الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ثم إنه تعالى ذكر أن الواحد من هؤلاء المشركين لا يرضى بالولد البنت لنفسه ، فما لا يرتضيه لنفسه كيف ينسبه لله تعالى فقال : ( وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم ) وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : التبشير في عرف اللغة مختص بالخبر الذي يفيد السرور ، إلا أنه بحسب أصل اللغة عبارة عن الخبر الذي يؤثر في تغير بشرة الوجه ، ومعلوم أن السرور كما يوجب تغير البشرة فكذلك الحزن يوجبه . فوجب أن يكون لفظة التبشير حقيقة في القسمين ، ويتأكد هذا بقوله : ( فبشرهم بعذاب أليم ) [ آل عمران : 21 ] ومنهم من قال : المراد بالتبشير ههنا الإخبار ، والقول الأول أدخل في التحقيق .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله ( ظل وجهه مسودا ) فالمعنى أنه يصير متغيرا تغير مغتم ، ويقال لمن لقي مكروها : قد اسود وجهه غما وحزنا ، وأقول : إنما جعل اسوداد الوجه كناية عن الغم ، وذلك لأن الإنسان إذا قوي فرحه انشرح صدره وانبسط روح قلبه من داخل القلب ، ووصل إلى الأطراف ، ولا سيما إلى الوجه لما بينهما من التعلق الشديد ، وإذا وصل الروح إلى ظاهر الوجه أشرق الوجه وتلألأ واستنار ، وأما إذا قوي غم الإنسان احتقن الروح في باطن القلب ، ولم يبق منه أثر قوي في ظاهر الوجه ، فلا جرم يربد الوجه ويصفر ويسود ، ويظهر فيه أثر الأرضية والكثافة ، فثبت أن من لوازم الفرح استنارة الوجه وإشراقه ، ومن لوازم الغم كمودة الوجه وغبرته وسواده ، فلهذا السبب جعل بياض الوجه وإشراقه كناية عن الفرح ، وغبرته وكمودته وسواده كناية عن الغم والحزن والكراهية ، ولهذا المعنى قال : ( ظل وجهه مسودا وهو كظيم ) أي : ممتلئ غما وحزنا .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( يتوارى من القوم من سوء ) أي : يختفي ويتغيب من سوء ما بشر به ، قال المفسرون : كان الرجل في الجاهلية إذا ظهر آثار الطلق بامرأته توارى واختفى عن القوم إلى أن يعلم ما يولد له ، فإن كان ذكرا ابتهج به ، وإن كان أنثى حزن ولم يظهر للناس أياما يدبر فيها أنه ماذا يصنع بها ؟ وهو قوله : ( أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ) والمعنى : أيحبسه ؟ والإمساك ههنا بمعنى الحبس كقوله : ( أمسك عليك زوجك ) [ الأحزاب : 37 ] وإنما قال : ( أيمسكه ) ذكره بضمير الذكران ; لأن هذا الضمير عائد على " ما " في قوله : ( بشر به ) والهون الهوان قال النضر بن شميل : يقال : إنه أهون عليه هونا وهوانا ، وأهنته هونا وهوانا ، وذكرنا هذا في سورة الأنعام عند قوله : ( عذاب الهون ) وفي أن هذا الهون صفة من ؟ قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول أنه صفة المولودة ، ومعناه أنه يمسكها عن هون منه لها .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني قال عطاء عن ابن عباس : إنه صفة للأب ، ومعناه أنه يمسكها مع الرضا بهوان نفسه وعلى رغم أنفه .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال ( أم يدسه في التراب ) والدس إخفاء الشيء في الشيء . يروى أن العرب كانوا يحفرون حفيرة ويجعلونها فيها حتى تموت . وروي عن قيس بن عاصم أنه قال : يا رسول الله ، إني واريت ثماني بنات في الجاهلية فقال عليه السلام " أعتق عن كل واحدة منهن رقبة " فقال : يا نبي الله ، إني ذو إبل ، فقال : " اهد عن كل واحدة هديا " وروي أن رجلا قال : يا رسول الله ، ما أجد حلاوة الإسلام منذ أسلمت ، فقد كانت لي في الجاهلية ابنة ، فأمرت امرأتي أن تزينها ، فأخرجتها إلي فانتهيت بها إلى واد بعيد القعر فألقيتها فيه ، فقالت : يا [ ص: 46 ] أبت قتلتني ، فكلما ذكرت قولها لم ينفعني شيء ، فقال عليه السلام : " ما كان في الجاهلية فقد هدمه الإسلام وما كان في الإسلام يهدمه الاستغفار " واعلم أنهم كانوا مختلفين في قتل البنات ، فمنهم من يحفر الحفيرة ويدفنها فيها إلى أن تموت ، ومنهم من يرميها من شاهق جبل ، ومنهم من يغرقها ، ومنهم من يذبحها ، وهم كانوا يفعلون ذلك تارة للغيرة والحمية ، وتارة خوفا من الفقر والفاقة ولزوم النفقة ، ثم إنه قال : ( ألا ساء ما يحكمون ) وذلك لأنهم بلغوا من الاستنكاف من البنت إلى أعظم الغايات :

                                                                                                                                                                                                                                            فأولها : أن يسود وجهه .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أنه يختفي عن القوم من شدة نفرته عن البنت .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن الولد محبوب بحسب الطبيعة ، ثم إنه بسبب شدة نفرته عنها يقدم على قتلها ، وذلك يدل على أن النفرة عن البنت والاستنكاف عنها قد بلغ مبلغا لا يزداد عليه . إذا ثبت هذا فالشيء الذي بلغ الاستنكاف منه إلى هذا الحد العظيم كيف يليق بالعاقل أن ينسبه لإله العالم المقدس العالي عن مشابهة جميع المخلوقات ؟ ونظير هذه الآية قوله تعالى : ( ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى ) [ النجم :21 - 22] .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قال القاضي : هذه الآية تدل على بطلان الخبر ; لأنهم يضيفون إلى الله تعالى من الظلم والفواحش ما إذا أضيف إلى أحدهم أجهد نفسه في البراءة منه والتباعد عنه ، فحكمهم في ذلك مشابه لحكم هؤلاء المشركين ، ثم قال : بل أعظم ; لأن إضافة البنات إليه إضافة قبح واحد ، وذلك أسهل من إضافة كل القبائح والفواحش إلى الله تعالى . فيقال للقاضي : إنه لما ثبت بالدليل استحالة الصاحبة والولد على الله تعالى أردفه الله تعالى بذكر هذا الوجه الإقناعي ، وإلا فليس كل ما قبح منا في العرف قبح من الله تعالى . ألا ترى رجلا زين إماءه وعبيده وبالغ في تحسين صورهن ، ثم بالغ في تقوية الشهوة فيهم وفيهن ، ثم جمع بين الكل وأزال الحائل والمانع ، فإن هذا بالاتفاق حسن من الله تعالى ، وقبيح من كل خلق ، فعلمنا أن التعويل على هذه الوجوه المبنية على العرف ، فلا جرم حسنت تقويتها بهذه الوجوه الإقناعية . أما أفعال العباد فقد ثبت بالدلائل اليقينية القاطعة أن خالقها هو الله تعالى ، فكيف يمكن إلحاق أحد البابين بالآخر لولا شدة التعصب ؟ والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى ) والمثل السوء عبارة عن الصفة السوء ، وهي احتياجهم إلى الولد ، وكراهتهم الإناث خوف الفقر والعار : ( ولله المثل الأعلى ) أي : الصفة العالية المقدسة ، وهي كونه تعالى منزها عن الولد .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : كيف جاء ( ولله المثل الأعلى ) مع قوله : ( فلا تضربوا لله الأمثال ) [ النحل : 74 ] ؟

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : المثل الذي يذكره الله حق وصدق والذي يذكره غيره فهو الباطل ، والله أعلم

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية