الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 87 ] باب نية الوضوء

                                                                                                                                            قال الشافعي رضي الله عنه : ولا يجزئ طهارة من غسل ولا وضوء إلا بنية ، واحتج على من أجاز الوضوء بغير نية بقوله : إنما الأعمال بالنيات ، ولا يجوز التيمم إلا بنية وهما طهارتان فكيف يفترقان .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا كما قال : الطهارة ضربان من نجس وحدث .

                                                                                                                                            فأما طهارة النجس فلا تفتقر إلى نية إجماعا لأمرين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن إزالة النجاسة إنما هو تعبد مفارقة وترك ، والتروك لا تفتقر إلى نية كسائر ما أمر باجتنابه في عباداته .

                                                                                                                                            والثاني : أنه لما طهر ما أصابته النجاسة من الأرض والثوب بمرور السيل عليه وإصابة الماء له علم أن القصد فيه غير معتبر ، وأن النية في إزالته غير واجبة .

                                                                                                                                            فأما طهارة الحدث فلا تصح إلا بنية سواء كانت بمائع كالوضوء والغسل ، أو بجامد كالتراب وبه قال مالك ، وأحمد ، وإسحاق ، وجمهور أهل الحجاز . وقال الأوزاعي ، والحسن بن صالح الكوفي تصح بغير نية سواء كانت بمائع أو جامد .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة وسفيان الثوري : الطهارة بالماء لا تفتقر إلى نية ، والتيمم بالتراب يفتقر إلى نية استدلالا بقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم [ المائدة : 6 ] . فأمر بغسل هذه الأعضاء ولم يذكر النية .

                                                                                                                                            وفي إيجابها ما يخرج الغسل المذكور في الآية أن يتعلق به جواز الصلاة ، وذلك نسخ لأنه إبطال حكمه ، وفي إجماع الأمة على أن آية الطهارة غير منسوخة ما يوجب منع [ ص: 88 ] الزيادة عليها ، وبما روي أن أعرابيا قال : كيف أتوضأ يا رسول الله فقال : توضأ كما أمرك الله ، اغسل وجهك وذراعيك وامسح برأسك واغسل رجليك .

                                                                                                                                            فأجابه على ما تضمنته الآية من غسل هذه الأعضاء دون النية .

                                                                                                                                            قالوا : ولأنها طهارة بالماء فوجب ألا تفتقر إلى نية كإزالة النجاسة .

                                                                                                                                            قالوا : ولأنه أصل يستباح به الصلاة فوجب ألا يفتقر إلى نية كستر العورة .

                                                                                                                                            قالوا : ولأن النية لو كانت من شروط صحة الطهارة لما صح غسل الذمية من الحيض ، ولما استباح الزوج المسلم وطأها ، وفي إجماعهم على صحة غسلها وجواز وطئها دليل على أن النية ليست شرطا في صحة طهارتها .

                                                                                                                                            ودليلنا قوله تعالى : وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين [ البينة : 5 ] [ فأمروا ] بالإخلاص في العبادة ، والإخلاص عمل القلب .

                                                                                                                                            وقال تعالى : إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم [ المائدة : 6 ] . ومنها دليلان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن قوله : فاغسلوا وجوهكم [ المائدة : 6 ] . يعني : للصلاة فحذف ذكرها اكتفاء بما تقدم منه كما يقال : إذا رأيت الأمير فقم . يعني للأمير . وإذا رأيت الأسد فتأهب . يعني للأسد ، ومثله قوله تعالى : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما [ المائدة : 38 ] . يعني للسرقة .

                                                                                                                                            والثاني : أن قوله : إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا [ المائدة : 6 ] . يعني : قبل قيامكم فاغسلوا وجوهكم لإرادة الصلاة .

                                                                                                                                            ومن السنة ما رواه الشافعي ، عن سفيان ، عن يحيى بن سعيد ، عن محمد بن إبراهيم التيمي ، عن علقمة بن وقاص الليثي قال : سمعت عمر بن الخطاب على المنبر يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى [ ص: 89 ] الله ورسوله فهجرته إلى ما هاجر إليه ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه . والدلالة فيه من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : قوله : إنما الأعمال بالنيات . ولم يرد بذلك إثبات وجودها ، لأنها قد توجد بغير نية ، وإنما المراد بها إثبات حكمها .

                                                                                                                                            والثاني : قوله وإنما لكل امرئ ما نوى ، فكان دليل خطابه أن ليس له ما لم ينوه ، على أن قولهم إنما هي موضوعة في اللغة لإثبات ما اتصل بها ونفي ما انفصل عنها .

                                                                                                                                            وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا يقبل الله قولا إلا بعمل ولا قوة ولا عملا إلا بنية .

                                                                                                                                            وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله تعالى لا ينظر إلى أعمالكم ولكن ينظر إلى نياتكم " .

                                                                                                                                            ثم الدليل من طريق المعنى أنها طهارة من حدث فوجب أن تفتقر إلى النية كالتيمم ، فإن قيل : قياس الوضوء على التيمم غير جائز ، لأن الوضوء أصل والتيمم فرع ولا يجوز أن يؤخذ حكم الأصل من الفرع .

                                                                                                                                            قيل : التيمم بدل من الوضوء وليس بفرع له ، لأن فرع الأصل ما كان حكمه مأخوذا من ذلك الأصل .

                                                                                                                                            وليس حكم التيمم مأخوذا من الوضوء ، وليس يمتنع أن يكون حكم المبدل مأخوذا من بدله إذا كان البدل مجتمعا على حكمه ، ولأنها عبادة ترجع في حال العذر إلى شرطها . فوجب أن تكون النية شطرها كالصلاة ، فإن منعوا أن يكون الوضوء عبادة كان نزاعا مطرحا ، لأن العبادة ما ورد التعبد به قربة لله ، وهذه صفة الوضوء على أنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الوضوء شطر الإيمان " ومن كانت هذه حالته فمن المحال ألا تكون عبادة ، ولأن كل عمل كانت النية شرطا في بدله كانت النية شرطا في مبدله كالكفارات ، ولأن كل ما افتقر نقله إلى النية افتقر فرضه إلى النية كالصلاة والصوم .

                                                                                                                                            [ ص: 90 ] وبيانه : أن أبا حنيفة أوجب النية في تجديد الوضوء فاقتضى أن تجب النية في فرضه .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن استدلالهم بالآية فهو أن وجهي استدلالنا يمنع من الاستدلال علينا بها .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن استدلالهم بحديث الأعرابي فهو : أن في قوله : توضأ كما أمرك الله ، وقد ثبت بما ذكرنا أن الله تعالى قد أمر بالنية دليل على أن أمر الأعرابي متضمن النية .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قياسهم على إزالة النجاسة فمن ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها : أن قوله طهارة بالماء لا تأثير له في الأصل ، لأن إزالة النجاسة بالجامد والمانع سواء في سقوط النية ، وإذا لم يكن له تأثير في الأصل سقط اعتباره وانتقضت النية بالتيمم .

                                                                                                                                            والثاني : أنا نقلبه عليهم ، فنقول فوجب أن يستوي الطهارة بالمائع والجامد في اعتبار النية قياسا على إزالة الأنجاس .

                                                                                                                                            والثالث : أن إزالة الأنجاس طريقها الترك ، والتروك لا تفتقر إلى نية . كترك الربا والقتل والغصب ، والوضوء فعل ، والفعل من شرطه النية كالصلاة والحج والصوم ، مخصوص من سائر التروك بإيجاب النية فيه ، والقياس على الجملة دون المخصوص على أن المعنى في النجاسة أنها طهارة لا تتعدى إلى محل موجبها . والحدث يتعدى محل موجبه كالتيمم . وأما الجواب عن قياسهم ، على ستر العورة فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن ستر العورة لا يختص بالصلاة ، لأنه واجب في الصلاة وغير الصلاة ، وليس كذلك الطهارة لاختصاصها بالصلاة .

                                                                                                                                            والثاني : أن ستر العورة للصلاة مقارن للصلاة من أولها إلى آخرها ، فاكتفى بنية الصلاة كاستقبال القبلة ، وليس كذلك حال الوضوء ، لأن فعله يتقدم الصلاة ، وإنما يستصحب حكمه في الصلاة فلم يجزه نية الصلاة .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن استدلالهم بطهارة الذمية فهو : أن طهارتها غير مجزئة ، وكذلك لزمها إعادة الطهارة إذا أسلمت ، وإنما أجزنا غسلها في حق الزوج ، لأن حق الزوج مضيق ، وفي منعه من وطئها إلا بعد إسلامها تفويت لحقه ومنع من تزويج أهل الذمة ، فصارت كالمجنونة التي يستبيح زوجها وطأها إذا اغتسلت في جنونها بغير نية للضرورة الداعية ، ولو أفاقت لم يجز وطؤها إذا اغتسلت إلا بنية ، كذلك الذمية يجوز وطؤها إذا اغتسلت من حيضها بغير نية ، ولو أسلمت لم يجز وطؤها إذا اغتسلت إلا بنية .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية