الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  67 9 - حدثنا مسدد قال : حدثنا بشر قال : حدثنا ابن عون ، عن ابن سيرين ، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ، عن أبيه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم قعد على بعيره وأمسك إنسان بخطامه [ ص: 36 ] أو بزمامه ، قال : أي يوم هذا ؟ فسكتنا ، حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه ! قال : أليس يوم النحر ؟ قلنا : بلى . قال : فأي شهر هذا ؟ فسكتنا ، حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ! فقال : أليس بذي الحجة ؟ قلنا : بلى . قال : فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ، ليبلغ الشاهد الغائب ; فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقة الحديث للترجمة من حيث المعنى كما ذكرناه .

                                                                                                                                                                                  بيان رجاله : وهم ستة ; الأول : مسدد بن مسرهد .

                                                                                                                                                                                  الثاني : بشر - بكسر الباء الموحدة وسكون الشين المعجمة - ابن المفضل بن لاحق الرقاشي أبو إسماعيل البصري ، سمع ابن المنكدر وعبد الله بن عون وغيرهما ، روى عنه أحمد وقال : إليه المنتهى في التثبت بالبصرة . قال أبو زرعة وأبو حاتم : ثقة . وقال محمد بن سعد : كان ثقة كثير الحديث عثمانيا ، توفي سنة ست وثمانين ومائة . وقال : إنه كان يصلي كل يوم أربعمائة ركعة ، ويصوم يوما ويفطر يوما - روى له الجماعة .

                                                                                                                                                                                  الثالث : عبد الله بن عون بن أرطبان البصري ، وأرطبان مولى عبد الله بن مغفل الصحابي ، رأى أنس بن مالك ولم يثبت له منه سماع ، وسمع القاسم بن محمد والحسن ومحمد بن سيرين وغيرهم ، روى عنه شعبة والثوري وابن المبارك وآخرون ، وعن خارجة قال : صحبت ابن عون أربعا وعشرين سنة ، فما أعلم أن الملائكة كتبت عليه خطيئة . وقال أبو حاتم : هو ثقة . وقال عمرو بن علي : ولد سنة ست وستين ، ومات وهو ابن خمس وثمانين ، ويقال : توفي سنة إحدى وخمسين ومائة - روى له الجماعة .

                                                                                                                                                                                  الرابع : محمد بن سيرين .

                                                                                                                                                                                  الخامس : عبد الرحمن بن أبي بكرة نفيع بن الحارث ، أبو عمر الثقفي البصري ، أخو عبيد الله ومسلم ووراد ، وهو أول مولود ولد في الإسلام بالبصرة سنة أربع عشرة ، سمع أباه وعليا وغيرهما ، أخرج له البخاري هنا وفي غير موضع عن ابن سيرين وعبد الملك بن عمير وخالد الحذاء وعنه عن أبيه ، قال ابن معين : توفي سنة تسع وتسعين - روى له الجماعة .

                                                                                                                                                                                  السادس : أبوه أبو بكرة ، واسمه نفيع - بضم النون وفتح الفاء - ابن الحارث ، وقد تقدم .

                                                                                                                                                                                  بيان لطائف إسناده : منها أن فيه التحديث والعنعنة ، ومنها أن رواته كلهم بصريون ، ومنها أن في رواته ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض ; وهم عبد الله بن عون وابن سيرين وعبد الرحمن بن أبي بكرة .

                                                                                                                                                                                  بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره : أخرجه البخاري أيضا في الفتن عن مسدد عن يحيى بن سعيد عن قرة بن خالد عن محمد بن سيرين عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ورجل آخر أفضل في نفسي من عبد الرحمن - كلاهما عن أبي بكرة ، وزاد في آخره : قال عبد الرحمن حدثتني أمي عن أبي بكرة أنه قال : لو دخلوا علي ما نهشت لهم بقصبة . وفي الحج عن عبد الله بن محمد عن أبي عامر العقدي عن قرة بن خالد بإسناده نحوه ، وسمى الرجل حميد بن عبد الرحمن ، ولم يذكر حديث عبد الرحمن عن أمه ، وفي التفسير وفي بدء الخلق عن أبي موسى ، وفي الأضاحي عن محمد بن سلام - كلاهما عن عبد الوهاب الثقفي ، وفي العلم والتفسير أيضا عن عبد الله بن عبد الوهاب الحجبي عن حماد بن زيد - كلاهما عن أيوب . وأخرجه مسلم في الديات عن أبي بكر بن أبي شيبة ويحيى بن حبيب بن عربي - كلاهما عن عبد الوهاب الثقفي به . وعن نصر بن علي عن يزيد بن زريع ، وعن أبي موسى عن حماد بن مسعدة - كلاهما عن ابن عون به ، وزاد في آخره " ثم انكفأ إلى كبشين أملحين فذبحهما إلى جريعة من الغنم فقسمها بيننا " . وعن محمد بن حاتم عن يحيى بن سعيد نحوه ، ولم يذكر حديث عبد الرحمن عن أمه . وعن محمد بن عمرو بن جبلة وأحمد بن الحسن بن خراش - كلاهما عن أبي عامر العقدي نحوه ، وسمى حميد بن عبد الرحمن . وأخرجه النسائي في الحج عن إسماعيل بن مسعود بن بشر بن المفضل نحوه ، وعن يحيى بن مسعدة عن يزيد بن زريع نحوه ، وفيه وفي العلم عن أبي قدامة السرخسي عن أبي عامر العقدي نحوه ، وذكر حميد بن عبد الرحمن . وعن سليمان بن مسلم عن النضر بن شميل عن أبي عون . وأخرجه البخاري من حديث ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم بنحوه ، وله طرق تأتي إن شاء الله تعالى ، وذكره ابن منده في مستخرجه من حديث سبعة عشر صحابيا .

                                                                                                                                                                                  بيان اللغات : قوله " على بعيره " ، البعير الجمل الباذل ، وقيل الجذع ، وقد يكون للأنثى ، وحكي عن بعض العرب شربت من لبن بعيري وصرعتني بعيري ، وفي الجامع البعير بمنزلة الإنسان يجمع المذكر والمؤنث من الناس ، إذا [ ص: 37 ] رأيت جملا على البعد قلت هذا بعير ، فإذا استثبته قلت جمل أو ناقة ، ويجمع على أبعرة وأباعر وأباعير وبعر وبعران ، وفي العباب : يقال للجمل بعير وللناقة بعير ، وبنو تميم يقولون بعير وشعير بكسر الباء والشين ، والفتح هو الصحيح ، وإنما يقال له بعير إذا جذع ، والجمع أبعرة في أدنى العدد وأباعر في الكثير وأباعير وبعران - هذه عن الفراء .

                                                                                                                                                                                  قوله " أمسك إنسان بخطامه " ; أي تمسك به ، ومسكت به مثل أمسكت به ، قال الله تعالى : والذين يمسكون بالكتاب - أي يتمسكون به ، وقرأ البصريون " ولا تمسكوا بعصم الكوافر " بالتشديد ، والخطام - بكسر الخاء - الزمام الذي يشد فيه البرة - بضم الباء وفتح الراء ; حلقة من صفر تجعل في لحم أنف البعير ، وقال الأصمعي : تجعل في إحدى جانبي المنخرين .

                                                                                                                                                                                  قوله " بذي الحجة " بكسر الحاء وفتحها ، والكسر أفصح ، ويجمع على ذوات الحجة ، وذوات القعدة بكسر القاف ويجمع على ذوات القعدة .

                                                                                                                                                                                  قوله " وأعراضكم " جمع عرض - بكسر العين ، وهو موضع المدح والذم من الإنسان سواء كان في نفسه أو في سلفه . وقيل : العرض الحسب . وقيل : الخلق . وقيل : النفس - وقد مر تحقيق الكلام فيه .

                                                                                                                                                                                  قوله " الشاهد " ; أي الحاضر ، من شهد إذا حضر .

                                                                                                                                                                                  قوله " أوعى " ; أي أحفظ ، من الوعي وهو الحفظ والفهم .

                                                                                                                                                                                  بيان الإعراب : قوله " ذكر النبي " بنصب النبي ; لأنه مفعول " ذكر " ، والضمير في " ذكر " يرجع إلى الراوي ، المعنى : عن أبي بكرة أنه كان يحدثهم فذكر النبي عليه الصلاة والسلام فقال " قعد على بعيره " ، ووقع في رواية ابن عساكر عن أبي بكرة أن النبي عليه الصلاة والسلام " قعد " ، وفي رواية النسائي عن أبي بكرة قال : وذكر النبي عليه الصلاة والسلام - فالواو واو الحال ، ويجوز أن تكون واو العطف على أن يكون المعطوف عليه محذوفا ; فافهم !

                                                                                                                                                                                  قوله " قعد على بعيره " جملة وقعت مقول قال المقدر .

                                                                                                                                                                                  قوله " وأمسك " يجوز أن تكون الواو فيه للحال ، وقد علم أن الماضي إذا وقع حالا تجوز فيه الواو وتركها ، ولكن لا بد من قد ظاهرة أو مقدرة ، ويجوز أن تكون للعطف على " قعد " .

                                                                                                                                                                                  قوله " أي يوم هذا ؟ " جملة وقعت مقول القول .

                                                                                                                                                                                  قوله " فسكتنا " عطف على " قال " .

                                                                                                                                                                                  قوله " حتى " للغاية بمعنى إلى .

                                                                                                                                                                                  قوله " أنه " بفتح الهمزة في محل النصب على المفعولية .

                                                                                                                                                                                  قوله " سيسميه " ، السين فيه تفيد توكيد النسبة ، وقال الزمخشري في قوله تعالى " أولئك سيرحمهم الله " : السين مفيدة وجود الرحمة لا محالة فهي تؤكد الوعد ، كما تؤكد الوعيد إذا قلت سأنتقم منك .

                                                                                                                                                                                  قوله " أليس يوم النحر " الهمزة فيه ليست للاستفهام الحقيقي ، وإنما هي تفيد نفي ما بعدها ، وما بعدها ها هنا منفي فتكون إثباتا ; لأن نفي النفي إثبات ، فيكون المعنى هو يوم النحر ، كما في قوله تعالى : أليس الله بكاف عبده - أي الله كاف عبده ، وكذلك قوله : ألم نشرح لك صدرك - فمعناه شرحنا صدرك ، ولهذا عطف عليه قوله " ووضعنا " .

                                                                                                                                                                                  قوله " فقلنا " عطف على قوله " قال " .

                                                                                                                                                                                  قوله " بلى " مقول القول أقيم مقام الجملة التي هي مقول القول ، وهي حرف يختص بالنفي ويفيد إبطاله سواء كان مجردا نحو : زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي - أو مقرونا بالاستفهام حقيقيا كان نحو أليس زيد بقائم ؟ فتقول بلى ، أو توبيخا نحو : " أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى " ، " أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه بلى " ، أو تقريرا نحو : " ألم يأتكم نذير قالوا بلى " ، " ألست بربكم قالوا بلى " ; أجروا النفي مع التقدير مجرى النفي المجرد في رده ببلى ، ولذلك قال ابن عباس : لو قالوا نعم كفروا ; لأن نعم تصديق للخبر بنفي أو إيجاب - ولذلك قالت جماعة من الفقهاء لو قال أليس لي عليك ألف ؟ فقال بلى لزمته ، ولو قال نعم لم تلزمه . وقال آخرون : تلزمه فيهما - وجروا في ذلك على مقتضى العرف لا اللغة .

                                                                                                                                                                                  قوله " حرام " خبر " إن " .

                                                                                                                                                                                  قوله " ليبلغ " بكسر الغين ; لأنه أمر ، ولكنه لما وصل بما بعده حرك بالكسر ; لأن الأصل في الساكن إذا حرك أن يحرك بالكسر .

                                                                                                                                                                                  قوله " عسى أن يبلغ " في محل الرفع على أنه خبر " إن " ، وقد علم أن لعسى استعمالان ; أحدهما أن يكون فاعله اسما نحو عسى زيد أن يخرج ، فزيد مرفوع بالفاعلية وأن يخرج في موضع نصب لأنه بمنزلة قارب زيد الخروج ، والآخر أن تكون أن مع صلتها في موضع الرفع نحو عسى أن يخرج زيد ، فيكون إذ ذاك بمنزلة قرب أن يخرج - أي خروجه ، وما في الحديث من هذا القبيل .

                                                                                                                                                                                  قوله " منه " صلة لأفعل التفضيل ; أعني قوله " أوعى " ، فإن قلت : صلته كالمضاف إليه ، فكيف جاز الفصل بينهما بلفظة " له " ؟ قلت : جاز لأن في الظرف سعة ، كما جاز الفصل بين المضاف والمضاف إليه به قال :


                                                                                                                                                                                  فرشني بخير لأكونن ومدحتي كناحت يوما صخرة بعسيل

                                                                                                                                                                                  فإن قوله " يوما " فصل بين " ناحت " الذي هو مضاف وبين " صخرة " الذي هو مضاف إليه .

                                                                                                                                                                                  قوله " فرشني " أمر من راش [ ص: 38 ] يريش ، يقال رشت فلانا إذا أصلحت حاله . والعسيل - بفتح العين المهملة وكسر السين المهملة - مكنسة العطار الذي يجمع به العطر .

                                                                                                                                                                                  بيان المعاني : قوله " قعد على بعيره " ، وذلك كان بمنى في يوم النحر في حجة الوداع .

                                                                                                                                                                                  قوله " وأمسك إنسان بخطامه " ، قيل : هذا الممسك كان بلالا رضي الله تعالى عنه - واستدل عليه بما رواه النسائي من طريق أم الحصين قالت : حججت فرأيت بلالا يقود بخطام راحلة النبي صلى الله عليه وسلم . ويقال : كان الممسك عمرو بن خارجة - فإنه وقع في السنن من حديثه قال : كنت آخذ بزمام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم - فذكر الخطبة ، قيل : هو أولى أن يفسر به المبهم ; لأنه أخبر عن نفسه أنه كان ممسكا بزمام ناقته عليه الصلاة والسلام . ويقال : كان الممسك هو أبا بكرة الراوي لما روى الإسماعيلي عن الحسين عن سفيان عن حبان عن ابن المبارك عن أبي عون بسنده إلى أبي بكرة قال : خطب رسول الله عليه الصلاة والسلام على راحلته يوم النحر ، وأمسكت - إما قال بخطامها أو بزمامها .

                                                                                                                                                                                  قوله " أي يوم هذا ؟ " ليس في رواية المستملي والأصيلي والحموي السؤال عن الشهر والجواب الذي قبله ، ولفظهما " أي يوم هذا ؟ فسكتنا ، حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه ! قال : أليس بذي الحجة ؟ " ، وفي رواية الكشميهني وكريمة بالسؤال عن الشهر والجواب الذي قبله ، وهي أيضا كذلك في مسلم وغيره ، وكذا وقع في مسلم وغيره السؤال عن البلد ، فهذه ثلاثة أسئلة عن اليوم والشهر والبلد ، وهي ثابتة عند البخاري في الأضاحي من رواية أيوب ، وفي الحج أيضا من رواية قرة - كلاهما عن ابن سيرين ، وذكر في أول حديثه " خطبنا رسول الله عليه الصلاة والسلام يوم النحر فقال : أتدرون أي يوم هذا ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم ! فسكت ، حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه " ، وذكر قوله " الله ورسوله أعلم " في الجواب عن الأسئلة الثلاثة ، وكذلك أورده من رواية ابن عمر ، وجاء من رواية ابن عباس رضي الله عنهما " خطبنا رسول الله عليه الصلاة والسلام يوم النحر فقال : أيها الناس ; أي يوم هذا ؟ قالوا : هذا يوم حرام . قال : فأي بلد هذا ؟ قالوا : بلد حرام . قال : فأي شهر هذا ؟ قالوا : شهر حرام " .

                                                                                                                                                                                  فإن قيل : حديث ابن عباس يشعر بأنهم أجابوه بقولهم هذا يوم حرام وبلد حرام وشهر حرام ، وهو مخالف للمذكور هنا من حديث أبي بكرة ومن حديث ابن عمر أيضا أنهم سكتوا حتى ظنوا أنه سيسميه بغير اسمه ! الجواب أنه يحتمل أن تكون الخطبة متعددة ، فأجاب في الثانية من علم في الأولى ولم يجب من لم يعلم ، فنقل كل من الرواة ما سمع . ويقال : إن حديث أبي بكرة من رواية مسدد وقع ناقصا مخروما لنسيان وقع من بعض الرواة .

                                                                                                                                                                                  قوله " فإن دماءكم " فيه حذف تقديره سفك دمائكم ، وكذا في " أموالكم " التقدير أخذ أموالكم ، وكذا في " أعراضكم " التقدير سلب أعراضكم .

                                                                                                                                                                                  قوله " ليبلغ الشاهد " ; أي الحاضر في المجلس الغائب عنه ، والمراد منه إما تبليغ القول المذكور أو تبليغ جميع الأحكام ; فافهم !

                                                                                                                                                                                  بيان استنباط الأحكام : وهو على وجوه ; الأول : فيه أن العالم يجب عليه تبليغ العلم لمن لم يبلغه وتبيينه لمن لا يفهمه ، وهو الميثاق الذي أخذه الله تعالى على العلماء ليبيننه للناس ولا يكتمونه .

                                                                                                                                                                                  الثاني : فيه أنه يأتي في آخر الزمان من يكون له من الفهم في العلم من ليس لمن تقدمه وأن ذلك يكون في الأقل ; لأن " رب " موضوعة للتقليل وعسى موضعها الإطماع وليست لتحقيق الشيء .

                                                                                                                                                                                  الثالث : فيه أن حامل الحديث يجوز أن يؤخذ عنه وإن كان جاهلا بمعناه ، وهو مأخوذ من تبليغه محسوب في زمرة أهل العلم .

                                                                                                                                                                                  الرابع : فيه أن ما كان حراما يجب على العالم أن يؤكد حرمته ويغلظ عليه بأبلغ ما يوجد ، كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام في المتشابهات .

                                                                                                                                                                                  الخامس : فيه جواز القعود على ظهر الدواب إذا احتيج إلى ذلك لا للأشر والبطر ، والنهي في قوله عليه السلام " لا تتخذوا ظهور الدواب مجالس " مخصوص بغير الحاجة .

                                                                                                                                                                                  السادس : فيه الخطبة على موضع عال ليكون أبلغ في سماعها للناس ورؤيتهم إياه .

                                                                                                                                                                                  السابع : فيه مساواة المال والدم والعرض في الحرمة .

                                                                                                                                                                                  الثامن : فيه تشبيه الدماء والأموال والأعراض باليوم والشهر والبلد في الحرمة دليل على استحباب ضرب الأمثال وإلحاق النظير بالنظير قياسا - قاله النووي .

                                                                                                                                                                                  الأسئلة والأجوبة : منها ما قيل : لم شبه الدماء والأموال والأعراض في الحرمة باليوم وبالشهر وبالبلد في غير هذه الرواية ؟ أجيب بأنهم كانوا لا يرون استباحة هذه الأشياء وانتهاك حرمتها بحال ، وكان تحريمها ثابتا في نفوسهم مقررا عندهم بخلاف الدماء والأموال والأعراض ; فإنهم في الجاهلية كانوا يستبيحونها . وقال بعضهم : أعلمهم الشارع بأن تحريم دم المسلم وماله وعرضه أعظم من تحريم البلد والشهر واليوم ، فلا يرد كون المشبه به أخفض رتبة من المشبه ; لأن الخطاب إنما وقع [ ص: 39 ] بالنسبة لما اعتاده المخاطبون قبل تقرير الشرع . قلت : لا نسلم أن الشارع قال حرمة هذه الأشياء أعظم من حرمة تلك الأشياء حتى يرد السؤال بكون المشبه به أخفض رتبة من المشبه ، وإنما الشارع شبه حرمة تلك بحرمة هذه لما ذكرنا من وجه التشبيه من غير تعرض إلى غير ذلك .

                                                                                                                                                                                  ومنها ما قيل : لم سأل عليه السلام عن هذه الأشياء الثلاثة وسكت بعد كل سؤال منها ؟ أجيب : لاستحضار فهومهم وليقبلوا عليه بكليتهم ، وليعلموا عظمة ما يخبرهم عنه ، ولذا قال بعد هذا : فإن دماءكم ... إلى آخره - مبالغة في تحريم الأشياء المذكورة .

                                                                                                                                                                                  ومنها ما قيل : لم كان جوابهم عن كل سؤال بقولهم " الله ورسوله أعلم " على ما ثبت في الرواية الأخرى للبخاري وغيره ؟ أجيب : إنما كان ذلك لحسن أدبهم ; لأنهم كانوا يعلمون أنه لا يخفى عليه ما يعرفونه من الجواب وأنه ليس مراد مطلق الإخبار بما يعرفونه ، ولهذا قال في رواية الباب " حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه " ، وفيه إشارة إلى تفويض الأمور بالكلية إلى الشارع والانعزال عما ألفوه من المتعارف المشهور .

                                                                                                                                                                                  ومنها ما قيل : لم أمسك الممسك بخطام ناقته ؟ أجيب : لصونه البعير عن الاضطراب والتشويش على راكبه .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية