الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                فصل ما ذكرناه من أن الأحكام مثل صيام رمضان متعلقة بالأهلة لا ريب فيه . لكن الطريق إلى معرفة طلوع الهلال هو الرؤية ; لا غيرها : بالسمع والعقل .

                أما السمع : فقد أخبرنا غير واحد منهم شيخنا الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن محمد المقدسي وأبو الغنائم المسلم بن عثمان القيسي وغيرهما قالوا : أنبأنا حنبل بن عبد الله المؤذن أنبأنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن الحصين أنبأنا أبو علي بن المذهب أنبأنا أبو بكر [ ص: 147 ] أحمد بن جعفر بن حمدان أنبأنا أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل أنبأنا أبي حدثنا محمد بن جعفر غندر حدثنا شعبة عن الأسود بن قيس سمعت سعيد بن عمر بن سعيد يحدث أنه سمع ابن عمر رضي الله عنهما يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا وهكذا وعقد الإبهام في الثالثة . والشهر هكذا وهكذا وهكذا يعني تمام الثلاثين } .

                وقال أحمد : حدثنا عبد الرحمن عن سفيان وإسحاق يعني الأزرق أنبأنا سفيان عن الأسود بن قيس عن سعيد بن عمر عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب . الشهر هكذا وهكذا وهكذا يعني ذكر تسعا وعشرين قال إسحاق : وطبق بيديه ثلاث مرات وخنس إبهامه في الثالثة } أخرجه البخاري عن آدم عن شعبة ولفظه : { إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا وهكذا يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين } .

                وكذلك رواه أبو داود عن سليمان بن حرب عن شعبة ولفظه : { إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا وهكذا وخنس سليمان أصبعه في الثالثة يعني تسعة وعشرين وثلاثين } . رواه [ ص: 148 ] النسائي من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان . كما ذكرناه . ومن طريق غندر عن شعبة أيضا كما سقناه وقال في آخره تمام الثلاثين . ولم يقل : يعني . فروايته من جهة المسند كما سقناه أجل الطرق وأرفعها قدرا ; إذ غندر أرفع من كل من رواه عن شعبة وأضبط لحديثه والإمام أحمد أجل من رواه عن غندر عن شعبة وهذه الرواية المسندة التي رواها البخاري وأبو داود والنسائي من حديث شعبة تفسر رواية النووي وسائر الروايات عن ابن عمر مما فيه إجمال يوهم بسببه على ابن عمر مثل ما رويناه بالطريق المذكورة أن أحمد قال حدثنا محمد بن جعفر وبهز قالا : حدثنا شعبة عن جبلة يقول لنا ابن سحيم : قال بهز : أخبرني جبلة بن سحيم سمعت ابن عمر قال : { قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الشهر هكذا وطبق بأصابعه مرتين وكسر في الثالثة الإبهام . } قال محمد بن جعفر في حديثه يعني قوله : " تسعا وعشرين " . هكذا رواه البخاري والنسائي من حديث شعبة ولفظه : { الشهر هكذا وهكذا وخنس الإبهام في الثالثة } . ومثل ما روى نافع عن ابن عمر كما رويناه بالإسناد المتقدم إلى أحمد : حدثنا إسماعيل أنبأنا أيوب عن نافع عن ابن عمر قال : { قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له } قال نافع وكان عبد الله إذا مضى من شعبان تسع وعشرون يبعث من [ ص: 149 ] ينظر فإن رئي فذاك فإن لم ير ولم يحل دون منظره سحاب ولا قتر أصبح مفطرا وإن حال دون منظره سحاب أو قتر أصبح صائما .

                ورويناه . في سنن أبي داود من حديث حماد بن زيد قال : أنبأنا أيوب هكذا سواء . ولفظه : { الشهر تسع وعشرون } قال في آخره : فكان ابن عمر إذا كان شعبان تسعا وعشرين نظر له فإن رئي فذاك وإن لم ير ولم يحل دون منظره سحاب ولا قتر أصبح مفطرا فإن حال دون منظره سحاب أو قتر أصبح صائما قال فكان ابن عمر يفطر مع الناس ولا يأخذ بهذا الحساب وروى له باللفظ الأول عبد الرزاق في مصنفه عن معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { إنما الشهر تسع وعشرون } وبه عن ابن عمر أنه إذا كان سحاب أصبح صائما . وإن لم يكن سحاب أصبح مفطرا .

                قال : وأنبأنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه مثله وهكذا رواه عبيد الله بن عمر عن نافع كما رويناه بالإسناد المتقدم إلى أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد عن عبيد الله حدثني نافع عن ابن عمر : إذا كان ليلة تسع وعشرين . وكان في السماء سحاب أو قتر أصبح صائما . رواه النسائي عن عمر وابن علي عن يحيى . ولفظه : { لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه [ ص: 150 ] فإن غم عليكم فاقدروا له } وذكر أن عبيد الله بن عمرو روى عنه محمد بن بشر عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه { قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الهلال فقال : إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين } وجعل هذا اختلافا على عبيد الله . ومثل هذا الاختلاف لا يقدح إلا مع قرينة فإن الحفاظ كالزهري وعبيد الله ونحوهما يكون الحديث عندهم من وجهين وثلاثة أو أكثر . فتارة يحدثون به من وجه وتارة يحدثون به من وجه آخر وهذا يوجد كثيرا في الصحيحين وغيرهما . ويظهر ذلك بأن من الرواة من يفرق بين شيخين أو يذكر الحديثين جميعا .

                وقد روى البخاري من طريق نافع من حديث مالك بن أنس عنه ولفظه { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ذكر شهر رمضان فقال : لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له } لم يذكر في أوله قوله : { الشهر تسع وعشرون } ولا ذكر الزيادة على عادته في أنه كان كثيرا ما يترك التحديث بما لا يعمل به عنده . وأما قوله : { الشهر تسع وعشرون } فرواها مالك من طريق عبد الله بن دينار عن ابن عمر . ورواها من طريقه البخاري [ ص: 151 ] عن عبد الله بن مسلمة وهو القعنبي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { الشهر تسع وعشرون ليلة فلا تصوموا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين } هكذا وقع هذا اللفظ مختصرا في البخاري . وقد رواه عن القعنبي عن مالك . وهو ناقص . فإن الذي في الموطأ : " يوما " لأن القعنبي لفظه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { الشهر تسع وعشرون يوما فلا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه . فإن غم عليكم فاقدروا له } فذكر قوله : { ولا تفطروا حتى تروه } وذكره بلفظة { فاقدروا له } لا بلفظ { فأكملوا العدة } وهكذا في سائر الموطآت مسبوق بذكر الجملتين . ولفظ " القدر " حتى قال أبو عمر بن عبد البر : لم يختلف عن نافع في هذا الحديث في قوله : { فاقدروا له } قال : وكذلك روى سالم عن ابن عمر . وقد روى حديث مالك وغيره عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال : ورواه الدراوردي عن عبد الله بن دينار فقال فيه : { فإن غم عليكم فأحصوا العدة } فهذه والله أعلم نقص ورواية بالمعنى وقع في حديث مالك الذي في البخاري كما ذكر أبو بكر الإسماعيلي وغيره أن مثل ذلك وقع في هذا الباب في لفظ حديث أبي هريرة .

                ومثل هذا اللفظ المشعر بالحصر ما رويناه أيضا بالإسناد المتقدم إلى [ ص: 152 ] أحمد : حدثنا حسن بن موسى حدثنا شيبان عن يحيى أخبرني أبو سلمة : قال : سمعت { ابن عمر يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : الشهر تسع وعشرون } ورواه النسائي من حديث معاوية عن يحيى هكذا . وساقه أيضا من طريق علي عن يحيى عن أبي سلمة أن أبا هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { الشهر يكون تسعة وعشرين ويكون ثلاثين فإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فأكملوا العدة } وجعل النسائي هذا اختلافا على يحيى عن أبي سلمة . والصواب أن كليهما محفوظ عن يحيى . عن أبي سلمة لا اختلاف في اللفظ .

                وقال أحمد حدثنا محمد بن جعفر . حدثنا شعبة عن عقبة بن حريث سمعت ابن عمر يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { الشهر تسع وعشرون وطبق شعبة يديه ثلاث مرات وكسر الإبهام في الثالثة قال عقبة وأحسبه قال : الشهر ثلاثون وطبق كفيه ثلاث مرات } ورواه النسائي من حديث ابن المثنى عن غندر ; لكن لفظه : { الشهر تسع وعشرون } لم يزد . فرواية أحمد أكمل وأحسن سياقا تقدم فإن الرواية المفسرة تبين أن سائر روايات ابن عمر التي فيها الشهر تسع وعشرون عني بها أحد شيئين : أما أن الشهر [ ص: 153 ] قد يكون تسعة وعشرين ردا على من يتهم أن الشهر المطلق هو ثلاثون كما توهم من توهم من المتقدمين وتبعهم على ذلك بعض الفقهاء في الشهر العددي فيجعلونه ثلاثين يوما بكل حال وعارضهم قوم فقالوا : الشهر تسعة وعشرون واليوم الآخر زيادة . وهذا المعنى هو الذي صرح به النبي صلى الله عليه وسلم فقال : { الشهر هكذا وهكذا وهكذا والشهر هكذا وهكذا } يعني : مرة ثلاثين ومرة تسعة وعشرين فمن جزم بكونه ثلاثين أو تسعة وعشرين فقد أخطأ .

                والمعنى الثاني أن يكون أراد أن عدد الشهر اللازم الدائم هو تسعة وعشرون فأما الزائد فأمر جائز يكون في بعض الشهور ولا يكون في بعضها .

                والمقصود أن التسعة والعشرين يجب عددها واعتبارها بكل حال في كل وقت فلا يشرع الصوم بحال حتى يمضي تسعة وعشرون من شعبان ولا بد أن يصام في رمضان تسعة وعشرون ; لا يصام أقل منها بحال وهذا المعنى هو الذي يفسر به رواية أيوب عن نافع : { إنما الشهر تسع وعشرون . فلا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه } أي إنما الشهر اللازم الدائم الواجب تسعة وعشرون . ولا يمكن أن يفسر [ ص: 154 ] هذا اللفظ بالمعنى الأول ; لما فيه من الحصر .

                وقد قيل إن ذلك قد يكون إشارة إلى شهر بعينه لا إلى جنس الشهر : أي إنما ذلك الشهر تسعة وعشرون كأنه الشهر الذي آلى فيه من أزواجه لكن هذا يدفعه قوله عقبه : { فلا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه . فإن غم عليكم فأقدروا له } فهذا يبين أنه ذكر هذا لبيان الشرع العام المتعلق بجنس الشهر لا لشهر معين فإنه قد بين أنه ذكر هذا لأجل الصوم . فلو أراد شهرا بعينه قد علم أنه تسعة وعشرون لكان إذا علم أن ذلك الشهر تسع وعشرون لم يفترق الحال بين الغم وعدمه ولم يقل : { فلا تصوموا حتى تروه } ولأنه لا يعلم ذلك إلا وقد رئي هلال الصوم وحينئذ فلا يقال : { فإن غم عليكم } .

                ولذلك حمل الأئمة كالإمام أحمد قوله المطلق على أنه لجنس الشهر لا لشهر معين . وبنوا عليه أحكام الشريعة . قال حنبل بن إسحاق : حدثني أبو عبد الله : حدثنا يحيى بن سعيد عن حميد بن عبد الرحمن قال أبو عبد الله : قلت ليحيى : الذين يقولون الملائي قال : نعم عن الوليد بن عقبة قال : صمنا على عهد علي رضي الله عنه ثمانية [ ص: 155 ] وعشرين فأمرنا علي أن نتمها يوما . أبو عبد الله رحمة الله عليه يقول : العمل على هذا الشهر ; لأن هكذا وهكذا وهكذا تسعة وعشرون فمن صام هذا الصوم قضى يوما ولا كفارة عليه .

                وبما ذكرناه يتبين الجواب عما روي عن عائشة في هذا قالت . يرحم الله أبا عبد الرحمن { وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا فنزل لتسع وعشرين . فقيل له فقال : إن الشهر قد يكون تسعا وعشرين } فعائشة رضي الله عنها ردت ما أفهموها عن ابن عمر أو ما فهمته هي من أن الشهر لا يكون إلا تسعا وعشرين . وابن عمر لم يرد هذا بل قد ذكرنا عنه الروايات الصحيحة . بأن الشهر يكون مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين . فثبت بذلك أن ابن عمر روى أن الشهر يكون تارة كذلك وتارة كذلك .

                وما رواه إما أن يكون موافقا لما روته عائشة أيضا : من أن الشهر قد يكون تسعا وعشرين وإما أن يكون معناه أن الشهر اللازم الدائم الواجب هو تسعة وعشرون ومن كلام العرب وغيرهم أنهم ينفون الشيء في صيغ الحصر أو غيرها تارة لانتفاء ذاته . وتارة لانتفاء فائدته ومقصوده . ويحصرون الشيء في غيره : تارة لانحصار جميع الجنس منه . وتارة لانحصار المفيد أو الكامل فيه . ثم إنهم تارة [ ص: 156 ] يعيدون النفي إلى المسمى . وتارة يعيدون النفي إلى الاسم . وإن كان ثابتا في اللغة ; إذا كان المقصود الحقيقي بالاسم منتفيا عنه ثابتا لغيره كقوله : { يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم } فنفى عنهم مسمى الشيء مع أنه في الأصل شامل لكل موجود من حق وباطل ; لما كان ما لا يفيد ولا منفعة فيه يئول إلى الباطل الذي هو العدم فيصير بمنزلة المعدوم . بل ما كان المقصود منه إذا لم يحصل مقصوده كان أولى بأن يكون معدوما من المعدوم المستمر عدمه ; لأنه قد يكون فيه ضرر .

                فمن قال الكذب فلم يقل شيئا . ومن لم يعمل بما ينفعه فلم يعمل شيئا . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الكهان قال . " ليسوا بشيء ففي الصحيحين : عن عائشة قالت : { سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ناس من الكهان فقال : ليسوا بشيء } ويقول أهل الحديث عن بعض المحدثين ليس بشيء أو عن بعض الأحاديث ليس بشيء إذا لم يكن ممن ينتفع به في الرواية ; لظهور كذبه عمدا أو خطأ . ويقال أيضا لمن خرج عن موجب الإنسانية في الأخلاق ونحوها : هذا ليس بآدمي ولا إنسان ما فيه إنسانية ولا مروءة هذا حمار ; أو كلب كما يقال ذلك لمن اتصف بما هو [ ص: 157 ] فوقه من حدود الإنسانية . كما قلن ليوسف : { ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم } .

                وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم { ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان إنما المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يسأل الناس إلحافا } وقال : { ما تعدون المفلس فيكم ؟ قالوا : الذي لا درهم له ولا دينار فقال : ليس ذلك إنما المفلس الذي يجيء يوم القيامة } الحديث . وقال : { ما تعدون الرقوب ؟ } الحديث . فهذا نفي لحقيقة الاسم من جهة المعنى الذي يجب اعتباره : باعتبار أن الرقوب والمفلس إنما قيد بهذا الاسم لما عدم المال والولد والنفوس تجزع من ذلك فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن عدم ذلك حيث يضره عدمه هو أحق بهذا الاسم ممن يعدمه حيث قد لا يضره ضررا له اعتبار .

                ومثال هذا أن يقال لمن يتألم ألما يسيرا ليس هذا بألم إنما الألم كذا وكذا ولمن يرى أنه غني ليس هذا بغني إنما الغني فلان . وكذلك يقال في العالم والزاهد . كقولهم إنما العالم من يخشى الله تعالى .

                [ ص: 158 ] وكقول مالك بن دينار الناس يقولون : مالك زاهد إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز الذي أتته الدنيا فتركها . ونحو ذلك مما تكون القلوب تعظمه لذلك المسمى اعتقادا واقتصادا : إما طلبا لوجوده وإما طلبا لعدمه معتقدا أن ذلك هو المستحق للاسم فيبين لها أن حقيقة ذلك المعنى ثابتة لغيره دونه على وجه ينبغي تعليق ذلك الاعتقاد والاقتصاد بذلك الغير .

                ومن هذا الباب قول النبي صلى الله عليه وسلم { المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم والمجاهد من جاهد بنفسه في ذات الله } ومنه قوله تعالى { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم } إلى قوله { أولئك هم المؤمنون حقا } فهؤلاء المستحقون لهذا الاسم على الحقيقة الواجبة لهم . ومنه قولهم لا علم إلا ما نفع ولا مدينة إلا بملك ومنه قوله صلى الله عليه وسلم { لا ربا إلا في النسيئة } أو { إنما الربا في النسيئة } . فإنما الربا العام الشامل للجنسين وللجنس الواحد المتفقة صفاته إنما يكون في النسيئة . وأما ربا الفضل فلا يكون إلا في الجنس الواحد ولا يفعله أحد إلا إذا اختلفت الصفات . كالمضروب بالتبر والجيد بالرديء فإما إذا استوت الصفات [ ص: 159 ] فليس أحد يبيع درهما بدرهمين . ولهذا شرع القرض هنا ; لأنه من نوع التبرع . فلما كان غالب الربا وهو الذي نزل فيه القرآن أولا وهو ما يفعله الناس وهو ربا النساء : قيل إنما الربا في النسيئة .

                وأيضا ربا الفضل إنما حرم لأنه ذريعة إلى ربا النسيئة فالربا المقصود بالقصد الأول هو ربا النسيئة فلا ربا إلا فيه وأظهر ما تبين فيه الربا الجنس الواحد المتفق فيه الصفات فإنه إذا باع مائة درهم بمائة وعشرين ظهر أن الزيادة قابلت الأجل الذي لا منفعة فيه وإنما دخل فيه للحاجة ; ولهذا لا تضمن الآجال باليد ولا بالإتلاف . فلو تبقى العين في يده أو المال في ذمته مدة لم يضمن الأجل ; بخلاف زيادة الصفة فإنها مضمونة في الإتلاف والغصب وفي البيع إذا قابلت غير الجنس . وهذا باب واسع .

                فإن الكلام الخبري إما إثبات وإما نفي . فكما أنهم في الإثبات يثبتون للشيء اسم المسمى إذا حصل فيه مقصود الاسم وإن انتفت صورة المسمى . فكذلك في النفي . فإن أدوات النفي تدل على انتفاء الاسم بانتفاء مسماه فكذلك تارة ; لأنه لم يوجد أصلا . وتارة لأنه لم توجد الحقيقة المقصودة بالمسمى . وتارة لأنه لم تكمل تلك الحقيقة . وتارة لأن ذلك المسمى مما لا ينبغي أن يكون مقصودا ; بل المقصود غيره . [ ص: 160 ] وتارة لأسباب أخر . وهذا كله إنما يظهر من سياق الكلام وما اقترن به من القرائن اللفظية التي لا تخرجها عن كونها حقيقة عند الجمهور ولكون المركب قد صار موضوعا لذلك المعنى أو من القرائن الحالية التي تجعلها مجازا عند الجمهور .

                وأما إذا أطلق الكلام مجردا عن القرينتين فمعناه السلب المطلق وهو كثير في الكلام . فكذلك قوله صلى الله عليه وسلم { إنما الشهر تسع وعشرون } وقوله : { الشهر تسع وعشرون } حيث قصد به الحصر في النوع لما كان الله تعالى قد علق بالشهر أحكاما كقوله : { شهر رمضان } وقوله : { الحج أشهر معلومات } وقوله : { شهرين متتابعين } ونحو ذلك . وكان من الأفهام ما يسبق إلى أن مطلق الشهر ثلاثون يوما .

                ولعل بعض من لم يعد أيام الشهر يتوهم أن السنة ثلاثمائة وستون يوما . وأن كل شهر ثلاثون يوما فقال صلى الله عليه وسلم الشهر الثابت اللازم الذي لا بد منه تسع وعشرون . وزيادة اليوم قد تدخل فيه وقد تخرج منه كما يقول الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله . فهذا هو الذي لا بد منه وما زاد على ذلك فقد يجب على الإنسان وقد يموت قبل الكلام فلا يكون الإسلام في حقه إلا ما تكلم به .

                [ ص: 161 ] وعلى ما قد ثبت عن ابن عمر فيكون قد سمع من النبي صلى الله عليه وسلم كلا الخبرين أو أن يكون الذي سمع منه : { أن الشهر يكون تسعة وعشرين ويكون ثلاثين } كما جاء مصرحا به وسمع منه : { أن الشهر إنما هو تسع وعشرون } روي هذا بالمعنى الذي تضمنه الأول وهو بعيد من ابن عمر فإنه كان لا يروي بالمعنى . روي عن النبي صلى الله عليه وسلم المعاني الثلاثة أن قوله : { الشهر تسع وعشرون } لشهر معين . وروي عنه أنه قال : { قد يكون } وروي عنه أنه قال : { إنما الشهر } وقد استفاضت الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم بما يوافق التفسير الأول في حديث ابن عمر . مثل ما رواه البخاري من حديث ابن جريج . عن يحيى بن عبد الله بن صيفي عن عكرمة بن عبد الرحمن عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم { آلى من نسائه شهرا فلما مضى تسعة وعشرون يوما غدا أو راح فقيل له إنك حلفت أن لا تدخل شهرا . فقال : إن الشهر يكون تسعة وعشرين يوما } فيه ما يدل على أن الشهر يكمل بحسبه مطلقا . إلا أن يكون الإيلاء كان في أول الشهر وهو خلاف الظاهر . فمتى كان الإيلاء . في أثنائه فهو نص في مسألة النزاع . وروى البخاري أيضا من حديث سليمان بن بلال [ ص: 162 ] عن حميد عن أنس { قال : آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه وكانت انفكت رجله فأقام في مشربة تسعا وعشرين ليلة ثم نزل . فقالوا : يا رسول الله آليت شهرا فقال : إن الشهر يكون تسعا وعشرين } .

                وأما الشهر المعين فروى النسائي من حديث شعبة عن سلمة عن أبي الحكم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { أتاني جبريل فقال : تم الشهر لتسع وعشرين } هكذا رواه بهز عنه . ورواه من طريق غندر . ورواه من طريق غندر عنه ولفظه : { الشهر تسع وعشرون } فهذه الرواية تبين أن إيلاء النبي صلى الله عليه وسلم كان فيما بين الهلالين . فلما مضى تسع وعشرون أخبره جبريل أن الشهر تم لتسع وعشرين لأن الشهر الذي آلى فيه كان تسعا وعشرين . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يظن أن عليه إكمال العدة ثلاثين . فأخبره جبرائيل بأنه تم شهر إيلائه لتسع وعشرين . ولو كان الإيلاء في أول الهلال لم يحتج إلى أن يخبره جبرائيل بذلك ; لأنه إذا رئي لتمام تسع وعشرين يعلم أنه قد تم فإن هذا أمر ظاهر لا شبهة فيه حتى يخبره به جبرائيل .

                وأيضا فلو كان الإيلاء بين الهلالين لكان الصحابة يعلمون أن ذلك [ ص: 163 ] شهر فإن هذا أمر لم يكن يشكون فيه هم ولا أحد أن الشهر ما بين الهلالين والاعتبار بالعدد ; ولكن لما وقع الإيلاء في أثناء الشهر توهموا أنه يجب تكميل العدة ثلاثين فأخبره جبريل بأنه قد تم شهر إيلائه لتسع وعشرين وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه : { إن الشهر تسع وعشرون } أي شهر الإيلاء { وأن الشهر يكون تسعة وعشرين } .

                وأيضا فقول عائشة رضي الله عنها أعدهن . ولو كان في أول الهلال لم تحتج إلى أن تعدهن كما لم يعد رمضان إذا صاموا بالرؤية ; بل روى عنه ما ظاهره الحصر سعد بن أبي وقاص بالإسناد المتقدم إلى أحمد : حدثنا محمد بن بشر حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن محمد بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه { قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضرب بإحدى يديه على الأخرى وهو يقول : الشهر هكذا وهكذا ثم يقبض أصبعه في الثالثة } . وقال أحمد حدثنا معاوية بن عمر حدثنا زائدة عن إسماعيل بن محمد بن سعد عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { الشهر هكذا وهكذا عشر عشر وتسع مرة } رواه النسائي من حديث محمد بن بشر كما ذكرناه . ورواه هو وأحمد أيضا من حديث ابن المبارك عن إسماعيل مسندا كما تقدم [ ص: 164 ] وقد رواه يحيى بن سعيد ووكيع ومحمد بن عبيد عن إسماعيل عن محمد مرسلا . وقال يحيى بن سعيد في روايته قلت لإسماعيل : عن أبيه ؟ قال : لا .

                وقد صحح أحمد المسند . وقال في حديث إسماعيل بن أبي خالد حديث سعد { الشهر هكذا وهكذا } قال يحيى القطان : أردنا أن يقول عن أبيه فأبى . قال أحمد : هذا عن إسماعيل كان يسنده أحيانا وأحيانا لا يسنده . ورواه زائدة عن أبيه قيل له : إن وكيعا . قد رواه ويحيى يقول : ما يقول ؟ قال : زائدة قد رواه . وقال أيضا : قد رواه عبد الله عن أبيه وابن بشر وزائدة وغيرهم . وهذا الذي قاله بيان أن هذه الزيادة من هؤلاء الثقات فهي مقبولة . وأن الذين حدثوا عنه كان تارة يذكرها وتارة يتركها . وقد روي ما يفسره : فروى أبو بكر الخلال وصاحبه من حديث وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن محمد ابن سعد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { الشهر هكذا وهكذا وهكذا والشهر هكذا وهكذا وهكذا وأشار وكيع بالعشر الأصابع مرتين وخنس واحدة الإبهام في الثالثة } .

                فهذه الأحاديث المستفيضة المتلقاة بالقبول دلت على أمور .

                أحدها أن قوله : { إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب } هو خبر [ ص: 165 ] تضمن نهيا . فإنه أخبر أن الأمة التي اتبعته هي الأمة الوسط أمية لا تكتب ولا تحسب . فمن كتب أو حسب أو لم يكن من هذه الأمة في هذا الحكم . بل يكون قد اتبع غير سبيل المؤمنين الذين هم هذه الأمة فيكون قد فعل ما ليس من دينها والخروج عنها محرم منهي عنه فيكون الكتاب والحساب المذكوران محرمين منهيا عنهما . وهذا كقوله : { المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده } أي هذه صفة المسلم فمن خرج عنها خرج عن الإسلام ومن خرج عن بعضها خرج عن الإسلام في ذلك البعض وكذلك قوله { : المؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم } .

                فإن قيل : فهلا قيل إن لفظه خبر ومعناه الطلب ؟ . كقوله : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن } { والوالدات يرضعن } ونحو ذلك . فيكون المعنى أن من كان من هذه الأمة فلا ينبغي له أن يكتب ولا يحسب . نهاه عن ذلك ; لئلا يكون خبرا قد خالف مخبره . فإن منهم من كتب أو حسب .

                قيل : هذا معنى صحيح في نفسه لكن ليس هو ظاهر اللفظ . فإن ظاهره خبر والصرف عن الظاهر إنما يكون لدليل يحوج إلى ذلك ولا حاجة إلى ذلك كما بيناه .

                [ ص: 166 ] وأيضا فقوله : { إنا أمة أمية } ليس هو طلبا فإنهم أميون قبل الشريعة كما قال الله تعالى : { هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم } وقال : { وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم } فإذا كانت هذه صفة ثابتة لهم قبل المبعث لم يكونوا مأمورين بابتدائها . نعم قد يؤمرون بالبقاء على بعض أحكامها فإنا سنبين أنهم لم يؤمروا أن يبقوا على ما كانوا عليه مطلقا .

                فإن قيل : فلم لا يجوز أن يكون هذا إخبارا محضا أنهم لا يفعلون ذلك وليس عليهم أن يفعلوه ; إذ لهم طريق آخر غيره ولا يكون فيه دليل على أن الكتاب والحساب منهي عنه ; بل على أنه ليس بواجب فإن الأمية صفة نقص ليست صفة كمال فصاحبها بأن يكون معذورا أولى من أن يكون ممدوحا .

                قيل : لا يجوز هذا لأن الأمة التي بعثه الله إليها فيهم من يقرأ ويكتب كثيرا كما كان في أصحابه وفيهم من يحسب وقد بعث صلى الله عليه وسلم بالفرائض التي فيها من الحساب ما فيها وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه لما قدم عامله على الصدقة ابن اللتبية حاسبه . وكان له كتاب عدة - كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وزيد ومعاوية - يكتبون الوحي ويكتبون العهود ويكتبون كتبه إلى الناس إلى من بعثه الله [ ص: 167 ] إليه من ملوك الأرض ورءوس الطوائف : وإلى عماله وولاته وسعاته وغير ذلك . وقد قال الله تعالى في كتابه : { لتعلموا عدد السنين والحساب } في آيتين من كتابه فأخبر أنه فعل ذلك ليعلم الحساب .

                وإنما " الأمي " هو في الأصل منسوب إلى الأمة التي هي جنس الأميين وهو من لم يتميز عن الجنس بالعلم المختص : من قراءة أو كتابة كما يقال : عامي لمن كان من العامة غير متميز عنهم بما يختص به غيرهم من علوم : وقد قيل : إنه نسبة إلى الأم : أي هو الباقي على ما عودته أمه من المعرفة والعلم ونحو ذلك .

                ثم التميز الذي يخرج به عن الأمية العامة إلى الاختصاص : تارة يكون فضلا وكمالا في نفسه . كالمتميز عنهم بقراءة القرآن وفهم معانيه . وتارة يكون بما يتوصل به إلى الفضل والكمال : كالتميز عنهم بالكتابة وقراءة المكتوب فيمدح في حق من استعمله في الكمال ويذم في حق من عطله أو استعمله في الشر . ومن استغنى عنه بما هو أنفع له كان أكمل وأفضل . وكان تركه في حقه مع حصول المقصود به أكمل وأفضل .

                فإذا تبين أن التميز عن الأميين نوعان " فالأمة التي بعث فيها [ ص: 168 ] النبي صلى الله عليه وسلم أولاهم العرب وبواسطتهم حصلت الدعوة لسائر الأمم ; لأنه إنما بعث بلسانهم فكانوا أميين عامة ليست فيهم مزية علم ولا كتاب ولا غيره مع كون فطرهم كانت مستعدة للعلم أكمل من استعداد سائر الأمم . بمنزلة أرض الحرث القابلة للزرع ; لكن ليس لها من يقوم عليها فلم يكن لهم كتاب يقرءونه منزل من عند الله كما لأهل الكتاب ولا علوم قياسية مستنبطة كما للصابئة ونحوهم . وكان الخط فيهم قليلا جدا وكان لهم من العلم ما ينال بالفطرة التي لا يخرج بها الإنسان عن الأموة العامة . كالعلم بالصانع سبحانه وتعظيم مكارم الأخلاق وعلم الأنواء . والأنساب والشعر . فاستحقوا اسم الأمية من كل وجه . كما قال فيهم : { هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم } وقال تعالى : { وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ } فجعل الأميين مقابلين لأهل الكتاب . فالكتابي غير الأمي .

                فلما بعث فيهم ووجب عليهم اتباع ما جاء به من الكتاب وتدبره وعقله والعمل به - وقد جعله تفصيلا لكل شيء وعلمهم نبيهم كل شيء حتى الخراءة - صاروا أهل كتاب وعلم . بل صاروا أعلم الخلق [ ص: 169 ] وأفضلهم في العلوم النافعة وزالت عنهم الأمية المذمومة الناقصة وهي عدم العلم والكتاب المنزل إلى أن علموا الكتاب والحكمة وأورثوا الكتاب . كما قال فيهم : { هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } فكانوا أميين من كل وجه . فلما علمهم الكتاب والحكمة قال فيهم : { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله } وقال تعالى { وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون } { أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين } { أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم } واستجيب فيهم دعوة الخليل حيث قال : { ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم } وقال : { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة } .

                فصارت هذه الأمية : منها ما هو محرم . ومنها ما هو مكروه ومنها ما هو نقص وترك الأفضل . فمن لم يقرأ الفاتحة أو لم يقرأ شيئا من القرآن تسميه الفقهاء في ( باب الصلاة أميا . ويقابلونه بالقارئ [ ص: 170 ] فيقولون : لا يصح اقتداء القارئ بالأمي . ويجوز أن يأتم الأمي بالأمي . ونحو ذلك من المسائل وغرضهم بالأمي هنا الذي لا يقرأ القراءة الواجبة سواء كان يكتب أو لا يكتب يحسب أو لا يحسب .

                فهذه الأمية منها ما هو ترك واجب يعاقب الرجل عليه . إذا قدر على التعلم فتركه .

                ومنها ما هو مذموم كالذي وصفه الله عز وجل عن أهل الكتاب حيث قال : { ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون } فهذه صفة من لا يفقه كلام الله ويعمل به وإنما يقتصر على مجرد تلاوته . كما قال الحسن البصري . نزل القرآن ليعمل به فاتخذوا تلاوته عملا . فالأمي هنا قد يقرأ حروف القرآن أو غيرها ولا يفقه . بل يتكلم في العلم بظاهر من القول ظنا . فهذا أيضا أمي مذموم كما ذمه الله ; لنقص علمه الواجب سواء كان فرض عين أم كفاية .

                ومنها ما هو الأفضل الأكمل كالذي لا يقرأ من القرآن إلا بعضه ولا يفهم منه إلا ما يتعلق به ولا يفهم من الشريعة إلا مقدار الواجب [ ص: 171 ] عليه فهذا أيضا يقال لا أمي وغيره ممن أوتي القرآن علما وعملا أفضل منه وأكمل .

                فهذه الأمور المميزة للشخص عن الأمور التي هي فضائل وكمال : فقدها أما فقد واجب عينا أو واجب على الكفاية أو مستحب . وهذه يوصف الله بها وأنبياؤه مطلقا فإن الله عليم حكيم جمع العلم والكلام النافع طلبا وخبرا وإرادة . وكذلك أنبياؤه ونبينا سيد العلماء والحكماء .

                وأما الأمور المميزة التي هي وسائل وأسباب إلى الفضائل مع إمكان الاستغناء عنها بغيرها فهذه مثل الكتاب الذي هو الخط والحساب فهذا إذا فقدها مع أن فضيلته في نفسه لا تتم بدونها وفقدها نقص إذا حصلها واستعان بها على كماله وفضله كالذي يتعلم الخط فيقرأ به القرآن ; وكتب العلم النافعة أو يكتب للناس ما ينتفعون به : كان هذا فضلا في حقه وكمالا . وإن استعان به على تحصيل ما يضره أو يضر الناس كالذي يقرأ بها كتب الضلالة ويكتب بها ما يضر الناس كالذي يزور خطوط الأمراء والقضاة والشهود : كان هذا ضررا في حقه وسيئة ومنقصة ولهذا نهى عمر أن تعلم النساء الخط .

                [ ص: 172 ] وإن أمكن أن يستغنى عنها بالكلية بحيث ينال كمال العلوم من غيرها . وينال كمال التعليم بدونها : كان هذا أفضل له وأكمل . وهذه حال نبينا صلى الله عليه وسلم الذي قال الله فيه : { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل } فإن أميته لم تكن من جهة فقد العلم والقراءة عن ظهر قلب فإنه إمام الأئمة في هذا . وإنما كان من جهة أنه لا يكتب ولا يقرأ مكتوبا . كما قال الله فيه : { وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك } .

                وقد اختلف الناس هل كتب يوم الحديبية بخطه معجزة له ؟ أم لم يكتب ؟ وكان انتفاء الكتابة عنه مع حصول أكمل مقاصدها بالمنع من طريقها من أعظم فضائله وأكبر معجزاته فإن الله علمه العلم بلا واسطة كتاب معجزة له ولما كان قد دخل في الكتب من التحريف والتبديل وعلم هو صلى الله عليه وسلم أمته الكتاب والحكمة من غير حاجة منه إلى أن يكتب بيده وأما سائر أكابر الصحابة كالخلفاء الأربعة وغيرهم فالغالب على كبارهم الكتابة لاحتياجهم إليها إذ لم يؤت أحد منهم من الوحي ما أوتيه صارت أميته المختصة به كمالا في حقه من جهة الغنى بما هو أفضل منها وأكمل ونقصا في حق غيره من جهة فقده الفضائل التي لا تتم إلا بالكتابة .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية