الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            البحث الخامس : قال تعالى : ( فأخرج به من الثمرات رزقا لكم ) والمراد أنه تعالى إنما أخرج هذه الثمرات لأجل أن تكون رزقا لنا ، والمقصود أنه تعالى قصد بتخليق هذه الثمرات إيصال الخير والمنفعة إلى المكلفين ؛ لأن الإحسان لا يكون إحسانا إلا إذا قصد المحسن بفعله إيصال النفع إلى المحسن إليه .

                                                                                                                                                                                                                                            البحث السادس : قال صاحب " الكشاف " : قوله : ( من الثمرات ) بيان للرزق ، أي أخرج به رزقا هو ثمرات ، ويجوز أن يكون من الثمرات مفعول أخرج ورزقا حال من المفعول أو نصبا على المصدر من أخرج لأنه في معنى رزق ، والتقدير : ورزق من الثمرات رزقا لكم .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 101 ] فأما الحجة الرابعة : وهي قوله : ( وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره ) ونظيره قوله تعالى : ( ومن آياته الجواري في البحر كالأعلام ) [ الشورى : 32 ] ففيها مباحث :

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الأول : أن الانتفاع بما ينبت من الأرض إنما يكمل بوجود الفلك الجاري في البحر ، وذلك لأنه تعالى خص كل طرف من أطراف الأرض بنوع آخر من أنعمه حتى إن نعمة هذا الطرف إذا نقلت إلى الجانب الآخر من الأرض وبالعكس كثر الربح في التجارات ، ثم إن هذا النقل لا يمكن إلا بسفن البر وهي الجمال أو بسفن البحر وهي الفلك المذكور في هذه الآية . فإن قيل : ما معنى ( وسخر لكم الفلك ) مع أن تركيب السفينة من أعمال العباد ؟

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : أما على قولنا إن فعل العبد خلق الله تعالى فلا سؤال ، وأما على مذهب المعتزلة فقد أجاب القاضي عنه فقال : لولا أنه تعالى خلق الأشجار الصلبة التي منها يمكن تركيب السفن ، ولولا خلقه للحديد وسائر الآلات ولولا تعريفه العباد كيف يتخذونه ولولا أنه تعالى خلق الماء على صفة السيلان التي باعتبارها يصح جري السفينة ، ولولا خلقه تعالى الرياح وخلق الحركات القوية فيها ، ولولا أنه وسع الأنهار وجعل فيها من العمق ما يجوز جري السفن فيها لما وقع الانتفاع بالسفن ؛ فصار لأجل أنه تعالى هو الخالق لهذه الأحوال وهو المدبر لهذه الأمور والمسخر لها حسنت إضافة السفن إليه .

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الثاني : أنه تعالى أضاف ذلك التسخير إلى أمره ؛ لأن الملك العظيم قلما يوصف بأنه فعل وإنما يقال فيه إنه أمر بكذا تعظيما لشأنه ، ومنهم من حمله على ظاهر قوله : ( إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ) [ النحل : 40 ] وتحقيق هذا الوجه راجع إلى ما ذكرناه .

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الثالث : الفلك من الجمادات فتسخيرها مجاز ، والمعنى أنه لما كان يجري على وجه الماء كما يشتهيه الملاح صار كأنه حيوان مسخر له .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الخامسة : قوله تعالى : ( وسخر لكم الأنهار ) واعلم أن ماء البحر قلما ينتفع به في الزراعات لا جرم ذكر تعالى إنعامه على الخلق بتفجير الأنهار والعيون حتى ينبعث الماء منها إلى مواضع الزرع والنبات ، وأيضا ماء البحر لا يصلح للشرب ، والصالح لهذا المهم هو مياه الأنهار .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة السادسة والسابعة : قوله : ( وسخر لكم الشمس والقمر دائبين ) .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن الانتفاع بالشمس والقمر عظيم ، وقد ذكره الله تعالى في آيات منها قوله : ( وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا ) [ نوح : 16 ] ومنها قوله : ( الشمس والقمر بحسبان ) [ الرحمن : 5 ] ومنها قوله : ( وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا ) [ الفرقان : 61 ] ومنها قوله : ( هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا ) [ يونس : 5 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            وقوله : ( دائبين ) معنى الدءوب في اللغة مرور الشيء في العمل على عادة مطردة يقال : دأب يدأب دأبا ودؤوبا وقد ذكرنا هذا في قوله : ( قال تزرعون سبع سنين دأبا ) [ يوسف : 47 ] قال المفسرون : قوله : ( دائبين ) معناه يدأبان في سيرهما وإنارتهما وتأثيرهما في إزالة الظلمة وفي إصلاح النبات والحيوان ، فإن الشمس سلطان النهار والقمر سلطان الليل ولولا الشمس لما حصلت الفصول الأربعة ، ولولاها لاختلت مصالح العالم بالكلية ، وقد ذكرنا منافع الشمس والقمر بالاستقصاء في أول هذا الكتاب .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 102 ] الحجة الثامنة والتاسعة : قوله : ( وسخر لكم الشمس والقمر ) .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن منافعهما مذكورة في القرآن كقوله تعالى : ( وجعلنا الليل لباسا وجعلنا النهار معاشا ) [ النبأ : 10 ، 11 ] وقوله : ( هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا ) قال المتكلمون : تسخير الليل والنهار مجاز لأنهما عرضان ، والأعراض لا تسخر .

                                                                                                                                                                                                                                            والحجة العاشرة : قوله : ( وآتاكم من كل ما سألتموه ) ثم إنه تعالى لما ذكر تلك النعمة العظيمة بين بعد ذلك أنه لم يقتصر عليها ، بل أعطى عباده من المنافع والمرادات ما لا يأتي على بعضها التعديد والإحصاء فقال : ( وآتاكم من كل ما سألتموه ) والمفعول محذوف تقديره : من كل مسئول شيئا ، وقرئ : " من كل " بالتنوين . و ( ما سألتموه ) نفي ، ومحله نصب على الحال أي آتاكم من جميع ذلك غير سائليه ، ويجوز أن تكون " ما " موصولة والتقدير : آتاكم من كل ذلك ما احتجتم إليه ولم تصلح أحوالكم ومعايشكم إلا به ، فكأنكم سألتموه أو طلبتموه بلسان الحال ، ثم إنه تعالى لما ذكر هذه النعم ختم الكلام بقوله : ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) قال الواحدي : النعمة ههنا اسم أقيم مقام المصدر يقال : أنعم الله عليه ، ينعم إنعاما ونعمة أقيم الاسم مقام الإنعام كقوله : أنفقت عليه إنفاقا ونفقة بمعنى واحد ، ولذلك لم يجمع لأنه في معنى المصدر ، ومعنى قوله : ( لا تحصوها ) أي لا تقدرون على تعديد جميعها لكثرتها .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن الإنسان إذا أراد أن يعرف أن الوقوف على أقسام نعم الله ممتنع ، فعليه أن يتأمل في شيء واحد ليعرف عجز نفسه عنه ونحن نذكر منه مثالين .

                                                                                                                                                                                                                                            المثال الأول : أن الأطباء ذكروا أن الأعصاب قسمان : منها دماغية ، ومنها نخاعية . أما الدماغية فإنها سبعة ثم أتعبوا أنفسهم في معرفة الحكم الناشئة من كل واحد من تلك الأرواح السبعة ، ثم مما لا شك فيه أن كل واحد من الأرواح السبعة تنقسم إلى شعب كثيرة ، وكل واحد من تلك الشعب أيضا إلى شعب دقيقة أدق من الشعر ولكل واحد منها ممر إلى الأعضاء ، ولو أن شعبة واحدة اختلت إما بسبب الكمية أو بسبب الكيفية أو بسبب الوضع لاختلت مصالح البنية ، ثم إن تلك الشعب الدقيقة تكون كثيرة العدد جدا ، ولكل واحدة منها حكمة مخصوصة ، فإذا نظر الإنسان في هذا المعنى عرف أن لله تعالى بحسب كل شظية من تلك الشظايا العصبية على العبد نعمة عظيمة لو فاتت لعظم الضرر عليه ، وعرف قطعا أنه لا سبيل له إلى الوقوف عليها والاطلاع على أحوالها وعند هذا يقطع بصحة قوله تعالى : ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) ، وكما اعتبرت هذا في الشظايا العصبية فاعتبر مثله في الشرايين والأوردة ، وفي كل واحد من الأعضاء البسيطة والمركبة بحسب الكمية والكيفية والوضع والفعل والانفعال حتى ترى أقسام هذا الباب بحرا لا ساحل له . وإذا اعتبرت هذا في بدن الإنسان الواحد فاعرف أقسام نعم الله تعالى في نفسه وروحه ، فإن عجائب عالم الأرواح أكثر من عجائب عالم الأجساد ، ثم لما اعتبرت حالة الحيوان الواحد فعند ذلك اعتبر أحوال عالم الأفلاك والكواكب وطبقات العناصر وعجائب البر والبحر والنبات والحيوان ، وعند هذا تعرف أن عقول جميع الخلائق لو ركبت وجعلت عقلا واحدا ثم بذلك العقل يتأمل الإنسان في عجائب حكمة الله تعالى في أقل الأشياء لما أدرك منها إلا القليل ، فسبحانه تقدس عن أوهام المتوهمين .

                                                                                                                                                                                                                                            المثال الثاني : أنك إذا أخذت اللقمة الواحدة لتضعها في الفم فانظر إلى ما قبلها وإلى ما بعدها أما [ ص: 103 ] الأمور التي قبلها : فاعرف أن تلك اللقمة من الخبز لا تتم ولا تكمل إلا إذا كان هذا العالم بكليته قائما على الوجه الأصوب ، لأن الحنطة لا بد منها ، وأنها لا تنبت إلا بمعونة الفصول الأربعة ، وتركيب الطبائع وظهور الرياح والأمطار ، ولا يحصل شيء منها إلا بعد دوران الأفلاك ، واتصال بعض الكواكب ببعض على وجوه مخصوصة في الحركات ، وفي كيفيتها في الجهة والسرعة والبطء ، ثم بعد أن تكون الحنطة لا بد من آلات الطحن والخبز ، وهي لا تحصل إلا عند تولد الحديد في أرحام الجبال ، ثم إن الآلات الحديدية لا يمكن إصلاحها إلا بآلات أخرى حديدية سابقة عليها ، ولا بد من انتهائها إلى آلة حديدية هي أول هذه الآلات ، فتأمل أنها كيف تكونت على الأشكال المخصوصة ، ثم إذا حصلت تلك الآلات فانظر أنه لا بد من اجتماع العناصر الأربعة ، وهي الأرض والماء والهواء والنار حتى يمكن طبخ الخبز من ذلك الدقيق . فهذا هو النظر فيما تقدم على حصول هذه اللقمة .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما النظر فيما بعد حصولها : فتأمل في تركيب بدن الحيوان ، وهو أنه تعالى كيف خلق الأبدان حتى يمكنها الانتفاع بتلك اللقمة ، وأنه كيف يتضرر الحيوان بالأكل وفي أي الأعضاء تحدث تلك المضار ، ولا يمكنك أن تعرف القليل من هذه الأشياء إلا بمعرفة علم التشريح وعلم الطب بالكلية ، فظهر بما ذكرنا أن الانتفاع باللقمة الواحدة لا يمكن معرفته إلا بمعرفة جملة الأمور ، والعقول قاصرة عن إدراك ذرة من هذه المباحث ، فظهر بهذا البرهان القاهر صحة قوله تعالى : ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) ، ثم إنه تعالى قال : ( إن الإنسان لظلوم كفار ) قيل : يظلم النعمة بإغفال شكرها كفار شديد الكفران لها . وقيل : ظلوم في الشدة يشكو ويجزع ، كفار في النعمة يجمع ويمنع ، والمراد من الإنسان ههنا : الجنس ؛ يعني أن عادة هذا الجنس هو هذا الذي ذكرناه ، وههنا بحثان :

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الأول : أن الإنسان مجبول على النسيان وعلى الملالة ، فإذا وجد نعمة نسيها في الحال وظلمها بترك شكرها ، وإن لم ينسها فإنه في الحال يملها فيقع في كفران النعمة ، وأيضا أن نعم الله كثيرة فمتى حاول التأمل في بعضها غفل عن الباقي .

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الثاني : أنه تعالى قال في هذا الموضع : ( إن الإنسان لظلوم كفار ) وقال في سورة النحل : ( إن الله لغفور رحيم ) [ النحل : 18 ] ولما تأملت فيه لاحت لي فيه دقيقة كأنه يقول : إذا حصلت النعم الكثيرة فأنت الذي أخذتها وأنا الذي أعطيتها ، فحصل لك عند أخذها وصفان : وهما كونك ظلوما كفارا ، ولي وصفان عند إعطائها وهما كوني غفورا رحيما ، والمقصود كأنه يقول : إن كنت ظلوما فأنا غفور ، وإن كنت كفارا فأنا رحيم أعلم عجزك وقصورك فلا أقابل تقصيرك إلا بالتوقير ولا أجازي جفاءك إلا بالوفاء ، ونسأل الله حسن العاقبة والرحمة .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية