الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر حصر الأفضل لمدينة دمشق وعوده عنها

لما ملك الأفضل مصر ، واستقر بها ، ومعه ابن أخيه الملك العزيز ، استعظم اسم الملك له لصغره ، واجتمعت الكلمة على استحقاق الأفضل بها ، وصل إليه رسول أخيه الملك الظاهر غازي ، صاحب حلب ، ورسل ابن عمه أسد الدين شيركوه بن محمد بن شيركوه ، صاحب حمص ، يحثانه على الخروج إلى دمشق ، واغتنام الفرصة بغيبة العادل عنها ، وبذلا له المساعدة بالمال والنفس والرجال ، فبرز من مصر ، منتصف جمادى الأولى من السنة ، على عزم المسير إلى دمشق ، وأقام بظاهر القاهرة إلى ثالث رجب ، ورحل فيه وتعوق في مسيره ، ولو بادر وعجل المسير لملك دمشق ، لكنه تأخر ، فوصل إلى دمشق ثالث عشر شعبان ، فنزل عند جسر الخشب على فرسخ ونصف من دمشق ، وكان العادل قد أرسل إليه نوابه بدمشق يعرفونه قصد الأفضل لهم ، ففارق ماردين وخلف ولده الملك الكامل محمدا في جميع العساكر على حصارها ، وسار جريدة فجد في السير ، فسبق الأفضل ، فدخل دمشق قبل الأفضل بيومين .

[ ص: 160 ] وأما الأفضل فإنه تقدم إلى دمشق من الغد ، وهو رابع عشر شعبان ، ودخل ذلك اليوم بعينه طائفة يسيرة من عسكره إلى عسقلان إلى دمشق من باب السلامة ، وسبب دخولهم أن قوما من أجناده ممن بيوتهم مجاورة للباب ، اجتمعوا بالأمير مجد الدين أخي الفقيه عيسى الهكاري ، وتحدثوا معه في أن يقصد هو والعسكر باب السلامة ليفتحوه لهم ، فأراد مجد الدين أن يختص ، بفتح الباب وحده ، فلم يعلم الأفضل ، ولا أخذ معه أحدا من الأمراء ، بل سار وحده بمفرده ، ومعه نحو خمسين فارسا من أصحابه ، ففتح له الباب ، فدخله هو ومن معه ، فلما رآهم عامة البلد ، ونادوا بشعار الأفضل ، واستسلم من به من الجند ، ونزلوا عن الأسوار ، وبلغ الخبر إلى الملك العادل ، فكاد يستسلم ، وتماسك .

وأما الذين دخلوا البلد فإنهم وصلوا إلى باب البريد ، فلقد رأى عسكر العادل بدمشق قلة عددهم ، وانقطاع مددهم ، وثبوا بهم وأخرجوهم منه ، وكان الأفضل قد نصب خيمه بالميدان الأخضر ، وقارب عسكره الباب الحديد - وهو من أبواب القلعة - فقدر الله - تعالى - أن أشير على الأفضل بالانتقال إلى ميدان الحصى ، ففعل ذلك ، فقويت نفوس من فيه ، وضعفت نفوس العسكر المصري ، ثم إن الأمراء الأكراد منهم تحالفوا ، فصاروا يدا واحدة يغضبون لغضب أحدهم ، ويرضون لرضى أحدهم ، فظن الأفضل وباقي الأسدية أنهم فعلوا بقاعدة بينهم وبين الدمشقيين ، فرحلوا من موضعهم ، وتأخروا في العشرين من شعبان ، ووصل أسد الدين شيركوه صاحب حمص إلى الأفضل في الخامس والعشرين من شعبان ووصل بعده الملك الظاهر صاحب حلب ، ثاني عشر شهر رمضان ، وأرادوا الزحف إلى دمشق ، فمنعهم الملك الظاهر مكرا بأخيه وحسدا له ، ولم يشعر أخوه الأفضل بذلك .

وأما الملك العادل فإنه لما رأى كثرة العساكر وتتابع الأمداد إلى الأفضل عظم عليه ، فأرسل إلى المماليك الناصرية بالبيت المقدس يستدعيهم إليه ، فساروا سلخ شعبان ، فوصل خبرهم إلى الأفضل ، فسير أسد الدين - صاحب حمص - ومعه جماعة من الأمراء إلى طريقهم ليمنعوهم ، فسلكوا غير طريقهم ، فجاء أولئك ودخلوا دمشق خامس رمضان ، فقوي العادل بهم قوة عظيمة ، وأيس الأفضل ومن معه من دمشق ، [ ص: 161 ] وخرج عسكر دمشق في شوال ، فكبسوا العسكر المصري ، فوجدوهم قد حذروهم ، فعادوا عنهم خاسرين .

وأقام العسكر على دمشق ما بين قوة وضعف ، وانتصار وتخاذل ، حتى أرسل الملك العادل خلف ولده الملك الكامل محمد ، وكان قد رحل عن ماردين - على ما نذكره إن شاء الله تعالى - وهو بحران ، فاستدعاه إليه بعسكره ، فسار على طريق البر ، فدخل إلى دمشق ثاني عشر صفر سنة ست وتسعين وخمسمائة ، فعند ذلك رحل العسكر عن دمشق إلى ذيل جبل الكسوة سابع عشر صفر ، واستقر أن يقيموا بحوران حتى يخرج الشتاء ، فرحلوا إلى رأس الماء ، وهو موضع شديد البرد ، فتغير العزم عن المقام ، واتفقوا على أن يعود كل منهم إلى بلده ، فعاد الظاهر صاحب حلب ، وأسد الدين صاحب حمص ، إلى بلادهما ، وعاد الأفضل إلى مصر ، فكان ما نذكره إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية