الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن هذا الاعتراض إنما يستقيم على مذهب القاضي ، أما على قولنا في أنه تعالى يفعل ما يشاء [ ص: 72 ] ويحكم ما يريد فليس له قوة ، والله أعلم ، ثم إنه تعالى عاد إلى الدلائل الدالة على وجود الصانع المختار فقال : ( والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا ) وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي "إمهاتكم" بكسر الهمزة ، والباقون بضمها .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : "أمهاتكم" أصله : أماتكم ، إلا أنه زيد الهاء فيه كما زيد في أراق فقيل : أهراق ، وشذت زيادتها في الواحدة في قوله :


                                                                                                                                                                                                                                            أمهتي خندف واليأس أبي



                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : الإنسان خلق في مبدأ الفطرة خاليا عن معرفة الأشياء .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال : ( وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة ) المعنى : أن النفس الإنسانية لما كانت في أول الخلقة خالية عن المعارف والعلوم بالله ، فالله أعطاه هذه الحواس ؛ ليستفيد بها المعارف والعلوم ، وتمام الكلام في هذا الباب يستدعي مزيد تقرير ، فنقول : التصورات والتصديقات إما أن تكون كسبية ، وإما أن تكون بديهية ، والكسبيات إنما يمكن تحصيلها بواسطة تركيبات البديهيات ، فلا بد من سبق هذه العلوم البديهية ، وحينئذ لسائل أن يسأل فيقول : هذه العلوم البديهية إما أن يقال : إنها كانت حاصلة منذ خلقنا أو ما كانت حاصلة . والأول باطل ؛ لأنا بالضرورة نعلم أنا حين كنا جنينا في رحم الأم ما كنا نعرف أن النفي والإثبات لا يجتمعان ، وما كنا نعرف أن الكل أعظم من الجزء .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما القسم الثاني : فإنه يقتضي أن هذه العلوم البديهية حصلت في نفوسنا بعد أنها ما كانت حاصلة ، فحينئذ لا يمكن حصولها إلا بكسب وطلب ، وكل ما كان كسبيا فهو مسبوق بعلوم أخرى ، فهذه العلوم البديهية تصير كسبية ، ويجب أن تكون مسبوقة بعلوم أخرى إلى غير نهاية ، وكل ذلك محال ، وهذا سؤال قوي مشكل .

                                                                                                                                                                                                                                            وجوابه أن نقول : الحق أن هذه العلوم البديهية ما كانت حاصلة في نفوسنا ، ثم إنها حدثت وحصلت .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : فيلزم أن تكون كسبية .

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : هذه المقدمة ممنوعة ، بل نقول : إنها إنما حدثت في نفوسنا بعد عدمها بواسطة إعانة الحواس التي هي السمع والبصر ، وتقريره أن النفس كانت في مبدأ الخلقة خالية عن جميع العلوم إلا أنه تعالى خلق السمع والبصر ، فإذا أبصر الطفل شيئا مرة بعد أخرى ارتسم في خياله ماهية ذلك المبصر ، وكذلك إذا سمع شيئا مرة بعد أخرى ارتسم في سمعه وخياله ماهية ذلك المسموع ، وكذا الطول في سائر الحواس فيصير حصول الحواس سببا لحضور ماهيات المحسوسات في النفس والعقل . ثم إن تلك الماهيات على قسمين :

                                                                                                                                                                                                                                            أحد القسمين : ما يكون نفس حضوره موجبا تاما في جزم الذهن بإسناد بعضها إلى بعض بالنفي أو الإثبات ، مثل أنه إذا حضر في الذهن أن الواحد ما هو ؟ وأن نصف الاثنين ما هو ؟ كان حضور هذين التصورين في الذهن علة تامة في جزم الذهن بأن الواحد محكوم عليه بأنه نصف الاثنين ، وهذا القسم هو عين العلوم البديهية .

                                                                                                                                                                                                                                            والقسم الثاني : ما لا يكون كذلك وهو العلوم النظرية ، مثل أنه إذا حضر في الذهن أن الجسم ما هو ؟ وأن المحدث ما هو ؟ فإن مجرد هذين التصورين في الذهن لا يكفي في جزم الذهن بأن الجسم محدث ، بل [ ص: 73 ] لا بد فيه من دليل منفصل وعلوم سابقة . والحاصل أن العلوم الكسبية إنما يمكن اكتسابها بواسطة العلوم البديهية . وحدوث هذه العلوم البديهية إنما كان عند حدوث تصور موضوعاتها وتصور محمولاتها . وحدوث هذه التصورات إنما كان بسبب إعانة هذه الحواس على جزئياتها ، فظهر أن السبب الأول لحدوث هذه المعارف في النفوس والعقول هو أنه تعالى أعطى هذه الحواس ؛ فلهذا السبب قال تعالى : ( والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة ) ليصير حصول هذه الحواس سببا لانتقال نفوسكم من الجهل إلى العلم بالطريق الذي ذكرناه ، وهذه أبحاث شريفة عقلية محضة ، مدرجة في هذه الآيات .

                                                                                                                                                                                                                                            وقال المفسرون : ( وجعل لكم السمع ) لتسمعوا مواعظ الله ( والأبصار ) لتبصروا دلائل الله ، ( والأفئدة ) لتعقلوا عظمة الله ، والأفئدة : جمع فؤاد نحو أغربة وغراب . قال الزجاج : ولم يجمع فؤاد على أكثر العدد ، وما قيل فيه فئدان ، كما قيل : غراب غربان . وأقول : لعل الفؤاد إنما جمع على بناء جمع القلة ؛ تنبيها على أن السمع والبصر كثيران ، وأن الفؤاد قليل ؛ لأن الفؤاد إنما خلق للمعارف الحقيقية والعلوم اليقينية ، وأكثر الخلق ليسوا كذلك ، بل يكونون مشغولين بالأفعال البهيمية والصفات السبعية ، فكأن فؤادهم ليس بفؤاد ؛ فلهذا السبب ذكر في جمعه صيغة جمع القلة .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : قوله تعالى : ( وجعل لكم السمع والأبصار ) عطف على قوله : ( أخرجكم ) ، وهذا يقتضي أن يكون جعل السمع والبصر متأخرا عن الإخراج عن البطن ، ومعلوم أنه ليس كذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب : أن حرف الواو لا يوجب الترتيب ؛ وأيضا إذا حملنا السمع على الاستماع ، والأبصار على الرؤية - زال السؤال ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية