الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر ملك الفرنج عكا

في يوم الجمعة ، سابع عشر جمادى الآخرة ، استولى الفرنج - لعنهم الله - على مدينة عكا ، وكان أول وهن دخل على من بالبلد أن الأمير سيف الدين علي بن أحمد الهكاري المعروف بالمشطوب ، كان فيها ، ومعه عدة من الأمراء كان هو أمثلهم وأكبرهم ، خرج إلى ملك إفرنسيس وبذل له تسليم البلد بما فيه على أن يطلق المسلمين الذين فيه ، ويمكنهم من اللحاق بسلطانهم ، فلم يجبه إلى ذلك ، فعاد علي بن أحمد إلى البلد ، فوهن من فيه ، وضعفت نفوسهم ، وتخاذلوا ، وأهمتهم أنفسهم .

ثم إن أميرين ممن كان بعكا ، لما رأوا ما فعلوا بالمشطوب ، وأن الفرنج لم [ ص: 96 ] يجيبوا إلى الأمان ، اتخذوا الليل جملا . وركبوا في شيني صغير ، وخرجوا سرا من أصحابهم . ولحقوا بعسكر المسلمين ، وهم عز الدين أرسل الأسدي ، وابن عز الدين جاولي ، ومعهم غيرهم ، فلما أصبح الناس ورأوا ذلك ازدادوا وهنا إلى وهنهم . وضعفا إلى ضعفهم ، وأيقنوا بالعطب .

ثم إن الفرنج أرسلوا إلى صلاح الدين في معنى تسليم البلد فأجابهم إلى ذلك ، والشرط بينهم أن يطلق من أسراهم بعدد من في البلد ليطلقوا هم من بعكا ، وأن يسلم إليهم صليب الصلبوت .

فلم يقنعوا بما بذل ، فأرسل إلى من بعكا من المسلمين يأمرهم أن يخرجوا من عكا يدا واحدة ، ويسيروا مع البحر ، ويحملوا على العدو حملة واحدة ، ويتركوا البلد بما فيه ، ووعدهم أنه يتقدم إلى تلك الجهة التي يخرجون منها بعساكره ، يقاتل الفرنج فيها ليلحقوا به ، فشرعوا في ذلك ، واشتغل كل منهم باستصحاب ما يملكه ، فما فرغوا من أشغالهم حتى أسفر الصبح ، فبطل ما عزموا عليه لظهوره .

فلما أصبحوا عجز الناس ، عن حفظ البلد ، وزحف إليهم الفرنج بحدهم وحديدهم ، فظهر من بالبلد على سوره يحركون أعلامهم ليراها المسلمون .

وكانت هي العلامة إذا حزبهم أمر ، فلما رأى المسلمون ذلك ضجوا بالبكاء والعويل ، وحملوا على الفرنج من جميع جهاتهم ظنا منهم أن الفرنج يشتغلون عن الذين بعكا ، وصلاح الدين يحضهم وهو في أولهم .

وكان الفرنج قد زحفوا من خنادقهم ومالوا إلى جهة البلد ، فقرب المسلمون من خنادقهم ، حتى كادوا يدخلونها عليهم ويضعون السيف فيهم ، فوقع الصوت فعاد الفرنج ومنعوا المسلمين ، وتركوا في مقابلة من بالبلد من يقاتلهم .

فلما رأى المشطوب أن صلاح الدين لا يقدر على نفع ، ولا يدفع عنهم ضرا خرج إلى الفرنج ، وقرر معهم تسليم البلد وخروج من فيه بأموالهم وأنفسهم ، وبذل [ ص: 97 ] لهم عن ذلك مائتي ألف دينار وخمسمائة أسير من المعروفين ، وإعادة صليب الصلبوت وأربعة عشر ألف دينار للمركيس صاحب صور ، فأجابوه إلى ذلك ، وحلفوا له عليه ، وأن تكون مدة تحصيل المال والأسرى إلى شهرين .

فلما حلفوا له سلم البلد إليهم ودخلوه ، سلما فلما ملكوه غدروا واحتاطوا على من فيه من المسلمين وعلى أموالهم ، وحبسوهم ، وأظهروا أنهم يفعلون ذلك ليصل إليهم ما بذل لهم ، وراسلوا صلاح الدين في إرسال المال والأسرى والصليب ، حتى يطلقوا من عندهم ، فشرع في جمع المال ، وكان هو لا مال له ، إنما يخرج ما يصل إليه من دخل البلاد أولا بأول .

فلما اجتمع عنده من المال مائة ألف دينار جمع الأمراء واستشارهم ، فأشاروا بأن لا يرسل شيئا حتى يعود فيستحلفهم على إطلاق أصحابه ، وأن يضمن الداوية ذلك ، لأنهم أهل تدين يرون الوفاء ، فراسلهم صلاح الدين في ذلك ، فقال الداوية : لا نحلف ولا نضمن لأننا نخاف غدر من عندنا .

وقال ملوكهم : إذا سلمتم إلينا المال والأسرى والصليب فلنا الخيار فيمن عندنا فحينئذ علم صلاح الدين عزمهم على الغدر ، فلم يرسل إليهم شيئا ، وأعاد الرسالة إليهم ، وقال : نحن نسلم إليكم هذا المال والأسرى والصليب ، ونعطيكم رهنا على الباقي وتطلقون أصحابنا ، وتضمن الداوية الرهن ، ويحلفون على الوفاء لهم .

فقالوا : لا نحلف ، إنما ترسل إلينا المائة ألف دينار التي حصلت ، والأسرى ، والصليب ، ونحن نطلق من أصحابكم من نريد ونترك من نريد حتى يجيء باقي المال ، فعلم الناس حينئذ غدرهم ، وإنما يطلقون غلمان العسكر والفقراء والأكراد ومن لا يؤبه له ، ويمسكون عندهم الأمراء وأرباب الأموال ، ويطلبون منهم الفداء فلم يجبهم السلطان إلى ذلك .

فلما كان يوم الثلاثاء السابع والعشرين من رجب ، ركب الفرنج ، وخرجوا إلى ظاهر البلد بالفارس والراجل ، وركب المسلمون إليهم وقصدوهم ، وحملوا عليهم ، فانكشفوا عن موقفهم ، وإذا أكثر من كان عندهم من المسلمين قتلى قد وضعوا فيهم السيف وقتلوهم ، واستبقوا الأمراء والمقدمين ومن كان له مال ، وقتلوا من سواهم من [ ص: 98 ] سوادهم وأصحابهم ومن لا مال له ، فلما رأى صلاح الدين ذلك تصرف في المال الذي كان جمعه ، ورد الأسرى والصليب إلى دمشق .

التالي السابق


الخدمات العلمية