الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              3668 [ 1864 ] وعنه: لقد أنزل الله الآية التي حرم الله فيها الخمر وما بالمدينة شراب يشرب إلا من تمر.

                                                                                              رواه مسلم (1982).

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              و(قول أنس : لقد أنزل الله الآية التي حرم فيها الخمر ) يعني بها: قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه [المائدة: 90] وهي نص في تحريم الخمر بمجموع كلماتها لا بآحادها، وقد فهم منها التحريم قطعا الصحابة، ولذلك قال عمر - رضي الله عنه - عند سماع: فهل أنتم منتهون [المائدة: 91] انتهينا انتهينا، وقد سبق أن الخمر: كل ما يخامر العقل.

                                                                                              والميسر: القمار، وهو لعب يؤكل به مال الغير بحيث لا يحصل له به لا أجر ولا شكر، ومنه النرد والشطرنج، حكي ذلك عن عثمان ومجاهد .

                                                                                              والأنصاب: كل ما ينصب ليعبد من دون الله تعالى، ويذبح عنده، كما كانت الجاهلية تفعل. والأزلام قداح يضربون بها عند العزم على الأمر، في بعضها: افعل. وفي بعضها: لا تفعل. وبعضها لا شيء فيه. فإذا خرج هذا أعادوا الضرب. وقيل: كان في أحدهما: أمرني ربي، وفي الأخرى: نهاني ربي. والرجس: النجس، وهو المستخبث شرعا.

                                                                                              و(قوله: من عمل الشيطان أي: يحمل عليه، ويزينه. وقيل: هو الذي كان عمل مبادي هذه الأمور بنفسه حتى اقتدي به فيها. والعداوة والبغضاء معروفان.

                                                                                              [ ص: 256 ] ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة يصرفكم عنهما، فيذهب العقل، ويضيع الوقت.

                                                                                              ويفهم من هذه الآية أيضا: الحكم بتنجيس الخمر، وهو مذهب كافة علماء السلف والخلف إلا شذوذا، وإليه ذهب ربيعة ، وحكي عن الليث ، والمزني .

                                                                                              ووجه التمسك بها على التنجيس: أن الله تعالى قد أخبر عنها أنها رجس، والرجس: النجس القذر، فتنجس. وأيضا: فلما غلظ تحريمها، وأخبر بالمفاسد الناشئة عنها اقتضى ذلك الزجر عنها مطلقا؛ مبالغة في التحريم، كما فعل في الخنزير والدم، وغير ذلك من الخبائث المحرمات. ويتحرر القياس بأن يقال: مستخبث شرعا حرم شربه، فيكون نجسا كالبول.

                                                                                              وفي الآية مباحث كثيرة، سنكتب فيها إن شاء الله تعالى جزءا مفردا.

                                                                                              و(قوله: قال بعضهم: قتل فلان، قتل فلان، وهي في بطونهم ) هذا القول أصدره عن قائله إما غلبة خوف وشفقة، وإما غفلة عن المعنى. وبيان ذلك: أن الخمر كانت مباحة لهم، كما قد صح أنهم كانوا يشربونها، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقرهم عليها، وهو ظاهر قوله تعالى: لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى [النساء: 43] ومن فعل ما أبيح له حتى مات على فعله لم يكن له ولا عليه شيء، لا إثم ولا مؤاخذة ولا ذم ولا أجر ولا مدح; لأن المباح مستوي الطرفين بالنسبة للشرع كما يعرف في الأصول. وعلى هذا: فما ينبغي أن يتخوف ولا يسأل عن حال من مات والخمر في بطنه وقت إباحتها، فإما أن يكون ذلك القائل غفل عن دليل الإباحة، فلم يخطر له، أو يكون لغلبة خوفه من الله تعالى، وشفقته على إخوانه المؤمنين توهم مؤاخذة ومعاقبة لأجل شرب الخمر المتقدم، فإن الشفيق بسوء الظن مولع، فرفع الله ذلك التوهم بقوله تعالى: ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا [المائدة: 93] أي: فيما شربوا، وهذا مثل قوله تعالى في نهر طالوت : فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني [البقرة: 249] [ ص: 257 ] أي: ومن لم يشربه.

                                                                                              وأصل هذا اللفظ في الأكل، يقال: طعم الطعام، وشرب الشراب، لكن قد تجوز في ذلك، وأحسن ما قيل في الآية: إن معنى قوله: طعموا شربوا الخمر قبل تحريمها، إذا ما اتقوا شربها بعده، وآمنوا بتحريمها، وعملوا الصالحات التي تصد عنها، ثم اتقوا داوموا على اجتنابها، وآمنوا بالوعيد عليها، ثم اتقوا سوء التأويل في تحريمها، وأحسنوا في اجتنابها مراقبة الله.

                                                                                              وقيل: إن تكرار الاتقاء في مقابلة دواعي النفس، وتكرار الإيمان تذكير بتحريمها، وتشديد الوعيد فيها. و(الجناح): الإثم والمؤاخذة.




                                                                                              الخدمات العلمية