الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( قال ) ولو أن مجنونا أكره عاقلة حتى زنى بها لا حد على واحد منهما أما المرأة فلأنها مكرهة غير ممكنة طوعا ، وأما الرجل فلأنه مجنون ليس من أهل التزام العقوبة ، فإذا دعت العاقلة البالغة مجنونا أو صبيا إلى نفسها فزنى بها لا حد عليها عندنا ، وقال الشافعي رحمه الله تعالى عليها الحد وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله تعالى ; لأنها زانية فعليها الحد بالنص ، وبيانه وهو أن الزنا ليس إلا وطء متعر عن العقد والملك وشبههما وقد وجد ذلك إلا أنه سقط الحد عن أحدهما لانعدام الأهلية لمعنى فلا يمتنع إقامته على الآخر كما لو زنى بصبية أو مجنونة وهذا ; لأن فعل كل واحد منهما كامل في نفسه وهي في التمكين زانية كالرجل في الإيلاج ، ألا ترى أن الله تعالى سماها زانية وبدأ بذكرها وأن من نسبها إلى الزنا يلزمه الحد ، ولو كان لا يتصور منها مباشرة الزنا لم يحد قاذفها به كالمجبوب ولأنها بهذا التمكين تقضي شهوتها كالرجل بالإيلاج فإذا ثبت كمال الفعل من كل جانب يراعى حال كل واحد منهما فيما يلزمه من العقوبة .

( وحجتنا ) في ذلك أنها مكنت نفسها من فاعل لم يأثم ولم يحرج فلا يلزمها الحد كما لو مكنت نفسها من زوجها وبيان الوصف ظاهر ; لأن الإثم والحرج ينبني على الخطاب وهما لا يخاطبان وتحقيقه أن المباشر للفعل هو الرجل والمرأة تابعة بدليل [ ص: 55 ] تصور الفعل فيها وهي نائمة لا تشعر بذلك ، وإن لم يكن أصل الفعل زنى فهي لا تصير زانية ; لأن ثبوت التبع بثبوت الأصل وفعل الصبي والمجنون زنى لغة ، ولكن ليس بزنا شرعا ; لأن الزنا شرعا فعل وجب الكف عنه لخطاب الشرع فلا ينفك عن الإثم والحرج ، وفعل الصبي والمجنون لا يوصف بذلك وإذا انعدم الزنا شرعا في جانبه فكذلك في جانبها والحد حكم شرعي فيستدعي ثبوت سببه شرعا وإنما سماها الله تعالى زانية على معنى أنها مزني بها كما قال تعالى { في عيشة راضية } أي مرضية وقال تعالى { من ماء دافق } أي مدفوق ، وإنما يجب الحد على قاذفها لنسبتها إلى ما تتعير وتستوجب به الحد وتقضي به شهوتها وهو التمكين من الزنا وإن كانت تابعة في ذلك .

وأما الرجل إذا زنى بصبية فهو المباشر لأصل الفعل وفعله زنى لغة وشرعا فلهذا لزمه الحد بحقيقة أن المرأة محل والمحلية مشتهاة وذلك باللين والحرارة فلا يتمكن نقصان فيه بجنونها وصغرها فقد تم فعله زنى لمصادفة محله ، فأما من جانب الرجل استعمال الآلة لا نفس الآلة واستعمال الآلة لا يكون زنى شرعا إلا إذا كان واجب الكف عند الخطاب وذا بصفة الإثم والحرج وذلك ينعدم بالصبا والجنون وهذا فقه دقيق وفرق حسن وفي الكتاب علل فقال : ذكر الصبي كأصبعه ، معناه ما هو المقصود بالزنا معدوم في آلة الصبي فلا يكون فعله بهذه الآلة زنى والمعتوه بمنزلة الصبي في الحكم ، فأما المحصنة إذا زنى بها غير المحصن فعليها الرجم ; لأن فعل غير المحصن زنى فتصير هي زانية بالتمكين من الزنا ، ثم المعتبر حالها فيما يقام من العقوبة بعد تقرر السبب وكل رجل يزني بامرأة لا يجب عليها الحد بشبهة مثل الخرساء التي لا تنطق فلا حد عليه ; لأن الشبهة تمكنت هنا والخرساء لو كانت تنطق ربما تدعي شبهة نكاح وقد لا تقدر على إظهار ما في نفسها بالإشارة ، وقد بينا أنها لو ادعت النكاح سقط عنها الحد فكذلك إذا كانت خرساء والأصل فيه حديث عمر رضي الله تعالى عنه ادرءوا ما استطعتم فإن الإمام لإن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة ، فإذا وجدتم للمسلم مخرجا فادرءوا عنه وهذا بخلاف ما إذا زنى بصبية أو مجنونة ; لأن سقوط الحد عنها ليس للشبهة بل لانعدام الأهلية

التالي السابق


الخدمات العلمية