الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ثم وصف سبحانه فقدهم لهذا الاستعداد ، ورسوخهم في الكفر الذي لم يبق معه محل لغيره بهذا التعبير البليغ ( ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ) .

                          قال الراغب : الختم والطبع يقال على وجهين :

                          ( الأول ) : مصدر ختمت وطبعت ، وهو تأثير الشيء كنقش الخاتم والطابع .

                          ( الثاني ) : الأثر الحاصل عن النقش ، ويتجوز بذلك تارة في الاستيثاق من الشيء والمنع منه اعتبارا بما يحصل من المنع بالختم على الكتب والأبواب نحو : ( ختم الله على قلوبهم ) ( وختم على سمعه وقلبه ) - إلى أن قال - فقوله : ( ختم الله على قلوبهم ) . . . إشارة إلى ما أجرى الله به العادة أن الإنسان إذا تناهى في اعتقاد باطل وارتكاب محظور - ولا يكون منه تلفت بوجه إلى الحق - يورثه ذلك هيئة تمرنه على استحسان المعاصي ، وكأنما يختم بذلك على قلبه ، وعلى ذلك ( أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم ) ( 16 : 108 ) ا هـ .

                          المراد منه .

                          وأقول : إن مراده أن هذا التعبير مثل لمن تمكن الكفر في قلوبهم حتى فقدوا الدواعي والأسباب التي تعطفهم إلى النظر والفكر في أدلة الإيمان ومحاسنه ( ختم الله على قلوبهم ) فلا يدخلها غير ما رسخ فيها ، ( وعلى سمعهم ) فلا يسمعون آيات الله المنزلة سماع تأمل وتفقه ، وقوله : ( وعلى أبصارهم غشاوة ) جملة معطوفة على جملة ( ختم ) والغشاوة : ما يغطى به الشيء ، ومعنى هذه المادة : غ ش ي - التغطية . والمراد : أن أبصارهم لا تدرك آيات الله المبصرة الدالة على الإيمان ، فكل من الفريقين لا يرجى إيمانه ، وقد أسند الختم على قلوبهم وعلى سمعهم إلى الله تعالى ؛ لأنه بيان لسنته تعالى في أمثالهم ، وعبر عنه بالماضي للدلالة على أنه أمر قد فرغ منه ، وهو لا يدل على أنهم مجبورون على الكفر ، ولا على منع الله تعالى إياهم منه بالقهر ، وإنما هو تمثيل لسنته تعالى في تأثير تمرنهم على الكفر وأعماله في قلوبهم بأنه استحوذ عليها

                          [ ص: 121 ] وملك أمرها حتى لم يعد فيها استعداد لغيره ، كما تقدم مثله عن الراغب ، ويوضح ما قلناه قوله تعالى في سورة المنافقين : ( ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم ) ( 63 : 3 ) وقوله في اليهود من سورة النساء : ( فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا ) ( 4 : 155 ) فذكر أن الطبع على قلوبهم إنما هو بسبب كفرهم وتلك المعاصي التي أسندها إليهم ، وقوله تعالى في سورة الجاثية : ( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون ) ( 45 : 23 ) فقد ذكر من فعله المسند إليه : أنه اتخذ إلهه هواه ، ومن صار هواه معبوده لا يفيد معه شيء .

                          وقد صرح هنا بأن الغشاوة على بصره من جعل الله تعالى ، ولم يصرح في آية البقرة التي نفسرها ، والمعنى واحد ، ولشيخنا الأستاذ الإمام دقائق في هذه التعبيرات ادخرها الله تعالى له وهي مع هذا تغنيك عن تماري الأشعرية والمعتزلة في الآيات تعصبا لمذاهبهم وقال :

                          يقولون : إن الختم والطبع والرين ألفاظ تجري على شيء واحد ، وهو : تغطية الشيء والحيلولة بينه وبين ما من شأنه أن يدخله ويمسه ، والقلوب مراد بها العقول . والمراد بالسمع : الأسماع ، وإفراده لأن أصله مصدر ، ومن شأن المصادر ألا تجمع ، وقد لوحظ هنا الأصل ، والأبصار : العيون التي تدرك المبصرات من الأشكال والألوان .

                          ( قال ) : وأنا أرى في مسألة هذا الجمع والإفراد رأيا آخر ، إذ لو صح ما قيل فإن البصر أيضا مصدر فلماذا جمعه ؟ والذي أراه أن العقل له وجوه كثيرة في إدراك المعقولات ، فليس الناس فيه سواء فجمع لاختلاف الناس فيه ، وأنواع تصرفهم في وجوهه بخلاف السمع ، فإن أسماع الناس تتساوى في إدراك المسموعات ، فلا تتشعب تشعب العقول في إدراك المعقولات ، وأما الأبصار : فهي مثل العقول في التشعب ، وأعظم معين للعقول في إدراكها ؛ لأن أنواع المبصرات كثيرة فتعطي للعقل مواد كثيرة ، والسمع لا يدرك إلا الصوت ، وليس في الكلام عند النقل طريق من طرق العلم اليقيني إلا التواتر ( بخلاف ما نقطع فيه بالضرورة من طريق العقل والبصر ، فهو كثير ، فالأوليات كالحكم أن الجزء أصغر من الكل وأن النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان ، والقضايا التي [ ص: 122 ] قياساتها معها من المعقولات المحضة ، والتجريبيات والحدسيات يشترك فيها العقل والبصر ، والقسم الأعظم من المشاهدات سبيل الإدراك فيه البصر ، فالعقول والأبصار بمنزلة ينابيع كثيرة تنبجس من كل منها عيون للعلم مختلفة ، بخلاف السمع فإنه ينبوع واحد لا اختلاف فيما يصدر عنه ) فالحاصل : أن العقول والأبصار تتصرف في مدركات كثيرة فكأنها صارت بذلك كثيرة فجمعت ، وأما السمع فلا يدرك إلا شيئا واحدا فأفرد .

                          سأله سائل : كيف هذا ، وقد قالوا : إن السمع أفضل من البصر ؟ فقال : أنا لا أتكلم في التفضيل ، ذلك إلى الله ورسوله ، وإنما أشرح موجودا وأبين مناسبة اللفظ له ، ( وإن المشاهدة قاضية بأن العقل لا منتهى لتصرفه ، وبأن أقل ما قيل في البصر : إنه يدرك الألوان ، والأشكال ، والمقادير . والسمع : لا يدرك إلا الأصوات فقط ، كما أن الذوق لا يحس إلا بالمذوقات وحدها ، وإن كان ما يصل من طريق السمع قد يتضمن حكاية عن معقول أو مبصر ، ولكن وروده على الحكاية لا يغير من حقيقته ، فهو معقول أو مبصر ، فمن ذكر لك برهانا على حقيقة علمية فإنما تسمع منه الأصوات والحروف ، وأما فهمك المقدمات ووصولك منها إلى النتائج فهو من طريق عقلك لا من طريق سمعك ، فإن كان حديث الأفضلية يستند إلى أن جميع المدركات قد يمكن أن يعبر عنها بالكلام - وهو مسموع - فقد بينا لك ما فيه ، ويعارضه أن جميع ضروب الكلام يصح أن تكتب ، وطريق فهمها من الرقم إنما هو البصر ، والحق : أن المعول عليه في تعدد الطريق ليس ما يكون من قبيل الحكاية ، بل ما يكون من طبيعة القوة ) .

                          وأما انطباق الكلام على تلك الأقسام السابقة وبيان حرمانهم وكونهم كما وصفوا - فهو بالنسبة إلى الطائفة التي عاندت الحق وهي تعرفه - ظاهر ، لأنهم لما عاندوا الحق ؛ لأنه لم يأت على أيديهم ( فقد طبع على قلوبهم بطابع ذلك العناد نفسه ، فإنه قد حيل بين عقولهم وإدراك ما يصيرون إليه بالإصرار على الباطل من ضعف أمر وفساد حال في الدنيا ، وشقاء وخلود في نكال الآخرة ، ثم هم قد حجبوا به عن إدراك ما يتبع ) ذلك الحق من المعارف والحقائق الأخرى ، فقد ختم على قلوبهم بالنسبة إلى ما حجبوا عنه .

                          [ ص: 123 ] وأما الختم على سمعهم ، فلأنهم صموا عن سماع الحق واستماع القول لفهمه ، فمن أعرض عن فهم الحق فهو لم يسمع إلا صوتا لم ينفذ شيء من معناه إلى موضع الإدراك الحقيقي منه ، فقد ختم على سمعه فلا ينفذ إليه شيء ينتفع به .

                          وأما الأبصار فإنما كانت عليها غشاوات عند هؤلاء الجاحدين ؛ لأن فائدة البصر : هي التوقي من الخطر ، والعبرة بما يبصر ، فمن لم ينظر في الآيات الكونية التي تقع تحت بصره كل يوم كأنه لم يبصر شيئا منها ، فقد ضرب على بصره بغشاوة ، ( وأما بالنسبة إلى القسمين الآخرين اللذين جمعا تحت قسم واحد ، وهو قسم المعرضين الجاحدين الجاهلين كما سبق ، فالختم على القلوب والسمع والأبصار ظاهر ، لأنهم لم ينتفعوا بشيء من هذه القوى حتى في فهم ما يعرض عليهم ، ورؤية ما يقع تحت حواسهم ) والكلام كله ضرب من التمثيل يعرفه اللسان وتعهده اللغة ، والمعنى هو ما بينا والله أعلم . ( ولما كان حديث الختم تمثيلا لفقد حقيقة الفهم والحرمان من فوائد تلك المواهب الإلهية - مواهب العقل والسمع والإبصار - كان إسناده إلى الله تأكيدا لمعنى الحرمان ، وتقديرا لمصيبة الخسران ؛ لأن ما ختم بيد الله لا تفضه يد سواه ) .

                          وأما النكتة في استعمال الختم مع القلوب والسمع ، والغشاوة مع البصر : فهي أن الختم من شأنه أن يكون على المكنون المستور ، وهكذا موضع حس السمع ، وموضع الإدراك من العقل ، والأسماع في ظاهر الخلقة ، وأما البصر فالحاسة منه ظاهرة منكشفة ( قال ) : ومثل هذه الدقائق هي المرادة بقول صاحب التلخيص : " ولكل كلمة مع صاحبتها مقام " .

                          ( ولهم عذاب عظيم ) أقول : العذاب اسم لما يؤلم ويذهب بعذوبة الحياة من ضرب ووجع وجوع وظمأ . قال الراغب : واختلف في أصله ، فقال بعضهم : هو من قولهم : عذب الرجل إذا ترك المأكل ( زاد غيره : من شدة العطش ) والنوم ، فهو عاذب وعذوب ، فالتعذيب في الأصل : هو حمل الإنسان أن يعذب ، أي يجوع ويسهر ، وقيل : أصله من العذب ، فعذبته : أزلت عذب حياته ، على بناء : مرضته وقذيته ، وقيل أصل التعذيب : إكثار الضرب بعذبة السوط أي طرفه ا هـ .

                          وقال البيضاوي : العذاب كالنكال بناء ومعنى ، تقول : أعذب عن الشيء ونكل عنه إذا أمسك ، ومنه الماء العذب ؛ لأنه يقمع العطش ويردعه ، ولذلك يسمى نقاخا وفراتا ثم اتسع فأطلق على كل ألم فادح وإن لم يكن عقابا يردع الجاني عن المعاودة إلخ .

                          والعظيم : ضد الحقير ، فهو فوق الكبير الذي هو ضد الصغير ، وتنكير العذاب هنا

                          [ ص: 124 ] للإشارة إلى أنه نوع منه مبهم مجهول عند أهل الدنيا ، بناء على أن المراد به عذاب الآخرة التي هي من عالم الغيب .

                          وقال شيخنا تبعا للجمهور : التنكير فيه للتعظيم والتهويل ، ووصفه مع ذلك بعظيم يدل على أنه بالغ حد العظمة كما وكيفا ، فهو شديد الإيلام وطويل الزمان ، وهل هذا العذاب في الدنيا أم في الآخرة ؟ قال في آية أخرى ( لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم ) ( 5 : 41 ) فيؤخذ من هذه الآية ومن آيات أخرى : أن الإعراض عن هدي الإسلام ، وما أرشد إليه من إصلاح المعاش والمعاد جزاؤه الضنك وفقد العزة والسلطة في الدنيا والعذاب العظيم في العقبى .

                          وهنا سأله سائل : هل الآية نص في التكليف بالمحال ؟ فقال : لا ، وأنا لا أحب أن أحشر المسائل الخلافية في تفسير القرآن ، بل أحب أن أبين المعنى الذي كان يفهمه الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - ، وما كان يخطر على بال أحد منهم التكليف بالمحال ، على أن الاتفاق واقع بين الأئمة بل بين الأمة على أن التكليف بالمحال غير واقع ، وأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها كما صرح به الكتاب وتضافرت عليه الأحاديث النبوية ، فما بقي من مواضع الخلاف لا يمس نصوص الكتاب العزيز الذي ( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ) ( 41 : 42 ) .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية