الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( وأما ) بيان كيفية قسمة الغنائم ، وبيان مصارفها ، فنقول - وبالله التوفيق : الغنائم تقسم على خمسة أسهم ، منها وهو خمس الغنيمة لأربابه ، وأربعة أخماسها للغانمين أما الخمس ، فالكلام فيه في بيان كيفية قسمة الخمس ، وفي بيان مصرفه ، فنقول : لا خلاف في أن خمس الغنيمة في حال حياة النبي عليه الصلاة والسلام كان يقسم على خمسة أسهم ، سهم للنبي عليه الصلاة والسلام وسهم لذوي القربى ، وسهم لليتامى ، وسهم للمساكين ، وسهم لأبناء السبيل قال الله - تبارك وتعالى - { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } وإضافة الخمس إلى الله - تعالى - يحتمل أن يكون لكونه مصروفا إلى وجوه القرب التي هي لله - تبارك وتعالى - وهي قوله سبحانه وتعالى { وللرسول ولذي القربى } الآية على ما تضاف المساجد والكعبة إلى الله - سبحانه وتعالى - لكونها مواضع إقامة العبادات والقرب التي هي لله - تعالى ويحتمل أن يكون تعظيما للخمس على ما بينا والأصل في إضافة جزئية الأشياء إلى الله - سبحانه وتعالى - أنها تخرج مخرج تعظيم المضاف ، كقوله : ناقة الله ، وبيت الله ويحتمل أن يكون لخلوصه - لله تعالى - بخروجه عن تصرف الغانمين كقوله تعالى { الملك يومئذ لله } والملك في كل الأيام كلها لله - تعالى - لكن خص - سبحانه وتعالى - ذلك اليوم بالملك له [ ص: 125 ] فيه ; لانقطاع تصرف الأغيار والله - تعالى - أعلم ثم اختلف العلماء في سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سهم ذوي القربى بعد وفاته أما سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قال علماؤنا - رحمهم الله : إنه سقط بعد وفاته عليه الصلاة والسلام وقال الشافعي - رحمه الله : إنه لم يسقط ، ويصرف إلى الخلفاء ; لأنه عليه الصلاة والسلام إنما كان يأخذه كفاية له لاشتغاله بمصالح المسلمين والخلفاء بعده مشغولون بذلك فيصرف سهمه إليهم كفاية لهم .

                                                                                                                                ( ولنا ) أن ذلك الخمس كان خصوصية له عليه الصلاة والسلام كالصفي الذي كان له خاصة ، والفيء وهو المالية لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب ، ثم لم يكن لأحد خصوص من الفيء والصفي ، فكذا يجب أن لا يكون لأحد خصوص من الخمس ، ولهذا لم يكن للخلفاء الراشدين بعده يحققه أنه لو بقي بعده لكان بطريق الإرث وقد قال عليه الصلاة والسلام { إنا - معاشر الأنبياء - لا نورث ، ما تركنا صدقة } ( وأما ) سهم ذوي القربى فقد قال الشافعي - رحمه الله - إنه باق ويصرف إلى أولاد بني هاشم من أولاد سيدتنا فاطمة رضي الله تعالى عنها وغيرها ، يستوي فيه فقيرهم وغنيهم .

                                                                                                                                ( وأما ) عندنا فعلى الوجه الذي كان بقي واختلف المشايخ فيه أنه كيف كان ؟ والصحيح أنه كان لفقراء القرابة دون أغنيائهم ، يعطون لفقرهم وحاجتهم لا لقرابتهم ، وقد بقي كذلك بعد وفاته ، فيجوز أن يعطى فقراء قرابته عليه الصلاة والسلام كفايتهم دون أغنيائهم ، ويقدمون على غيرهم من الفقراء ويجاوز لهم من الخمس أيضا لما لا حظ لهم من الصدقات ، لكن يجوز أن يعطى غيرهم من فقراء المسلمين دونهم فيقسم الخمس عندنا على ثلاثة أسهم : سهم لليتامى ، وسهم للمساكين ، وسهم لأبناء السبيل ويدخل فقراء ذوي القربى فيهم ، ويقدمون ، ولا يدفع إلى أغنيائهم شيء وعند الشافعي - رحمه الله - لذوي القربى سهم على حدة يصرف إلى غنيهم وفقيرهم احتج الشافعي - رحمه الله - بقوله تعالى { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى } الآية فإن - الله تعالى - جعل سهما لذوي القربى ، وهم القرابة من غير فصل بين الفقير والغني وكذا روي أنه عليه الصلاة والسلام { قسم الخمس على خمسة أسهم ، وأعطى سهما منها لذوي القربى } ، ولم يعرف له ناسخ في حال حياته ولا نسخ بعد وفاته .

                                                                                                                                ( ولنا ) ما رواه محمد بن الحسن في كتاب السير أن سيدنا أبا بكر ، وسيدنا عمر ، وسيدنا عثمان ، وسيدنا عليا رضي الله عنهم قسموا الغنائم على ثلاثة أسهم : سهم لليتامى ، وسهم للمساكين ، وسهم لأبناء السبيل بمحضر من الصحابة الكرام ، ولم ينكر عليهم أحد فيكون إجماعا منهم على ذلك وبه تبين أن ليس المراد من ذوي القربى قرابة الرسول عليه الصلاة والسلام إذ لا يظن بهم مخالفة كتاب الله - تعالى - ومخالفة رسوله عليه الصلاة والسلام في فعله ومنع الحق عن المستحق ، وكذا لا يظن بمن حضرهم من الصحابة رضي الله تعالى عنهم السكوت عما لا يحل مع ما وصفهم الله - تعالى - بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وكذا ظاهر الآية الشريفة يدل عليه ; لأن اسم ذوي القربى يتناول عموم القرابات ألا ترى إلى قوله تعالى { للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون } ولم يفهم منه قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم خاصة وكذا قوله { الوصية للوالدين والأقربين } لم ينصرف إلى قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما روي { أنه قسم عليه الصلاة والسلام الخمس على خمسة أسهم ، فأعطى عليه الصلاة والسلام ذا القربى سهما } فنعم ، لكن الكلام في أنه أعطاهم خاصة وكذا قوله { الوصية للوالدين والأقربين } ولم ينصرف إلى قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم لفقرهم وحاجتهم أو لقرابتهم وقد علمنا بقسمة الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم أنه أعطاهم لحاجتهم وفقرهم لا لقرابتهم والدليل عليه أنه عليه الصلاة والسلام كان يشدد في أمر الغنائم فتناول من وبر بعير ، وقال : { ما يحل لي من غنائمكم ولا وزن هذه الوبرة إلا الخمس وهو مردود فيكم ، ردوا الخيط والمخيط ، فإن الغلول عار ونار وشنار على صاحبه يوم القيامة } لم يخص عليه الصلاة والسلام القرابة بشيء من الخمس بل عم المسلمين جميعا بقوله عليه الصلاة والسلام والخمس مردود فيكم فدل أن سبيلهم سبيل سائر فقراء المسلمين ، يعطى من يحتاج منهم كفايته والله - سبحانه وتعالى - أعلم ولو أعطي أي فريق اتفق ممن سماهم الله تعالى جاز ; لأن ذكر هؤلاء الأصناف لبيان المصارف لا لإيجاب الصرف إلى كل صنف منهم شيئا ، بل لتعيين المصرف حتى لا يجوز الصرف إلى غير هؤلاء ، [ ص: 126 ] كما في الصدقات والله - تعالى - أعلم وأما الكلام في الأربعة الأخماس ففي موضعين في بيان .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية