الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

قال الدرجة الثانية : أن لا يتمنى الحياة إلا للحق . ولا يشهد من نفسه إلا أثر النقصان . ولا يلتفت إلى ترفيه الرخص .

أي لا يحب أن يعيش إلا ليشبع من رضا محبوبه . ويقوم بعبوديته . ويستكثر من الأسباب التي تقربه إليه ، وتدنيه منه . لا لعلة من علل الدنيا . ولا لشهوة من شهواتها ، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لولا ثلاث لما أحببت البقاء : لولا أن أحمل على جياد الخيل في سبيل الله ، ومكابدة الليل ، ومجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما ينتقى أطايب التمر .

يريد رضي الله عنه : الجهاد ، والصلاة ، والعلم النافع . وهذه درجات الفضائل . وأهلها هم أهل الزلفى ، والدرجات العليا .

وقال معاذ رضي الله عنه عند موته : اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب البقاء لجري الأنهار ، ولا لغرس الأشجار ، ولا لنكح الأزواج ، ولكن لظمأ الهواجر ، ومكابدة الليل ، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر .

وقوله : ولا يشهد من نفسه إلا أثر النقصان .

يعني لا يرى نفسه إلا مقصرا . والموجب له هذه الرؤية : استعظام مطلوبه ، واستصغار نفسه ، ومعرفته بعيوبها ، وقلة زاده في عينه . فمن عرف الله وعرف نفسه : لم ير نفسه إلا بعين النقصان .

وأما قوله : ولا يلتفت إلى ترفيه الرخص .

فلأنه - لكمال صدقه ، وقوة إرادته ، وطلبه للتقدم - يحمل نفسه على العزائم . ولا يلتفت إلى الرفاهية التي في الرخص .

وهذا لا بد فيه من التفصيل . فإن الصادق يعمل على رضا الحق تعالى ومحابه . فإذا كانت الرخص أحب إليه تعالى من العزائم : كان التفاته إلى ترفيهها . وهو عين صدقه . فإذا أفطر في السفر ، وقصر وجمع بين الصلاتين عند الحاجة إليه . وخفف الصلاة [ ص: 270 ] عند الشغل ، ونحو ذلك من الرخص التي يحب الله تعالى أن يؤخذ بها : فهذا الالتفات إلى ترفيهها لا ينافي الصدق .

بل هاهنا نكتة . وهي أنه فرق بين أن يكون التفاته إليها ترفها وراحة . وأن يكون متابعة وموافقة . ومع هذا فالالتفات إليها ترفها وراحة لا ينافي الصدق . فإن هذا هو المقصود منها . وفيه شهود نعمة الله على العبد ، وتعبده باسمه البر ، اللطيف ، المحسن ، الرفيق فإنه رفيق يحب الرفق . وفي الصحيح : ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما . ما لم يكن إثما لما فيه من روح التعبد باسم : الرفيق ، اللطيف وإجمام القلب به لعبودية أخرى . فإن القلب لا يزال يتنقل في منازل العبودية . فإذا أخذ بترفيه رخصة محبوبه : استعد بها لعبودية أخرى . وقد تقطعه عزيمتها عن عبودية هي أحب إلى الله منها ، كالصائم في السفر الذي ينقطع عن خدمة أصحابه ، والمفطر الذي يضرب الأخبية ، ويسقي الركاب ، ويضم المتاع . ولهذا قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم ذهب المفطرون اليوم بالأجر .

أما الرخص التأويلية ، المستندة إلى اختلاف المذاهب ، والآراء التي تصيب وتخطئ : فالأخذ بها عندهم عين البطالة مناف للصدق .

التالي السابق


الخدمات العلمية