الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
[ ص: 3 ] فصل [ الشرط العرفي كالشرط اللفظي ] ومن هذا الشرط العرفي كاللفظي ، وذلك كوجوب نقد البلد عند الإطلاق ، ووجوب الحلول حتى كأنه مشترط لفظا فانصرف العقد بإطلاقه إليه ، وإن لم يقتضه لفظه ، ومنها السلامة من العيوب حتى يسوغ له الرد بوجود العيب تنزيلا لاشتراط سلامة المبيع عرفا منزلة اشتراطها لفظا . ومنها وجوب وفاء المسلم فيه في مكان العقد وإن لم يشترطه لفظا بناء على الشرط العرفي . ومنها لو دفع ثوبه إلى من يعرف أنه يغسل أو يخيط بالأجرة أو عجينه لمن يخبزه أو لحما لمن يطبخه أو حبا لمن يطحنه أو متاعا لمن يحمله ونحو ذلك ممن نصب نفسه للأجرة على ذلك وجب له أجرة مثله ، وإن لم يشترط معه ذلك لفظا عند جمهور أهل العلم .

حتى عند المنكرين لذلك ; فإنهم ينكرونه بألسنتهم ولا يمكنهم العمل إلا به ، بل ليس يقف الإذن فيما يفعله الواحد من هؤلاء وغيرهم على صاحب المال خاصة ; لأن المؤمنين والمؤمنات بعضهم أولياء بعض في الشفقة والنصيحة والحفظ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ; ولهذا جاز لأحدهم ضم اللقطة ورد الآبق وحفظ الضالة ، حتى إنه يحسب ما ينفقه على الضالة والآبق واللقطة وينزل إنفاقه عليها منزلة إنفاقه لحاجة نفسه لما كان حفظا لمال أخيه وإحسانا إليه ; فلو علم المتصرف لحفظ مال أخيه أن نفقته تضيع وأن إحسانه يذهب باطلا في حكم الشرع لما أقدم على ذلك ، ولضاعت مصالح الناس ، ورغبوا عن حفظ أموال بعضهم بعضا ، وتعطلت حقوق كثيرة ، وفسدت أموال عظيمة ، ومعلوم أن شريعة من بهرت شريعته العقول وفاقت كل شريعة واشتملت على كل مصلحة وعطلت كل مفسدة تأبى ذلك كل الإباء ، وأين هذا من إجازة أبي حنيفة تصرف الفضولي ووقف العقود تحصيلا لمصلحة المالك ومنع المرتهن من الركوب والحلب بنفقته ؟ فيا لله العجب ، يكون هذا الإحسان للراهن وللحيوان ولنفسه بحفظ الرهن حراما لا اعتبارا به شرعا مع إذن الشارع فيه لفظا وإذن المالك عرفا وتصرف الفضولي معتبرا ، مرتبا عليه حكمه ؟ هذا ومن المعلوم أنا في إبراء الذمم أحوج منا إلى العقود على أولاد الناس وبناتهم وإمائهم وعبيدهم ودورهم وأموالهم ; فالمرتهن محسن بإبراء ذمة المالك من الإنفاق على الحيوان مؤد لحق الله فيه ولحق مالكه ولحق الحيوان ولحق [ ص: 4 ] نفسه متناول ما أذن له فيه الشارع من العوض بالدر والظهر ، وقد أوجب الله سبحانه وتعالى على الآباء إيتاء المراضع أجرهن بمجرد الإرضاع ، وإن لم يعقدوا معهن عقد إجارة ; فقال تعالى : { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } .

فإن قيل : فهذا ينتقض عليكم بما لو كان الرهن دارا فخرب بعضها فعمرها ليحفظ الرهن ; فإنه لا يستحق السكنى عندكم بهذه العمارة ، ولا يرجع بها .

قيل : ليس كذلك ، بل يحتسب له بما أنفقه ; لأن فيه إصلاح الرهن ، ذكره القاضي وابنه وغيرهما . وقد نص الإمام أحمد في رواية أبي حرب الجرجاني في رجل عمل في قناة رجل بغير إذنه ، فاستخرج الماء ، لهذا الذي عمل أجر في نفقته إذا عمل ما يكون منفعة لصاحب القناة ، هذا مع أن الفرق بين الحيوان والدار ظاهر ; لحاجة الحيوان إلى الإنفاق ووجوبه على مالكه ، بخلاف عمارة الدار ، فإن صح الفرق بطل السؤال ، وإن بطل الفرق ثبت الاستواء في الحكم .

فإن قيل : في هذا مخالفة للأصول من وجهين ; أحدهما : أنه إذا أدى عن غيره واجبا بغير إذنه كان متبرعا ، ولم يلزمه القيام له بما أداه عنه . الثاني : أنه لو لزمه عوضه فإنما يلزمه نظير ما أداه ، فأما أن يعارض عليه بغير جنس ما أداه بغير اختياره فأصول الشرع تأبى ذلك .

قيل : هذا هو الذي ردت به هذه السنة ، ولأجله تأولها من تأولها على أن المراد بها أن النفقة على المالك فإنه الذي يركب ويشرب ، وجعل الحديث دليلا على جواز تصرف الراهن في الرهن بالركوب والحلب وغيره ، ونحن نبين ما في هذين الأصلين من حق وباطل .

فأما الأصل الأول فقد دل في فساده القرآن والسنة وآثار الصحابة والقياس الصحيح ومصالح العباد ، أما القرآن فقوله تعالى : { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } وقد تقدم تقرير الدلالة منه ، وقد اعترض بعضهم على هذا الاستدلال بأن المراد به أجورهن المسماة فإنه أمر لهم بوفائها ، لا أمر لهم بإيتاء ما لم يسموه من الأجرة ويدل عليه قوله تعالى : { وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى } وهذا التعاسر إنما يكون حال العقد بسبب طلبها الشطط من الأجر أو حطها عن أجرة المثل ، وهذا اعتراض فاسد ; فإنه ليس في الآية ذكر التسمية ، ولا يدل عليها بدلالة من الدلالات الثلاث ، أما اللفظيتان فظاهر ، وأما اللزومية فلانفكاك التلازم بين الأمر بإيتاء الأجر وبين تقدم [ ص: 5 ] تسميته ، وقد سمى الله سبحانه وتعالى ما يؤتيه العامل على عمله أجرا وإن لم يتقدم له تسمية كما قال تعالى عن خليله عليه السلام : { وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين } وقال تعالى : { ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين } ومعلوم أن الأجر ما يعود إلى العامل عوضا عن عمله ; فهو كالثواب الذي يثوب إليه : أي يرجع من عمله ، وهذا ثابت سواء سمي أو لم يسم ، وقد نص الإمام أحمد رضي الله عنه على أنه إذا افتدي الأسير رجع عليه بما غرمه عليه ولم يختلف قوله فيه . واختلف قوله فيمن أدى دين غيره عنه بغير إذنه ; فنص في موضع على أنه يرجع عليه ، فقيل له : هو متبرع بالضمان ، فقال : وإن كان متبرعا بالضمان ، ونص في موضع آخر على أنه يرجع ، فإنه قال : إذا لم يقل اقض عني ديني كان متبرعا ، ونص على أنه يرجع على السيد بنفقة عبده الآبق إذا رده ، وقد كتب عمر بن الخطاب إلى عامله في سبي العرب ورقيقهم ، وقد كان التجار اشتروه فكتب إليه : أيما حر اشتراه التجار فاردد عليهم رءوس أموالهم ، وقد قيل : إن جميع الفرق تقول بهذه المسألة وإن تناقضوا ولم يطردوها ; فأبو حنيفة يقول : إذا قضى بعض الورثة دين الميت ليتوصل بذلك إلى أخذ حقه من التركة بالقسمة فإنه يرجع على التركة بما قضاه ، وهذا واجب قد أداه عن غيره بغير إذنه ، وقد رجع به ، ويقول : إذا بنى صاحب العلو السفل بغير إذن المالك لزم الآخر غرامة ما يخصه ، وإذا أنفق المرتهن على الرهن في غيبة الراهن رجع بما أنفق ، وإذا اشترى اثنان من واحد عبدا بألف فغاب أحدهما فأدى الحاضر جميع الثمن ليستلم العبد كان له الرجوع . والشافعي يقول : إذا أعار عبد الرجل ليرهنه فرهنه ثم إن صاحب الرهن قضى الدين بغير إذن المستعير وافتك الرهن رجع بالحق ، وإذا استأجر جمالا ليركبها فهرب الجمال فأنفق المستأجر على الجمال رجع بما أنفق .

وإذا ساقى رجلا على نخله فهرب العامل فاستأجر صاحب النخل من يقوم مقامة رجع عليه به ، واللقيط إذا أنفق عليه أهل المحلة ثم استفاد مالا رجعوا عليه . وإن أذن له في الضمان فضمن ثم أدى الحق بغير إذنه رجع عليه . وأما المالكية والحنابلة فهم أعظم الناس قولا بهذا الأصل ، والمالكية أشد قولا به ومما يوضح ذلك أن الحنفية قالوا في هذه المسائل : إن هذه الصور كلها أحوجته إلى استيفاء حقه أو حفظ ماله ; فلولا عمارة السفل لم يثبت العلو ، ولو لم يقض الوارث الغرماء لم يتمكن من أخذ حقه من التركة بالقسمة ، ولو لم يحفظ الرهن بالعلف لتلف محل الوثيقة ، ولو لم يستأجر على الشجر من يقوم مقام العامل لتعطلت الثمرة ، وحقه متعلق بذلك كله ، فإذا أنفق كانت نفقته [ ص: 6 ] ليتوصل إلى حقه ، بخلاف من أدى دين غيره فإنه لا حق له هناك يتوصل إلى استيفائه بالأداء ; فافترقا ; وتبين أن هذه القاعدة لا تلزمنا ، وأن من أدى عن غيره واجبا من دين أو نفقة على قريب أو زوجة فهو إما فضولي وهو جدير بأن يفوت عليه ما فوته على نفسه ، أو متفضل فحوالته على الله دون من تفضل عليه ; فلا يستحق مطالبته ، وزادت الشافعية وقالت : لما ضمن له المؤجر تحصيل منافع الجمال ، ومعلوم أنه لا يمكنه استيفاء تلك المنافع إلا بالعلف ; دخل في ضمانه لتلك المنافع إذنه له في تحصيلها بالإنفاق عليها ضمنا وتبعا ، فصار ذلك مستحقا عليه بحكم ضمانه عن نفسه لا بحكم ضمان الغير عنه .

يوضحه أن المؤجر والمساقي قد علما أنه لا بد للحي من قوام ، ولا بد للنخيل من سقي وعمل عليها ; فكأنه قد حصل الإذن فيها في الإنفاق عرفا ، والإذن العرفي يجري مجرى الإذن اللفظي ، وشاهده ما ذكرتم من المسائل ; فيقال : هذا من أقوى الحجج عليكم في مسألة علف المرتهن للرهن ، واستحقاقه للرجوع بما غرمه ، وهذا نصف المسافة ، وبقي نصفها الثاني ، وهو المعاوضة عليها بركوبه وشربه ، وهي أسهل المسافتين وأقربهما ; إذ غايتها تسليط الشارع له على هذه المعاوضة التي هي من مصلحة الراهن والمرتهن والحيوان ، وهي أولى من تسليط الشفيع على المعاوضة عن الشقص المشفوع لتكميل ملكه وانفراده به ، وهي أولى من المعاوضة في مسألة الظفر بغير اختيار من عليه الحق ; فإن سبب الحق فيها ليس ثابتا ، والآخذ ظالم في الظاهر ، ولهذا منعه النبي من الأخذ وسماه خائنا بقوله : { أد الأمانة إلى من ائتمنك ، ولا تخن من خانك } وأما ههنا فسبب الحق ظاهر ، وقد أذن في المعاوضة للمصلحة التي فيها ، فكيف تمنع هذه المعاوضة التي سبب الحق فيها ظاهر وقد أذن فيها الشارع وتجوز تلك المعاوضة التي سبب الحق فيها غير ظاهر وقد منع منها الشارع ؟ فلا نص ولا قياس .

ومما يدل على أن من أدى عن غيره واجبا أنه يرجع عليه به قوله تعالى : { هل جزاء الإحسان إلا الإحسان } وليس من جزاء هذا المحسن بتخليص من أحسن إليه بأداء دينه وفك أسره منه وحل وثاقه أن يضيع عليه معروفه وإحسانه ، وأن يكون جزاؤه منه بإضاعة ماله ومكافأته عليه بالإساءة . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : { من أسدى إليكم معروفا فكافئوه } وأي معروف فوق معروف هذا الذي افتك أخاه من أسر الدين ؟ وأي مكافأة أقبح من إضاعة ماله عليه وذهابه ؟ وإذا كانت الهدية التي هي تبرع محض قد شرعت المكافأة عليها وهي من أخلاق المؤمنين ، فكيف يشرع جواز ترك المكافآت على ما هو من أعظم المعروف ؟ وقد عقد الله سبحانه وتعالى الموالاة بين المؤمنين وجعل [ ص: 7 ] بعضهم أولياء بعض ، فمن أدى عن وليه واجبا كان نائبه فيه بمنزلة وكيله وولى من أقامه الشرع للنظر في مصالحه لضعفه أو عجزه .

ومما يوضح ذلك أن الأجنبي لو أقرض رب الدين قدر دينه وأحاله به على المدين مالك ذلك ، وأي فرق شرعي أو معنوي بين أن يوفيه ويرجع به على المدين أو يقرضه ويحتال به على المدين ؟ وهل تفرق الشريعة المشتملة على مصالح العباد بين الأمرين ؟ ولو تعين عليه ذبح هدي أو أضحية فذبحها عنه أجنبي بغير إذنه أجزأت وتأدى الواجب بذلك ، ولم تكن ذبيحة غاصب ، وما ذاك إلا لكون الذبح قد وجب عليه فأدى هذا الواجب غيره وقام مقام تأديته هو بحكم النيابة عنه شرعا ، وليس الشأن في هذه المسألة لوضوحها واقتضاء أصول الشرع وفروعه لها ، وإنما الشأن فيمن عمل في مال غيره عملا بغير إذنه ليتوصل بذلك العمل إلى حقه أو فعله حفظا لمال المالك واحترازا له من الضياع ; فالصواب أنه يرجع عليه بأجرة عمله . وقد نص عليه الإمام أحمد رضي الله عنه في عدة مواضع : منها أنه إذا حصد زرعه في غيبته فإنه نص على أنه يرجع عليه بالأجرة ، وهذا من أحسن الفقه ، فإنه إذا مرض أو حبس أو غاب فلو ترك زرعه بلا حصاد لهلك وضاع ، فإذا علم من يحصده له أنه يذهب عليه عمله نفقته ضياعا لم يقدم على ذلك ، وفي ذلك من إضاعة المال وإلحاق الضرر بالمالك ما تأباه الشريعة الكاملة ; فكان من أعظم محاسنها أن أذنت للأجنبي في حصاده والرجوع على مالكه بما أنفق عليه حفظا لماله ومال المحسن إليه ، وفي خلاف ذلك إضاعة لماليهما أو مال أحدهما ، ومنها ما نص عليه فيمن عمل في قناة رجل بغير إذنه فاستخرج الماء ، قال : لهذا الذي عمل نفقته ، ومنها لو انكسرت سفينته فوقع متاعه في البحر فخلصه رجل فإنه لصاحبه ، وله عليه أجرة مثله ، وهذا أحسن من أن يقال : لا أجرة له ; فلا تطيب نفسه بالتعرض للتلف والمشقة الشديدة ويذهب عمله باطلا أو يذهب مال الآخر ضائعا ، وكل منهما فساد محض ، والمصلحة في خلافه ظاهرة . والمؤمنون يرون قبيحا أن يذهب عمل مثل هذا ضائعا ومال هذا ضائعا ، ويرون من أحسن الحسن أن يسلم مال هذا وينجح سعي هذا ، والله الموفق .

التالي السابق


الخدمات العلمية