الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى ) ليتوالدوا ، وفي تفسير هذا الأجل قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            القول الأول : وهو قول عطاء عن ابن عباس أنه يريد أجل القيامة .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الثاني : أن المراد منتهى العمر .

                                                                                                                                                                                                                                            وجه القول الأول : أن معظم العذاب يوافيهم يوم القيامة .

                                                                                                                                                                                                                                            ووجه القول الثاني : أن المشركين يؤاخذهم بالعقوبة إذا انقضت أعمارهم وخرجوا من الدنيا .

                                                                                                                                                                                                                                            النوع الثالث من الأقاويل الفاسدة التي كان يذكرها الكفار وحكاها الله تعالى عنهم ، قوله : ( ويجعلون لله ما يكرهون ) .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن المراد من قوله ( ويجعلون ) أي : البنات التي يكرهونها لأنفسهم ، ومعنى قوله : ( ويجعلون ) يصفون الله بذلك ، ويحكمون به له كقوله : جعلت زيدا على الناس أي : حكمت بهذا الحكم ، وذكرنا معنى الجعل عند قوله : ( ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ) [ المائدة : 103 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى ) قال الفراء والزجاج : موضع " أن " نصب لأن قوله : ( أن لهم الحسنى ) بدل من الكذب ، وتقدير الكلام : وتصف ألسنتهم أن لهم الحسنى .

                                                                                                                                                                                                                                            وفي تفسير " الحسنى " ههنا قولان .

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : المراد منه البنون ، يعني : أنهم قالوا : لله البنات ولنا البنون .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أنهم مع قولهم بإثبات البنات لله تعالى ، يصفون أنفسهم بأنهم فازوا برضوان الله تعالى بسبب هذا القول ، وأنهم على الدين الحق والمذهب الحسن .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : أنهم حكموا لأنفسهم بالجنة والثواب من الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : كيف يحكمون بذلك وهم كانوا منكرين للقيامة ؟

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : كلهم ما كانوا منكرين للقيامة ، فقد قيل : إنه كان في العرب جمع يقرون بالبعث والقيامة ، ولذلك فإنهم كانوا يربطون البعير النفيس على قبر الميت ويتركونه إلى أن يموت ويقولون : إن ذلك الميت إذا [ ص: 50 ] حشر فإنه يحشر معه مركوبه ، وأيضا فبتقدير أنهم كانوا منكرين للقيامة فلعلهم قالوا : إن كان محمد صادقا في قوله بالبعث والنشور فإنه يحصل لنا الجنة والثواب بسبب هذا الدين الحق الذي نحن عليه ، ومن الناس من قال : الأولى أن يحمل ( الحسنى ) على هذا الوجه بدليل أنه تعالى قال بعده : ( لا جرم أن لهم النار ) فرد عليهم قولهم وأثبت لهم النار ، فدل هذا على أنهم حكموا لأنفسهم بالجنة . قال الزجاج : " لا " رد لقولهم ، والمعنى ليس الأمر كما وصفوا ، " جرم " فعلهم أي : كسب ذلك القول لهم النار ، فعلى هذا اللفظ " أن " في محل النصب بوقوع الكسب عليه . وقال قطرب " أن " في موضع رفع ، والمعنى : وجب أن لهم النار . وكيف كان الإعراب فالمعنى هو أنه يحق لهم النار ويجب ويثبت . وقوله ( وأنهم مفرطون ) قرأ نافع وقتيبة عن الكسائي " مفرطون " بكسر الراء ، والباقون " مفرطون " بفتح الراء . أما قراءة نافع فقال الفراء : المعنى أنهم كانوا مفرطين على أنفسهم في الذنوب ، وقيل : أفرطوا في الافتراء على الله تعالى ، وقال أبو علي الفارسي : كأنه من أفرط ، أي : صار ذا فرط ، مثل أجرب أي : صار ذا جرب ، والمعنى : أنهم ذوو فرط إلى النار ، كأنهم قد أرسلوا من يهيئ لهم مواضع فيها . وأما قراءة قوله : " مفرطون " بفتح الراء ففيه قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            القول الأول : المعنى : أنهم متركون في النار .

                                                                                                                                                                                                                                            قال الكسائي : يقال ما أفرطت من القوم أحدا ، أي : ما تركت . وقال الفراء : تقول العرب : أفرطت منهم ناسا ، أي : خلفتهم وأنسيتهم .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الثاني : ( مفرطون ) أي : معجلون . قال الواحدي رحمه الله : وهو الاختيار ، ووجهه ما قال أبو زيد وغيره : فرط الرجل أصحابه يفرطهم فرطا وفروطا ، إذا تقدمهم إلى الماء ليصلح الدلاء والأرسان ، وأفرط القوم الفارط وفرطوه إذا قدموه ، فمعنى قوله : ( مفرطون ) على هذا التقدير كأنهم قدموا إلى النار ، فهم فيها فرط للذين يدخلون بعدهم ، ثم بين تعالى أن مثل هذا الصنع الذي يصدر من مشركي قريش قد صدر من سائر الأمم السابقين في حق الأنبياء المتقدمين عليهم السلام ، فقال : ( تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم ) وهذا يجري مجرى التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم ، فيما كان يناله من الغم بسبب جهالات القوم . قالت المعتزلة : الآية تدل على فساد قول المجبرة من وجوه .

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه إذا كان خالق أعمالهم هو الله تعالى ، فلا فائدة في التزيين .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن ذلك التزيين لما كان بخلق الله تعالى لم يجز ذم الشيطان بسببه .

                                                                                                                                                                                                                                            والثالث : أن التزيين هو الذي يدعو الإنسان إلى الفعل ، وإذا كان حصول الفعل فيه بخلق الله تعالى كان ضروريا ، فلم يكن التزيين داعيا .

                                                                                                                                                                                                                                            والرابع : أن على قولهم : الخالق لذلك العمل أجدر أن يكون وليا لهم من الداعي إليه .

                                                                                                                                                                                                                                            والخامس : أنه تعالى أضاف التزيين إلى الشيطان ، ولو كان ذلك المزين هو الله تعالى لكانت إضافته إلى الشيطان كذبا .

                                                                                                                                                                                                                                            وجوابه : إن كان مزين القبائح في أعين الكفار هو الشيطان ، فمزين تلك الوساوس في عين الشيطان إن كان شيطانا آخر لزم التسلسل . وإن كان هو الله تعالى فهو المطلوب .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( فهو وليهم اليوم ) وفيه احتمالان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن المراد منه كفار مكة وبقوله : ( فهو وليهم اليوم ) أي : الشيطان ويتولى إغواءهم وصرفهم عنك ، كما فعل بكفار الأمم قبلك فيكون على هذا التقدير رجع عن أخبار الأمم الماضية إلى الأخبار عن كفار مكة .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أنه أراد باليوم يوم القيامة ، يقول فهو ولي أولئك الذين كفروا يزين لهم أعمالهم يوم القيامة ، وأطلق اسم اليوم على يوم القيامة لشهرة ذلك اليوم ، [ ص: 51 ] والمقصود من قوله : ( فهو وليهم اليوم ) هو أنه لا ولي لهم ذلك اليوم ولا ناصر ، وذلك لأنهم إذا عاينوا العذاب وقد نزل بالشيطان كنزوله بهم ، ورأوا أنه لا مخلص له منه ، كما لا مخلص لهم منه ، جاز أن يوبخوا بأن يقال لهم : هذا وليكم اليوم على وجه السخرية .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية