الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( فلما أتاها نودي يا موسى ( 11 ) إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى ( 12 ) )

يقول تعالى ذكره : فلما أتى النار موسى ، ناداه ربه ( يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك ) . [ ص: 278 ]

كما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن وهب بن منبه ، قال : خرج موسى نحوها ، يعني نحو النار ، فإذا هي في شجر من العليق ، وبعض أهل الكتاب يقول في عوسجة ، فلما دنا استأخرت عنه ، فلما رأى استئخارها رجع عنها ، وأوجس في نفسه منها خيفة; فلما أراد الرجعة ، دنت منه ثم كلم من الشجرة ، فلما سمع الصوت استأنس ، وقال الله تبارك وتعالى ( يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى ) فخلعها فألفاها .

واختلف أهل العلم في السبب الذي من أجله أمر الله موسى بخلع نعليه ، فقال بعضهم : أمره بذلك ، لأنهما كانتا من جلد حمار ميت ، فكره أن يطأ بهما الوادي المقدس ، وأراد أن يمسه من بركة الوادي .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن عاصم ، عن أبي قلابة ، عن كعب ، أنه رآهم يخلعون نعالهم ( فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى ) فقال : كانت من جلد حمار ميت ، فأراد الله أن يمسه القدس .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا الحسين ، عن يزيد ، عن عكرمة ، في قوله ( فاخلع نعليك ) قال : كانتا من جلد حمار ميت .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعد ، عن قتادة ، قال : حدثنا ، أن نعليه كانتا من جلد حمار ، فخلعهما ثم أتاه .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله ( فاخلع نعليك ) قال : كانتا من جلد حمار ، فقيل له اخلعهما .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج . قال : وأخبرني عمر بن عطاء عن عكرمة وأبو سفيان ، عن معمر ، عن جابر الجعفي ، عن علي بن أبي طالب ( فاخلع نعليك ) قال : كانتا من جلد حمار ، فقيل له اخلعهما . قال : وقال قتادة مثل ذلك .

وقال آخرون : كانتا من جلد بقر ، ولكن الله أراد أن يطأ موسى الأرض بقدميه ، ليصل إليه بركتها .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني [ ص: 279 ] حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال الحسن : كانتا ، يعني نعلي موسى من بقر ، ولكن إنما أراد الله أن يباشر بقدميه بركة الأرض ، وكان قد قدس مرتين . قال ابن جريج : وقيل لمجاهد : زعموا أن نعليه كانتا من جلد حمار أو ميتة ، قال : لا ولكنه أمر أن يباشر بقدميه بركة الأرض .

حدثني يعقوب ، قال : قال أبو بشر ، يعني ابن علية ، سمعت ابن أبي نجيح ، يقول في قوله : ( فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى ) قال : يقول : أفض بقدميك إلى بركة الوادي .

قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : أمره الله تعالى ذكره بخلع نعليه ليباشر بقدميه بركة الوادي ، إذ كان واديا مقدسا .

وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالصواب ، لأنه لا دلالة في ظاهر التنزيل على أنه أمر بخلعهما من أجل أنهما من جلد حمار ولا لنجاستهما ، ولا خبر بذلك عمن يلزم بقوله الحجة ، وإن في قوله ( إنك بالوادي المقدس طوى ) بعقبه دليلا واضحا ، على أنه إنما أمره بخلعهما لما ذكرنا .

ولو كان الخبر الذي حدثنا به بشر قال : ثنا خلف بن خليفة عن حميد بن عبد الله بن الحارث ، عن ابن مسعود ، عن نبي الله صلى الله عليه وسلم ، قال : "يوم كلم الله موسى ، كانت عليه جبة صوف وكساء صوف ، و سراويل صوف ، ونعلان من جلد حمار غير مذكى " صحيحا لم نعده إلى غيره ، ولكن في إسناده نظر يجب التثبت فيه .

واختلفت القراء في قراءة قوله ( إني أنا ربك ) فقرأ ذلك بعض قراء المدينة والبصرة " نودي يا موسى أني " بفتح الألف من "أني" ، فأن على قراءتهم في موضع رفع بقوله : نودي ، فإن معناه : كان عندهم نودي هذا القول ، وقرأه بعض عامة قراء المدينة والكوفة بالكسر : نودي يا موسى إني ، على الابتداء ، وأن معنى ذلك قيل : يا موسى إني .

قال أبو جعفر : والكسر أولى القراءتين عندنا بالصواب ، وذلك أن النداء قد حال بينه وبين العمل في أن قوله " يا موسى " ، وحظ قوله "نودي" أن يعمل في أن لو كانت قبل قوله " يا موسى " ، وذلك أن يقال : نودي أن يا موسى إني أنا ربك ، [ ص: 280 ] ولا حظ لها في "إن" التي بعد موسى .

وأما قوله ( إنك بالوادي المقدس طوى ) فإنه يقول : إنك بالوادي المطهر المبارك .

كما حدثني علي ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله ( إنك بالوادي المقدس طوى ) يقول : المبارك .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال مجاهد ، قوله ( إنك بالوادي المقدس طوى ) قال : قدس بورك مرتين .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، قوله ( إنك بالوادي المقدس طوى ) قال : بالوادي المبارك .

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله ( طوى ) فقال بعضهم : معناه : إنك بالوادي المقدس طويته ، فعلى هذا القول من قولهم طوى مصدر خرج من غير لفظه ، كأنه قال : طويت الوادي المقدس طوى .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : قوله ( إنك بالوادي المقدس طوى ) يعني الأرض المقدسة ، وذلك أنه مر بواديها ليلا فطواه ، يقال : طويت وادي كذا وكذا طوى من الليل ، وارتفع إلى أعلى الوادي ، وذلك نبي الله موسى صلى الله عليه وسلم .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : مرتين ، وقال : ناداه ربه مرتين; فعلى قول هؤلاء طوى مصدر أيضا من غير لفظه ، وذلك أن معناه عندهم : نودي يا موسى مرتين نداءين ، وكان بعضهم ينشد شاهدا لقوله طوى ، أنه بمعنى مرتين ، قول عدي بن زيد العبادي :


أعاذل إن اللوم في غير كنهه علي طوى من غيك المتردد

[ ص: 281 ]

وروى ذلك آخرون : "علي ثنى" : أي مرة بعد أخرى ، وقالوا : طوى وثنى بمعنى واحد .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، ( فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى ) كنا نحدث أنه واد قدس مرتين ، وأن اسمه طوى .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : إنه قدس طوى : مرتين .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال الحسن : كان قد قدس مرتين .

وقال آخرون : بل طوى : اسم الوادي .

ذكر من قال ذلك :

حدثني علي بن داود ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله ( طوى ) : اسم للوادي .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : طوى : قال : اسم الوادي .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله ( بالوادي المقدس طوى ) قال : ذاك الوادي هو طوى ، حيث كان موسى ، وحيث كان إليه من الله ما كان ، قال : وهو نحو الطور .

وقال آخرون : بل هو أمر من الله لموسى أن يطأ الوادي بقدميه .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن منصور الطوسي ، قال : ثنا صالح بن إسحاق ، عن جعفر بن برقان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في قول الله تبارك وتعالى ( فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى ) قال : طأ الوادي .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى ، قال : ثنا الحسن ، عن يزيد ، عن عكرمة ، في قوله ( طوى ) قال : طأ الوادي .

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن [ ص: 282 ] سعيد بن جبير ، في قول الله ( طوى ) قال : طأ الأرض حافيا ، كما تدخل الكعبة حافيا ، يقول : من بركة الوادي .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ( طوى ) طأ الأرض حافيا .

واختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأه بعض قراء المدينة ( طوى ) بضم الطاء وترك التنوين ، كأنهم جعلوه اسم الأرض التي بها الوادي ، كما قال الشاعر :


نصروا نبيهم وشدوا أزره     بحنين حين تواكل الأبطال



فلم يجر حنين ، لأنه جعله اسما للبلدة لا للوادي : ولو كان جعله اسما للوادي لأجراه كما قرأت القراء ( ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم ) وكما قال الآخر :


ألسنا أكرم الثقلين رحلا     وأعظمهم ببطن حراء نارا



فلم يجر حراء ، وهو جبل ، لأنه حمله اسما للبلدة ، فكذلك طوى" في قراءة من لم يجره جعله اسما للأرض . وقرأ ذلك عامة قراء أهل الكوفة : ( طوى ) بضم الطاء والتنوين; وقارئو ذلك كذلك مختلفون في معناه على ما قد ذكرت من اختلاف أهل التأويل; فأما من أراد به المصدر من طويت ، فلا مؤنة في تنوينه ، وأما من أراد أن يجعله اسما للوادي ، فإنه إنما ينونه لأنه اسم ذكر لا مؤنث ، وأن لام الفعل منه ياء ، فزاده ذلك خفة فأجراه كما قال الله ( ويوم حنين ) إذ كان حنين اسم واد ، والوادي مذكر .

قال أبو جعفر : وأولى القولين عندي بالصواب قراءة من قرأه بضم الطاء والتنوين ، لأنه إن يكن اسما للوادي فحظه التنوين لما ذكر قبل من العلة لمن قال ذلك ، وإن كان مصدرا أو مفسرا ، فكذلك أيضا حكمه التنوين ، وهو عندي اسم الوادي . وإذ كان ذلك كذلك ، فهو في موضع خفض ردا على الوادي . [ ص: 283 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية