الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : احتج بعض أصحابنا بهذه الآية على أن العبد غير خالق لأفعال نفسه فقال : إنه تعالى ميز نفسه عن سائر الأشياء التي كانوا يعبدونها بصفة الخالقية ; لأن قوله : ( أفمن يخلق كمن لا يخلق ) الغرض منه : بيان كونه ممتازا عن الأنداد بصفة الخالقية وأنه إنما استحق الإلهية والمعبودية بسبب كونه خالقا ، فهذا [ ص: 12 ] يقتضي أن العبد لو كان خالقا لبعض الأشياء لوجب كونه إلها معبودا ، ولما كان ذلك باطلا علمنا أن العبد لا يقدر على الخلق والإيجاد ، قالت المعتزلة : الجواب عنه من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الأول : أن المراد : أفمن يخلق ما تقدم ذكره من السماوات والأرض والإنسان والحيوان والنبات والبحار والنجوم والجبال كمن لا يقدر على خلق شيء أصلا ، فهذا يقتضي أن من كان خالقا لهذه الأشياء فإنه يكون إلها ولم يلزم منه أن من يقدر على أفعال نفسه أن يكون إلها .

                                                                                                                                                                                                                                            والوجه الثاني : أن معنى الآية : أن من كان خالقا كان أفضل ممن لا يكون خالقا ، فوجب امتناع التسوية بينهما في الإلهية والمعبودية ، وهذا القدر لا يدل على أن كل من كان خالقا فإنه يجب أن يكون إلها . والدليل عليه قوله تعالى : ( ألهم أرجل يمشون بها ) [ الأعراف : 195 ] ومعناه : أن الذي حصل له رجل يمشي بها يكون أفضل من الذي حصل له رجل لا يقدر أن يمشي بها ، وهذا يوجب أن يكون الإنسان أفضل من الصنم ، والأفضل لا يليق به عبادة الأخس ، فهذا هو المقصود من هذه الآية ، ثم إنها لا تدل على أن من حصل له رجل يمشي بها أن يكون إلها ، فكذلك - ههنا - المقصود من هذه الآية بيان أن الخالق أفضل من غير الخالق ، فيمتنع التسوية بينهما في الإلهية والمعبودية ، ولا يلزم منه أن بمجرد حصول صفة الخالقية يكون إلها .

                                                                                                                                                                                                                                            والوجه الثالث في الجواب : أن كثيرا من المعتزلة لا يطلقون لفظ الخالق على العبد . قال الكعبي في " تفسيره " : إنا لا نقول : إنا نخلق أفعالنا : قال : ومن أطلق ذلك فقد أخطأ ؛ إلا في مواضع ذكرها الله تعالى كقوله : وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير ) [ المائدة : 110 ] وقوله : ( فتبارك الله أحسن الخالقين ) [ المؤمنون : 14 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن أصحاب أبي هاشم يطلقون لفظ الخالق على العبد ، حتى أن أبا عبد الله البصير بالغ وقال : إطلاق لفظ الخالق على العبد حقيقة وعلى الله مجاز ، لأن الخالق عبارة عن التقدير ، وذلك عبارة عن الظن والحسبان ، وهو في حق العبد حاصل وفي حق الله تعالى محال .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن هذه الأجوبة قوية والاستدلال بهذه الآية على صحة مذهبنا ليس بقوي ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية