الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال : ( فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة ) يعني : فمنهم من هداه الله إلى الإيمان والصدق والحق ، ومنهم من أضله عن الحق وأعماه عن الصدق وأوقعه في الكفر والضلال ، وهذا يدل على أن أمر الله تعالى لا يوافق إرادته ، بل قد يأمر بالشيء ولا يريده ، وينهى عن الشيء ويريده كما هو مذهبنا . والحاصل أن المعتزلة يقولون : الأمر والإرادة متطابقان ، أما العلم والإرادة فقد يختلفان ، ولفظ هذه الآية صريح في قولنا ، وهو أن الأمر بالإيمان عام في حق الكل ، أما إرادة الإيمان فخاصة بالبعض دون البعض .

                                                                                                                                                                                                                                            أجاب الجبائي بأن المراد : ( فمنهم من هدى الله ) لنيل ثوابه وجنته : ( ومنهم من حقت عليه الضلالة ) أي : العقاب . قال : وفي صفة قوله : ( حقت عليه ) دلالة على أنها العذاب دون كلمة الكفر ؛ لأن الكفر والمعصية لا يجوز وصفهما بأنه حق . وأيضا قال تعالى بعده : ( فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ) وهذه العاقبة هي آثار الهلاك لمن تقدم من الأمم الذين استأصلهم الله تعالى بالعذاب ، وذلك يدل على أن المراد بالضلال المذكور هو عذاب الاستئصال .

                                                                                                                                                                                                                                            وأجاب الكعبي عنه بأنه قال : قوله : ( فمنهم من هدى الله ) أي : من اهتدى فكان في حكم الله مهتديا ، ( ومنهم من حقت عليه الضلالة ) يريد : من ظهرت ضلالته ، كما يقال للظالم : حق ظلمك وتبين ، ويجوز أن يكون المراد : حق عليهم من الله أن يضلهم إذا ضلوا كقوله : ( ويضل الله الظالمين ) .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أنا بينا في آيات كثيرة بالدلائل العقلية القاطعة أن الهدى والإضلال لا يكونان إلا من الله تعالى فلا فائدة في الإعادة ، وهذه الوجوه المتعسفة والتأويلات المستكرهة قد بينا ضعفها وسقوطها مرارا ، فلا حاجة إلى الإعادة . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : في الطاغوت قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أن المراد به : اجتنبوا عبادة ما تعبدون من دون الله ، فسمى الكل طاغوتا ، ولا يمتنع أن يكون المراد : اجتنبوا طاعة الشيطان في دعائه لكم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الخامسة : قوله تعالى : ( ومنهم من حقت عليه الضلالة ) يدل على مذهبنا ; لأنه تعالى لما أخبر عنه أنه حقت عليه الضلالة امتنع أن لا يصدر منه الضلالة ، وإلا لانقلب خبر الله الصدق كذبا ، وذلك محال ، [ ص: 25 ] ومستلزم المحال محال ، فكان عدم الضلالة منهم محالا ، ووجود الضلالة منهم واجبا عقلا ، فهذه الآية دالة على صحة مذهبنا في هذه الوجوه الكثيرة ، والله أعلم . ونظائر هذه الآية كثيرة منها قوله : ( فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة ) [ الأعراف : 30 ] وقوله : ( إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ) [ يونس : 96 ] وقوله : ( لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون ) [ يس : 7 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ) والمعنى : سيروا في الأرض معتبرين لتعرفوا أن العذاب نازل بكم كما نزل بهم ، ثم أكد أن من حقت عليه الضلالة فإنه لا يهتدي ، فقال : ( إن تحرص على هداهم ) أي : إن تطلب بجهدك ذلك ، فإن الله لا يهدي من يضل ، وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قرأ عاصم وحمزة والكسائي ( يهدي ) بفتح الياء وكسر الدال ، والباقون : ( لا يهدى ) بضم الياء وفتح الدال .

                                                                                                                                                                                                                                            أما القراءة الأولى : ففيها وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : فإن الله لا يرشد أحدا أضله ، وبهذا فسره ابن عباس رضي الله عنهما .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن " يهدي " بمعنى يهتدي . قال الفراء : العرب تقول : قد هدى الرجل يريدون قد اهتدى ، والمعنى أن الله إذا أضل أحدا لم يصر ذلك مهتديا .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما القراءة المشهورة : فالوجه فيها إن الله لا يهدي من يضل ، أي : من يضله ، فالراجع إلى الموصول الذي هو من محذوف مقدر وهذا كقوله : ( من يضلل الله فلا هادي له ) [ الأعراف : 186 ] وكقوله : ( فمن يهديه من بعد الله ) [ الجاثية : 23 ] أي : من بعد إضلال الله إياه .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( وما لهم من ناصرين ) أي : وليس لهم أحد ينصرهم أي : يعينهم على مطلوبهم في الدنيا والآخرة . وأقول : أول هذه الآيات موهم لمذهب المعتزلة ، وآخرها مشتمل على الوجوه الكثيرة الدالة على قولنا ، وأكثر الآيات كذلك مشتملة على الوجه ين ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية