الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 456 ] بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                                                                                                                                      سورة التين

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : وهذا البلد الأمين .

                                                                                                                                                                                                                                      تقدم وجه الجمع بينه وبين قوله تعالى : لا أقسم بهذا البلد [ 90 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم .

                                                                                                                                                                                                                                      هذه الآية الكريمة توهم أن الإنسان ينكر أن ربه خلقه ، لما تقرر في فن المعاني من أن خالي الذهن من المتردد ، والإنكار لا يؤكد له الكلام ، ويسمى ذلك ابتدائيا ، والمتردد يحسن التوكيد له بمؤكد واحد ، ويسمى طلبيا ، والمنكر يجب التوكيد له بحسب إنكاره ، ويسمى إنكاريا .

                                                                                                                                                                                                                                      والله تعالى في هذه الآية أكد إخباره بأنه خلق الإنسان في أحسن تقويم ، بأربعة أقسام ، وباللام ، وبقد ، فهي ستة تأكيدات ، وهذا التوكيد يوهم أن الإنسان منكر ، لأن ربه خلقه ، وقد جاءت آيات أخرى صريحة في أن الكفار يقرون بأن الله هو خالقهم ، وهي قوله : ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله [ 43 \ 87 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      والجواب من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                      الأول : هو ما حرره علماء البلاغة من أن المقر ، إذا ظهرت عليه أمارة الإنكار ، جعل كالمنكر ، فأكد له الخبر ، كقول حجل بن نضلة :


                                                                                                                                                                                                                                      جاء شقيق عارضا رمحه أن بني عمك فيهم رماح

                                                                                                                                                                                                                                      فشقيق لا ينكر أن في بني عمه رماحا ، ولكن مجيئه عارضا رمحه ، أي جاعلا عرضه جهتهم من غير التفات إمارة ، أنه يعتقد أن لا رمح فيهم ، فأكد له الخبر ، فإذا حققت ذلك ، فاعلم أن الكفار لما أنكروا البعث ، ظهرت عليهم أمارة إنكار الإيجاد [ ص: 457 ] الأول ، لأن من أقر بالأول لزمه الإقرار بالثاني ، لأن الإعادة أيسر من البدء ، فأكد لهم الإيجاد الأول .

                                                                                                                                                                                                                                      ويوضح هذا أن الله بين أنه المقصود بقوله : فما يكذبك بعد بالدين [ 95 \ 7 ] ، أي ما يحملك أيها الإنسان على التكذيب بالبعث والجزاء ، بعد علمك أن الله أوجدك أولا ، فمن أوجدك أولا قادر على أن يوجدك ثانيا ، كما قال تعالى : قل يحييها الذي أنشأها أول مرة الآية [ 36 \ 79 ] ، وقال : كما بدأنا أول خلق نعيده الآية [ 21 \ 104 ] ، وقال : وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده الآية [ 30 \ 27 ] وقال : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب [ 22 \ 5 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      والآيات بمثل هذا كثيرة ، ولذا ذكر تعالى أن من أنكر البعث ، فقد نسي إيجاده الأول ، بقوله : وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم [ 36 \ 78 ] ، وبقوله : ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا [ 19 \ 66 - 67 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال البعض : معنى : فما يكذبك ، فمن يقدر على تكذيبك يا نبي الله بالثواب والعقاب بعدما تبين له أنا خلقنا الإنسان على ما وصفنا ، وهو في دلالته على ما ذكرنا كالأول ، فظهرت النكتة في جعل الابتدائي كالإنكاري .

                                                                                                                                                                                                                                      الوجه الثاني : أن القسم شامل لقوله : ثم رددناه أسفل سافلين [ 95 \ 5 ] ، أي إلى النار ، وهم لا يصدقون بالنار بدليل قوله تعالى : هذه النار التي كنتم بها تكذبون [ 52 \ 14 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا الوجه في معنى قوله : أسفل سافلين أصح من القول بأن معناه الهرم ، والرد إلى أرذل العمر لكون قوله : إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون [ 95 \ 6 ] أظهر في الأول من الثاني ، وإذا كان القسم شاملا للإنكاري ، فلا إشكالا لأن التوكيد منصب على ذلك الإنكاري ، والعلم عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية