الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد .

أعقب تخويفهم بعقاب الدنيا الذي حل مثله بقوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم بأن خوفهم وأنذرهم عذاب الآخرة عاطفا جملته على جملة عذاب الدنيا .

وأقحم بين حرف العطف والمعطوف نداء قومه للغرض الذي تقدم آنفا .

و ( يوم التناد ) يوم الحساب والحشر ، سمي يوم التناد لأن الخلق يتنادون يومئذ : فمن مستشفع ، ومن متضرع ، ومن مسلم ومهنئ ، ومن موبخ ، ومن معتذر ، ومن آمر ، ومن معلن بالطاعة ، قال تعالى يوم يناديهم ، أولئك ينادون من مكان بعيد ، ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار ، ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة ، يوم ندعو كل أناس بإمامهم ، دعوا هنالك ثبورا ، يوم يدعو الداعي إلى شيء نكر ونحو ذلك .

ومن بديع البلاغة ذكر هذا الوصف لليوم في هذا المقام ليذكرهم أنه في موقفه بينهم يناديهم ب ( يا قوم ) ناصحا ومريدا خلاصهم من كل نداء مفزع يوم القيامة ، وتأهيلهم لكل نداء سار فيه .

وقرأ الجمهور ( يوم التناد ) بدون ياء في الوصل والوقف وهو غير منون ولكن عومل معاملة المنون لقصد الرعاية على الفواصل ، كقول التاسعة من نساء [ ص: 137 ] حديث أم زرع زوجي رفيع العماد ، طويل النجاد ، كثير الرماد ، قريب البيت من الناد فحذفت الياء من كلمة الناد وهي معرفة .

وقرأ ابن كثير " يوم التنادي " بإثبات الياء على الأصل اعتبارا بأن الفاصلة هي قوله ( فما له من هاد ) .

و يوم تولون بدل من يوم التناد ، والتولي : الرجوع ، والإدبار : أن يرجع من الطريق التي وراءه ، أي من حيث أتى هربا من الجهة التي ورد إليها لأنه وجد فيها ما يكره ، أي يوم تفرون من هول ما تجدونه . و ( مدبرين ) حال مؤكدة لعاملها وهو ( تولون ) .

وجملة ما لكم من الله من عاصم في موضع الحال . والمعنى : حالة لا ينفعكم التولي .

والعاصم : المانع والحافظ . و ( من الله ) متعلق ب ( عاصم ) ، و ( من ) المتعلقة به للابتداء ، تقول : عصمه من الظالم ، أي جعله في منعة مبتدأة من الظالم . وضمن فعل ( عصم ) معنى : أنقذ وانتزع ، ومعنى ( من الله ) من عذابه وعقابه لأن المنع إنما تتعلق به المعاني لا الذوات .

و ( من ) الداخلة على ( عاصم ) مزيدة لتأكيد النفي .

وأغنى الكلام على تعدية فعل أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب عن إعادته هنا .

وجملة ومن يضلل الله فما له من هاد عطف على جملة إني أخاف عليكم يوم التناد لتضمنها معنى : إني أرشدكم إلى الحذر من يوم التنادي .

وفي الكلام إيجاز بحذف جمل تدل عليها الجملة المعطوفة .

والتقدير : هذا إرشاد لكم فإن هداكم الله عملتم به وإن أعرضتم عنه فذلك لأن الله أضلكم ومن يضلل الله فما له من هاد ، وفي هذه الجملة معنى التذييل .

ومعنى إسناد الإضلال والإغواء ونحوهما إلى الله أن يكون قد خلق نفس [ ص: 138 ] الشخص وعقله خلقا غير قابل لمعاني الحق والصواب ، ولا ينفعل لدلائل الاعتقاد الصحيح .

وأراد من هذه الصلة العموم الشامل لكل من حرمه الله التوفيق ، وفيه تعريض بتوقعه أن يكون فرعون وقومه من جملة هذا العموم ، وآثر لهم هذا دون أن يقول ومن يهد الله فما له من مضل لأنه أحس منهم الإعراض ولم يتوسم فيهم مخائل الانتفاع بنصحه وموعظته .

التالي السابق


الخدمات العلمية