الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                وهل للإمام أن يفادي الأسارى ؟ أما المفاداة بالمال فلا تجوز عند أصحابنا في ظاهر الروايات وقال محمد : مفاداة الشيخ الكبير الذي لا يرجى له ولد تجوز ، وعند الشافعي - رحمه الله - تجوز المفاداة بالمال كيف ما كان ، واحتج بظاهر قوله - عز وجل - { فإما منا بعد وإما فداء } وقد فادى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسارى بدر بالمال ، وأدنى درجات فعله عليه الصلاة والسلام الجواز ، والإباحة .

                                                                                                                                ( ولنا ) أن قتل الأسرى مأمور به ; لقوله تعالى { فاضربوا فوق الأعناق } وأنه منصرف إلى ما بعد الأخذ والاسترقاق لما قلنا ، وقوله - سبحانه وتعالى - { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } والأمر بالقتل للتوسل إلى الإسلام ، فلا يجوز تركه إلا لما شرع له القتل ، وهو أن يكون وسيلة إلى الإسلام ولا يحصل معنى التوسل بالمفاداة ، فلا يجوز [ ص: 120 ] ترك المفروض لأجله ، ويحصل بالذمة والاسترقاق لما بينا فكان إقامة للفرض معنى لا تركا له ، ولأن المفاداة بالمال إعانة لأهل الحرب على الحراب ; لأنهم يرجعون إلى المنعة فيصيرون حربا علينا ، وهذا لا يجوز .

                                                                                                                                ومحمد - رحمه الله - يقول : معنى الإعانة لا يحصل من الشيخ الكبير الذي لا يرجى منه ولد فجاز فداؤه بالمال ، ولكننا نقول : إن كان لا يحصل بهذا الطريق يحصل بطريق آخر ، وهو الرأي والمشورة وتكثير السواد وأما قوله تعالى { فإما منا بعد وإما فداء } فقد قال بعض أهل التفسير : إن الآية منسوخة بقوله - تبارك وتعالى - { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } .

                                                                                                                                وقوله تبارك وتعالى - { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } الآية لأن سورة براءة نزلت بعد سورة محمد عليه الصلاة والسلام ويحتمل أن تكون الآية في أهل الكتاب ، فيمن من عليهم بعد أسرهم على أن يصيروا كرة للمسلمين كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأهل خيبر ، أو ذمة كما فعل سيدنا عمر رضي الله عنه بأهل السواد ، ويسترقون .

                                                                                                                                ( وأما ) أسارى بدر فقد قيل : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما فعل ذلك باجتهاده ولم ينتظر الوحي فعوتب عليه بقوله - سبحانه وتعالى - { لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم } حتى قال عليه الصلاة والسلام { لو أنزل الله من السماء نارا ما نجا إلا عمر رضي الله عنه } يدل عليه قوله تعالى { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض } على أحد وجهي التأويل أي ما كان لنبي أن يأخذ الفداء في الأسارى حتى يثخن في الأرض ، أي حتى يغلب في الأرض منعة عن أخذ الفداء بها ، وأشار إلى أن ذلك ليغلب في الأرض ; إذ لو أطلقهم لرجعوا إلى المنعة ، وصاروا حربا على المسلمين فلا تتحقق الغلبة ، ويحتمل أن المفاداة كانت جائزة ثم انتسخت بقوله - تبارك وتعالى - { فاضربوا فوق الأعناق } { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } .

                                                                                                                                وإنما عوتب عليه الصلاة والسلام { لولا كتاب من الله سبق } لا لخطر المفاداة ، بل لأنه عليه الصلاة والسلام لم ينتظر بلوغ الوحي ، وعمل باجتهاده ، أي لولا من حكم الله - تعالى - أن لا يعذب أحدا على العمل بالاجتهاد ، لمسكم العذاب بالعمل بالاجتهاد ، وترككم انتظار الوحي والله - تعالى - أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية