الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 517 ] سرية عمرو بن أمية الضمري على إثر مقتل خبيب

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال الواقدي : حدثني إبراهيم بن جعفر عن أبيه وعبد الله بن أبي عبيدة ، عن جعفر بن الفضل بن الحسن بن عمرو بن أمية الضمري ، وعبد الله بن جعفر ، عن عبد الواحد بن أبي عون وزاد بعضهم على بعض ، قالوا : كان أبو سفيان بن حرب قد قال لنفر من قريش بمكة : ما أحد يغتال محمدا ؟ فإنه يمشي في الأسواق فندرك ثأرنا ؟ فأتاه رجل من العرب فدخل عليه منزله ، وقال له : إن أنت قويتني خرجت إليه حتى أغتاله ، فإني هاد بالطريق خريت ، معي خنجر مثل خافية النسر . قال : أنت صاحبنا . وأعطاه بعيرا ونفقة ، وقال : اطو أمرك ; [ ص: 518 ] فإني لا آمن أن يسمع هذا أحد فينميه إلى محمد . قال : قال العربي : لا يعلمه أحد . فخرج ليلا على راحلته فسار خمسا ، وصبح ظهر الحرة صبح سادسة ، ثم أقبل يسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى المصلى ، فقال له قائل : قد توجه إلى بني عبد الأشهل . فخرج الأعرابي يقود راحلته حتى انتهى إلى بني عبد الأشهل فعقل راحلته ، ثم أقبل يؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوجده في جماعة من أصحابه ، يحدث في مسجده ، فدخل فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : إن هذا الرجل يريد غدرا ، والله حائل بينه وبين ما يريده . فوقف وقال : أيكم ابن عبد المطلب ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنا ابن عبد المطلب فذهب يجنئ على رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه يساره ، فجبذه أسيد بن حضير وقال : تنح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وجذب بداخلة إزاره ، فإذا الخنجر ، فقال : يا رسول الله ، هذا غادر . فأسقط في يد الأعرابي ، وقال : دمي دمي يا محمد . وأخذ أسيد بن حضير يلببه ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : اصدقني ، ما أنت وما أقدمك ؟ فإن صدقتني نفعك الصدق ، وإن كذبتني فقد أطلعت على ما هممت به . قال العربي : فأنا آمن ؟ قال : فأنت آمن [ ص: 519 ] فأخبره بخبر أبي سفيان وما جعل له ، فأمر به فحبس عند أسيد بن حضير ثم دعا به من الغد فقال : قد آمنتك ، فاذهب حيث شئت ، أو خير لك من ذلك ؟ قال : وما هو ؟ فقال : أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك أنت رسول الله ، والله يا محمد ، ما كنت أفرق من الرجال ، فما هو إلا أن رأيتك فذهب عقلي وضعفت ثم اطلعت على ما هممت به مما سبقت به الركبان ، ولم يطلع عليه أحد ، فعرفت أنك ممنوع وأنك على حق ، وأن حزب أبي سفيان حزب الشيطان . فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يتبسم ، وأقام أياما ، ثم استأذن النبي صلى الله عليه وسلم فخرج من عنده ولم يسمع له بذكر . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن أمية الضمري ، ولسلمة بن أسلم بن حريش : اخرجا حتى تأتيا أبا سفيان بن حرب فإن أصبتما منه غرة فاقتلاه . قال عمرو : فخرجت أنا وصاحبي حتى أتينا بطن يأجج فقيدنا بعيرنا ، وقال لي صاحبي : يا عمرو ، هل لك في أن نأتي مكة فنطوف بالبيت أسبوعا ونصلي ركعتين ؟ فقلت : إني أعرف بمكة من الفرس الأبلق ، وإنهم إن رأوني عرفوني ، وأنا أعرف أهل مكة إنهم إذا [ ص: 520 ] أمسوا انفجعوا بأفنيتهم ، فأبى علي فانطلقنا فأتينا مكة فطفنا أسبوعا وصلينا ركعتين ، فلما خرجت لقيني معاوية بن أبي سفيان فعرفني وقال : عمرو بن أمية ! وأخبر أباه فنذر بنا أهل مكة فقالوا : ما جاء عمرو في خير . وكان عمرو فاتكا في الجاهلية ، فحشد أهل مكة وتجمعوا ، وهرب عمرو ، وسلمة وخرجوا في طلبهما ، واشتدوا في الجبل . قال عمرو : فدخلت غارا فتغيبت عنهم حتى أصبحت ، وباتوا يطلبوننا في الجبل ، وعمى الله عليهم طريق المدينة أن يهتدوا لراحلتنا ، فلما كان الغد ضحوة ، أقبل عثمان بن مالك بن عبيد التيمي يختلي لفرسه حشيشا ، فقلت لسلمة بن أسلم : إذا أبصرنا أشعر بنا أهل مكة وقد انفضوا عنا . فلم يزل يدنو من باب الغار حتى أشرف علينا . قال : فخرجت إليه فطعنته طعنة تحت الثدي بخنجري فسقط وصاح ، فأسمع أهل مكة فأقبلوا بعد تفرقهم ، ودخلت الغار ، وقلت [ ص: 521 ] لصاحبي : لا تتحرك . فأقبلوا حتى أتوه ، وقالوا : من قتلك ؟ قال : عمرو بن أمية الضمري . فقال أبو سفيان : قد علمنا أنه لم يأت لخير . ولم يستطع أن يخبرهم بمكاننا ، فإنه كان بآخر رمق فمات ، وشغلوا عن طلبنا بصاحبهم ، فحملوه ، فمكثنا ليلتين في مكاننا حتى خرجنا ، فقال صاحبي : يا عمرو بن أمية هل لك في خبيب بن عدي ننزله ؟ فقلت له : أين هو ؟ قال : هو ذاك مصلوب ، حوله الحرس . فقلت : أمهلني وتنح عني فإن خشيت شيئا فانح إلى بعيرك فاقعد عليه ، فأت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر ودعني ، فإني عالم بالمدينة . ثم اشتددت عليه حتى وجدته فحملته على ظهري ، فما مشيت به إلا عشرين ذراعا حتى استيقظوا ، فخرجوا في أثري فطرحت الخشبة ، فما أنسى وقعها دب - يعني صوتها - ثم أهلت عليه التراب برجلي ، فأخذت طريق الصفراء ، فأعيوا ورجعوا ، وكنت لا أدرك مع بقاء نفس ، فانطلق صاحبي إلى البعير فركبه وأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره ، وأقبلت حتى أشرفت على الغميم غميم ضجنان فدخلت في غار معي قوسي وأسهمي وخنجري ، فبينما أنا فيه إذ أقبل رجل من بني بكر من بني الديل [ ص: 522 ] أعور طويل ، يسوق غنما ومعزى ، فدخل الغار وقال : من الرجل ؟ فقلت : رجل من بني بكر . فقال : وأنا من بني بكر . ثم اتكأ ورفع عقيرته يتغنى ويقول :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فلست بمسلم ما دمت حيا ولست أدين دين المسلمينا

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فقلت في نفسي : والله إني لأرجو أن أقتلك . فلما نام قمت إليه ، فقتلته شر قتلة قتلتها أحدا قط ، ثم خرجت حتى هبطت ، فلما أسهلت في الطريق إذا رجلان بعثتهما قريش يتجسسان الأخبار ، فقلت : استأسرا . فأبى أحدهما ، فرميته فقتلته ، فلما رأى ذلك الآخر استأسر ، فشددته وثاقا ، ثم أقبلت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما قدمت المدينة رآني صبيان وهم يلعبون ، وسمعوا أشياخهم يقولون : هذا عمرو . فاشتد الصبيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه ، وأتيته بالرجل قد ربطت إبهاميه بوتر قوسي ، فلقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يضحك ، ثم دعا لي بخير . وكان قدوم سلمة قبل قدوم عمرو بثلاثة أيام . رواه البيهقي .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد تقدم أن عمرا لما أهبط خبيبا لم ير له رمة ولا جسدا ، فلعله دفن مكان سقوطه . والله أعلم . وهذه السرية إنما استدركها ابن هشام على ابن إسحاق [ ص: 523 ] وساقها بنحو من سياق الواقدي لها ، لكن عنده أن رفيق عمرو بن أمية في هذه السرية جبار بن صخر . فالله أعلم ، ولله الحمد .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية