الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              1933 [ ص: 648 ] 9 - باب: زيارة المرأة زوجها في اعتكافه

                                                                                                                                                                                                                              2038 - حدثنا سعيد بن عفير قال: حدثني الليث قال: حدثني عبد الرحمن بن خالد، عن ابن شهاب، عن علي بن الحسين رضي الله عنهما، أن صفية زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرته.

                                                                                                                                                                                                                              حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا هشام، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن علي بن الحسين: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، وعنده أزواجه، فرحن، فقال لصفية بنت حيي: " لا تعجلي حتى أنصرف معك". وكان بيتها في دار أسامة، فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - معها، فلقيه رجلان من الأنصار، فنظرا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم أجازا، وقال لهما النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تعاليا، إنها صفية بنت حيي". قالا: سبحان الله يا رسول الله! قال: " إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يلقي في أنفسكما شيئا". [انظر: 2035 - مسلم: 2175 - فتح: 4 \ 281]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              وذكر أن بيت صفية كان في دار أسامة خارج المسجد، خرج معها، ولا خلاف في جواز خروج المعتكف فيما لا غناء به، وإنما اختلفوا في المعتكف يدخل لحاجته تحت سقف، فأجازه الزهري ومالك وأبو حنيفة، والشافعي ، وفيه قول ثان بالمنع روي عن ابن عمر والنخعي وعطاء وإسحاق . وثالث: إن دخل بيتا غير مسجد بطل اعتكافه إلا أن يكون ممره فيه، وهو قول الثوري والحسن بن حي، وكذلك اختلفوا في استقلاله بالأمور المباحة; فقال مالك في "الموطإ":

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 649 ] لا يأتي المعتكف حاجته، ولا يخرج لها ولا يعين أحدا عليها ولا يشتغل بتجارة ولا بأس أن يأمر أهله ببيع ماله، وصلاح صنعته ، وقال أبو حنيفة، والشافعي : له أن يتحدث ويبيع ويشتري في المسجد، ويتشاغل بما لا يأثم فيه، وليس عليه صمت . وقال مالك : لا يشتري إلا ما لا غناء له عنه من طعامه إذا لم يكن من يكفيه .

                                                                                                                                                                                                                              وكره مالك والليث الصعود على المنارة قالا: ولا يصعد على ظهر المسجد، وأجاز ذلك أبو حنيفة والشافعي قالا: ولو كانت المنارة خارج المسجد . وكذلك اختلفوا في حضور مجالس العلم، فرخص في ذلك كثير من العلماء، روي ذلك عن عطاء والأوزاعي والليث والشافعي، وقال مالك : لا يشتغل بمجالس العلم. وكره أن يكتب العلم .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن المنذر : وطلب العلم أفضل الأعمال بعد أداء الفرائض; لانتشار الجهل ونقصان العلم، وذلك إذا أراد الله به طالبه. عمل البر لا ينافي الاعتكاف، لا يقال: مجالس العلم شاغلة له عن اعتكافه فأي شغل أهم منه، ولا يعترض بعود المريض وتباع الجنازة وهما من أعمال البر; لأنهما يحوجان إلى الخروج، وهذا الحديث حجة على الاشتغال بالمباح; فإن الشارع حادث صفية ومشى معها، وفيه

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 650 ] ما ترجم له. -ثانيا - وهو زيارة أهل المعتكف له في اعتكافه ومحادثته والسلام عليه، وأنه لا بأس أن يعمل في اعتكافه بعض العمل الذي ليس من الاعتكاف من تشييع قاصد، وبر زائر، وإكرام (معتقد) ، وما كان في معناه مما لا ينقطع به عن اعتكافه.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: ( قامت تنقلب ) أي: تنصرف إلى منزلها، يقال: قلبه يقلبه، وانقلب هو: إذا انصرف.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: ( مر رجلان من الأنصار ) كذا في البابين، وفي رواية سفيان بعد هذا في باب: هل يدرأ المعتكف عن نفسه. أنه كان رجلا واحدا .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن التين : ولعله وهم; لأن أكثر الروايات أنهما اثنان، ويحتمل أن هذا كان مرتين، أو أنه - عليه السلام - أقبل على أحدهما بالقول بحضرة الآخر، فيصح على هذا نسبة القصة إليهما جميعا وأفرادا، نبه عليه القرطبي .

                                                                                                                                                                                                                              وقولها: ( فسلما ) فيه جواز التسليم على رجل معه امرأة بخلاف ما يقوله بعض الأغبياء.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (" على رسلكما ") أي: على هينتكما. قال ابن فارس : الرسل: السير السهل ، وضبطه بالفتح وهذه اللفظة بكسر الراء وبالفتح، قيل: بمعنى التؤدة وترك العجلة. وقيل: بالكسر التؤدة، وبالفتح: اللين والرفق. والمعنى متقارب، وفي رواية "تعاليا" ، أي: قفا ولم يرد المجيء إليه. قال تعالى: تعالوا إلى كلمة الآية [آل عمران: 64]، وقال ابن التين : كذا قال الداودي أن معناه قفا هنا،

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 651 ] وأخرجه عن معناه وهو تكلما بغير دليل واضح، وقد قال ابن قتيبة : تعال تفاعل من علوت .

                                                                                                                                                                                                                              قال الفراء : أصلها عال إلينا وهو من العلو، ثم إن العرب لكثرة استعمالهم إياها صارت عندهم بمنزلة هلم، حتى استجازوا أن يقولوا لرجل وهو فوق (شرف) : تعالى -أي: اهبط- وإنما أصله الصعود.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: " إنما هي صفية بنت حيي " فيه: النسبة إلى الأب الكافر.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: " إني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا " وفي رواية: "شرا" ، يريد بذلك شفقته على أمته وصيانة قلوبهم، فإن ظن السوء بالأنبياء عليهم السلام كفر بالإجماع.

                                                                                                                                                                                                                              قال الخطابي : وبلغني عن الشافعي أنه قال في معنى هذا الحديث: خاف عليهما الكفر لو ظنا به ظن التهمة، فبادر إلى إعلامهما نصيحة لهما في حق الدين .

                                                                                                                                                                                                                              وقيل: فعله تعليما لنا لرفع الظنون، وقد يكون الأنصاريان في أول الإسلام، ولم يكن عندهما من اليقين ما يدفع به كيد الشيطان، لكن رأيت من قال: قيل: إنهما أسيد بن حضير وعباد بن بشر صاحبا [ ص: 652 ] المصباحين . ولما ذكر البزار حديث صفية هذا قال: هذه أحاديث مناكير: لأنه - عليه السلام - كان أطهر وأجل من أن يرى أن أحدا يظن به ذلك، ولا يظن به ظن السوء إلا كافر أو منافق فقيل له: لو كان حقا كما قلت لما احتاج إلى الاعتذار; لأن الكفر بالله أعظم من ذلك، وإن كان منافقا فحاله حال الكافر، وإن كان مسلما قيل: هذا الظن به يخرجه من الإسلام. فهذه الأخبار عندنا ليست ثابتة، فإن قيل: قد رواها قوم ثقات، ونقلها أهل العلم بالأخبار. قيل له: العلة التي بيناها لا خفاء بها، ويجب على كل مسلم القول بها والذب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان الراوي لها ثقات فلا يعرون من الخطإ والنسيان والغلط.

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو الشيخ عند ذكره هذا الحديث وبوب له قال: إنه غير محفوظ.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه: استحباب التحرز من التعرض لسوء الظن وطلب السلامة والاعتذار بالأعذار الصحيحة تعليما للأمة.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 653 ] وقوله: (" يبلغ وفي الرواية الأخرى: يجري - من ابن آدم مجرى الدم ") قيل: هو على ظاهره، وأن الله تعالى جعل له قوة على ذلك، وقيل: مجاز لكثرة أعوانه ووسوسته، فكأنه لا يفارق الإنسان كما لا يفارقه دمه، وقيل: إنه يلقي وسوسته في مسام لطيفة من البدن، فتصل الوسوسة إلى القلب. وزعم ابن خالويه في كتاب "ليس" أن الشيطان ليس له تسلط على الناصية وعلى أن يأتي العبد من فوقه. قال تعالى: ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم الآية [الأعراف: 17] ولم يقل: من فوقهم; لأن رحمة الله تنزل من فوق.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله": (" وكبر عليهما ") أي: عظم، قاله الداودي .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه: بيان ما يخشى أن يظن به.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه: دلالة على أن للمعتكف الاشتغال بالمباح كما وقع له مع صفية، وقد سلف.

                                                                                                                                                                                                                              فرع: إذا خرج المعتكف لحاجته قنع رأسه حتى يرجع، أخرجه ابن أبي عاصم من حديث أنس مرفوعا كذلك .

                                                                                                                                                                                                                              فرع:

                                                                                                                                                                                                                              لا يتعدى في خروجه أقرب المواضع إليه، فإن خالف ابتدأ اعتكافه، قاله مالك فيما نقله ابن العربي قال: ولا يقف لأداء شهادة إلا ماشيا، فإن وقف ابتدأ، ولا يعزي أحدا، ولا يصلي على جنازة إلا في المسجد، ولا يخيط ثوبه، إلا الشيء المفتق.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 654 ] قال: وأجمع العلماء على أن من وطئ زوجته في اعتكافه عامدا ليلا كان أو نهارا فسد اعتكافه . وروي عن ابن عباس ومجاهد أنهما قالا: كانوا يجامعون وهم معتكفون حتى نزلت ولا تباشروهن الآية [البقرة: 187]، وعن ابن عباس : كانوا إذا اعتكفوا فخرج أحدهم إلى الغائط جامع امرأته ثم اغتسل ورجع إلى اعتكافه، فنزلت الآية.

                                                                                                                                                                                                                              واختلفوا فيما دونه من القبلة واللمس والمباشرة، فقال مالك : من فعل شيئا من ذلك ليلا أو نهارا فسد اعتكافه أنزل أو لم ينزل. وأظهر أقوال الشافعي أنه إن أنزل بطل، وإلا فلا.

                                                                                                                                                                                                                              فرع:

                                                                                                                                                                                                                              خروجه مع صفية للتشييع; فإن خرج بغير علة بطل اعتكافه، وقال النعمان : إن خرج ساعة بغير عذر استأنف. وقال صاحباه: يوما أو أكثر من نصفه. وأجاز مالك إذا اشتد مرض أحد أبويه، ويبتدئ، ويخرج للاغتسال من الحلم وللجمعة وللحر، كما سلف، وفي الخروج لشراء الطعام خلاف، واختلف هل يدخل تحت سقف؟

                                                                                                                                                                                                                              فرع:

                                                                                                                                                                                                                              لو شرط في اعتكافه الخروج لعارض، صح الشرط عندنا على الأظهر خلافا لمالك .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 655 ] تنبيه:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: ( وعنده أزواجه، فرحن، فقال لصفية: "لا تعجلي حتى انصرف معك "). فيه: الأمر بما لا بد للمعتكف منه . قال ابن التين : والرواح من الزوال إلى الليل. وسيأتي عن سفيان أنه كان ليلا ، فيحمل كما قال الداودي : أن تقيم صفية بعدهن من الليل; لأن الرواح إنما يكون نهارا، ويرده قوله بعد: (فتحدثت عنده ساعة) والجمع بينهما أن أزواجه رحن عقب الغروب، وأقامت هي ساعة فقامت وقد دخل الليل، إلا أن في قول سفيان : أتته ليلا . يمنع من هذا كله، والأحاديث أولى من قول سفيان : لأنه مرسل.

                                                                                                                                                                                                                              نعم البخاري روى في موضع آخر عن صفية: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - معتكفا فأتيته أزوره ليلا .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: ( فنظرا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم أجازا ) أي: مضيا عنه وخلفاه. قال ابن فارس : جزت الموضع: سرت فيه، وأجزته: خلفته وقطعته .




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية