الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( فصل ) :

                                                                                                                                وأما بيان من يفترض عليه فنقول إنه لا يفترض إلا على القادر عليه فمن لا قدرة له لا جهاد عليه ; لأن الجهاد بذل الجهد ، وهو الوسع والطاقة بالقتال ، أو المبالغة في عمل القتال ، ومن لا وسع له كيف يبذل الوسع والعمل ، فلا يفرض على الأعمى والأعرج ، والزمن والمقعد ، والشيخ الهرم ، والمريض والضعيف ، والذي لا يجد ما ينفق ، قال الله - سبحانه وتعالى - { ليس على الأعمى حرج } الآية وقال - سبحانه وتعالى عز من قائل - { ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله } إذا نصحوا لله ورسوله فقد عذر الله - جل شأنه - هؤلاء بالتخلف عن الجهاد ورفع الحرج عنهم .

                                                                                                                                ولا جهاد على الصبي والمرأة ; لأن بنيتهما لا تحتمل الحرب عادة ، وعلى هذا الغزاة إذا جاءهم جمع من المشركين ما لا طاقة لهم به ، وخافوهم أن يقتلوهم ، فلا بأس لهم أن ينحازوا إلى بعض أمصار المسلمين أو إلى بعض جيوشهم ، والحكم في هذا الباب لغالب الرأي ، وأكبر الظن دون العدد ، فإن غلب على ظن الغزاة أنهم يقاومونهم يلزمهم الثبات ، وإن كانوا أقل عددا منهم ، وإن كان غالب ظنهم أنهم يغلبون فلا بأس أن ينحازوا إلى المسلمين ; ليستعينوا بهم ، وإن كانوا أكثر عددا من الكفرة ، وكذا الواحد من الغزاة ليس معه سلاح مع اثنين منهم معهما سلاح ، أو مع واحد منهم من الكفرة ومعه [ ص: 99 ] سلاح ، لا بأس أن يولي دبره متحيزا إلى فئة والأصل فيه : قوله - تبارك وتعالى - { ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير } الله - عز شأنه - نهى المؤمنين عن تولية الأدبار عاما بقوله - تبارك وتعالى - { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار } وأوعد عليهم بقوله - سبحانه وتعالى - { ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله } الآية ; لأن في الكلام تقديما وتأخيرا معناه والله - سبحانه وتعالى - أعلم { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله } ثم استثنى - سبحانه وتعالى - ومن يولي دبره لجهة مخصوصة فقال - عز من قائل - { إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة }

                                                                                                                                والاستثناء من الحظر إباحة ، فكان المحظور تولية مخصوصة ، وهي أن يولي دبره غير متحرف لقتال ، ولا متحيز إلى فئة فبقيت التولية إلى جهة التحرف والتحيز مستثناة من الحظر ، فلا تكون محظورة ، ونظير هذه الآية قوله - سبحانه وتعالى - { من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم } إنه على التقديم والتأخير على ما نذكره في كتاب الإكراه إن شاء الله - تعالى - وبه تبين أن الآية الشريفة غير منسوخة ، وكذا قوله - سبحانه وتعالى - { إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين } وقوله { وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا } ليس بمنسوخ ; لأن التولية للتحيز إلى فئة خص فيها ، فلم تكن الآيتان منسوختين ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .

                                                                                                                                والدليل عليه قوله عليه الصلاة والسلام للذين فروا إلى المدينة وهو فيها { أنتم الكرارون ، أنا فئة كل مسلم } أخبر عليه الصلاة والسلام أن المتحيز إلى فئة كرار وليس بفرار من الزحف ، فلا يلحقه الوعيد وعلى هذا إذا كانت الغزاة في سفينة فاحترقت السفينة وخافوا الغرق ، حكموا فيه غالب رأيهم ، وأكبر ظنهم ، فإن غلب على رأيهم أنهم لو طرحوا أنفسهم في البحر لينجوا بالسباحة ، وجب عليهم الطرق ليسبحوا فيتحيزوا إلى فئة ، وإن استوى جانبا الحرق والغرق ، بأن كان إذا قاموا حرقوا ، وإذا طرحوا غرقوا ، فلهم الخيار عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - وقال محمد - رحمه الله : لا يجوز لهم أن يطرحوا أنفسهم في الماء .

                                                                                                                                ( وجه ) قوله أنهم لو ألقوا أنفسهم في الماء لهلكوا ، ولو أقاموا في السفينة لهلكوا أيضا ، إلا أنهم لو طرحوا لهلكوا بفعل أنفسهم ، ولو صبروا لهلكوا بفعل العدو ، فكان الصبر أقرب إلى الجهاد ، فكان أولى .

                                                                                                                                ( وجه ) قولهما أنه استوى الجانبان في الإفضاء إلى الهلاك ، فيثبت لهم الخيار ; لجواز أن يكون الهلاك بالغرق أرفق قوله لو أقاموا لهلكوا بفعل العدو وقلنا ولو طرحوا لهلكوا بفعل العدو أيضا ، إذ العدو هو الذي ألجأهم إليه ، فكان الهلاك في الحالين مضافا إلى فعل العدو ، ثم قد يكون الهلاك بالغرق أسهل فيثبت لهم الخيار ، ولو طعن مسلم برمح فلا بأس بأن يمشي إلى من طعنه من الكفرة حتى يجهزه ; لأنه يقصد بالمشي إليه بذل نفسه ; لإعزاز دين الله - سبحانه وتعالى - وتحريض المؤمنين على أن لا يبخلوا بأنفسهم في قتال أعداء الله - سبحانه وتعالى - فكان جائزا والله - سبحانه وتعالى - أعلم - .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية