداهم اقتده ولأن الله ذم أقواما بترك السجود فقال: وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون وإنما يستحق الذم بترك الواجب، وأجابوا عن قول عمر - رضي الله عنه - بأنا نقول بموجبه; لأنها لم تكتب علينا بل وجبت، وفرق بين الواجب والفرض على ما عرف في موضعه، وعن أثري سلمان وابن الزبير بأنه يحتمل أن يكونا حينئذ على غير وضوء، أو كانا في وقت كراهة السجدة، والله أعلم.

                                                قوله: "فثبت بما وصفنا" أي من قوله: "وقد ذهب جماعة من أصحاب النبي - عليه السلام - ... إلى آخره" يعني هذه الأشياء تدل على أنه لا دليل فيما ذكروا عن أبي على نفي السجدة في المفصل; لأنه قد يجوز أن يكون حكم السجدة عند رسول الله - عليه السلام - في حديث أبي بن كعب على واحد من المعاني التي ذكرها في ذلك عن هؤلاء الثلاثة من الصحابة وهم: عمر وسلمان وعبد الله بن الزبير، وهو أن يكون محمولا على قول عمر بأنه لم تكتب علينا، أو على قول سلمان بأنه لم يقصد لها، أو على قول ابن الزبير بأنه لم يكن في صلاة، وأيا ما كان لا يدل واحد من ذلك على نفي أصل السجدة في المفصل، فافهم.

                                                [ ص: 495 ] قوله: "ولعله أيضا" أي: ولعل النبي - عليه السلام - أيضا لم يسجد في تلاوة آية سجدة من غير المفصل لأجل معنى من المعاني التي ذكرناها فإن ذلك أيضا لا يدل على نفي أصل السجدة; وإنما ذكر هذا لأنه لو فرض هذا الحكم في سجدة تلاوة من سجدات غير المفصل كان الخصم أيضا يقول: هذا محمول على معنى من المعاني التي ذكرناها، فهذا مجمع عليه، فكذا الجواب فيما إذا كان ذلك في المفصل.




                                                الخدمات العلمية