الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر ملك شهاب الدين أجمير وغيرها من الهند

قد ذكرنا سنة ثلاث وثمانين [ وخمسمائة ] غزوة شهاب الدين الغوري إلى بلد الهند ، وانهزامه وبقي إلى الآن وفي نفسه الحقد العظيم على الجند الغورية الذين انهزموا ، وما ألزمهم من الهوان .

فلما كان هذه السنة خرج من غزنة وقد جمع عساكره ، وسار منها يطلب عدوه الهندي الذي هزمه تلك النوبة ، فلما وصل إلى برشاوور تقدم إليه شيخ من الغورية كان يدل عليه ، فقال له : قد قربنا من العدو ، وما يعلم أحد أين نمضي ، ولا من نقصد ، ولا نرد على الأمراء سلاما ، وهذا لا يجوز فعله .

فقال له السلطان : اعلم أنني منذ هزمني هذا الكافر ما نمت مع زوجتي ، ولا غيرت ثياب البياض عني ، وأنا سائر إلى عدوي ، ومعتمد على الله تعالى لا على الغورية ، ولا على غيرهم ، فإن نصرني الله سبحانه ونصر دينه فمن فضله وكرمه ، وإن انهزمنا فلا تطلبوني فيمن انهزم ، ولو [ ص: 116 ] هلكت تحت حوافر الخيل .

فقال له الشيخ : سوف ترى بني عمك من الغورية ما يفعلون ، فينبغي أن تكلمهم وترد سلامهم . ففعل ذلك وبقي أمراء الغورية يتضرعون بين يديه ، ويقولون سوف ترى ما نفعل .

وسار إلى أن وصل إلى موضع المصاف الأول ، وجازه مسيرة أربعة أيام ، وأخذ عدة مواضع من بلاد العدو فلما سمع الهندي تجهز ، وجمع عساكره ، وسار يطلب المسلمين ، فلما بقي بين الطائفتين مرحلة عاد شهاب الدين وراءه والكافر في أعقابه أربع منازل .

فأرسل الكافر إليه يقول له : أعطني يدك ، إنك تصاففني في باب غزنة حتى أجيء وراءك وإلا فنحن مثقلون ، ومثلك لا يدخل البلاد شبه اللصوص ، ثم يخرج هاربا ، ما هذا فعل السلاطين ، فأعاد الجواب : إنني لا أقدر على حربك .

وتم على حاله عائدا إلى أن بقي بينه وبين بلاد الإسلام ثلاثة أيام ، والكافر في أثره يتبعه ، حتى لحقه قريبا من مرندة ، فجهز [ حينئذ ] شهاب الدين من عسكره سبعين ألفا ، وقال : أريد هذه الليلة تدورون حتى تكونوا وراء عسكر العدو ، وعند صلاة الصبح تأتون أنتم من تلك الناحية وأنا من هذه الناحية ففعلوا ذلك ، وطلع الفجر .

ومن عادة الهنود أنهم لا يبرحون من مضاجعهم إلى أن تطلع الشمس ، فلما أصبحوا حمل عليهم عسكر المسلمين من كل جانب ، وضربت الكوسات ، فلم يلتفت ملك الهند إلى ذلك ، وقال : من يقدم علي ، أنا هذا ؟ والقتل قد كثر في الهنود ، والنصر قد ظهر للمسلمين .

فلما رأى ملك الهند ذلك أحضر فرسا له سابقا ، وركب ليهرب ، فقال له أعيان أصحابه : إنك حلفت لنا أنك لا تخلينا وتهرب ، فنزل عن الفرس وركب الفيل ووقف موضعه ، والقتال شديد والقتل قد كثر في أصحابه ، فانتهى المسلمون إليه وأخذوه أسيرا ، وحينئذ عظم القتل والأسر في الهنود ، ولم ينج منهم إلا القليل .

وأحضر الهندي بين يدي شهاب الدين ، فلم يخدمه ، فأخذ بعض الحجاب بلحيته ، وجذبه إلى الأرض ، حتى أصابها جبينه ، وأقعده بين يدي شهاب الدين ، فقال [ ص: 117 ] له شهاب الدين : لو استأسرتني ما كنت تفعل بي ؟ فقال الكافر : كنت استعملت لك قيدا من ذهب أقيدك به . فقال شهاب الدين : بل نحن ما نجعل لك من القدر ما نقيدك .

وغنم المسلمون من الهنود أموالا كثيرة وأمتعة عظيمة ، وفي جملة ذلك أربعة عشر فيلا ، من جملتها الفيل الذي جرح شهاب الدين في تلك الوقعة .

وقال ملك الهند لشهاب الدين : إن كنت طالب بلاد ، فما بقي فيها من يحفظها ، وإن كنت طالب مال ، فعندي أموال تحمل أجمالك كلها .

فسار شهاب الدين وهو معه إلى الحصن الذي له يعول عليه ، وهو أجمير ، فأخذه ، وأخذ جميع البلاد التي تقاربه ، وأقطع جميع البلاد لمملوكه قطب الدين أيبك ، وعاد إلى غزنة ، وقتل ملك الهند .

التالي السابق


الخدمات العلمية