الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( يعظكم لعلكم تذكرون ) والمراد بقوله تعالى : ( يعظكم ) أمره تعالى بتلك الثلاثة ونهيه عن هذه الثلاثة ، ( لعلكم تذكرون ) وفيه مسألتان :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : أنه تعالى لما قال في الآية الأولى : ( ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء ) [النحل : 89] . أردفه بهذه الآية مشتملة على الأمر بهذه الثلاثة ، والنهي عن هذه الثلاثة ، كان ذلك تنبيها على أن المراد بكون القرآن تبيانا لكل شيء هو هذه التكاليف الستة ، وهي في الحقيقة كذلك ؛ لأن جوهر النفس من زمرة الملائكة ، ومن نتائج الأرواح العالية القدسية ، إلا أنه دخل في هذا العالم خاليا عاريا عن التعلقات ، فتلك الثلاثة التي أمر الله بها هي التي ترقيها بالمعارف الإلهية والأعمال الصالحة ، وتلك المعارف والأعمال هي التي [ ص: 85 ] ترقيها إلى عالم الغيب وسرادقات القدس ، ومجاورة الملائكة المقربين في جوار رب العالمين ، وتلك الثلاثة التي نهى الله عنها هي التي تصدها عن تلك السعادات ، وتمنعها عن الفوز بتلك الخيرات ، فلما أمر الله تعالى بتلك الثلاثة ، ونهى عن هذه الثلاثة ، فقد نبه على كل ما يحتاج إليه المسافرون من عالم الدنيا إلى مبدأ عرصة القيامة .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قال الكعبي : الآية تدل على أنه تعالى لا يخلق الجور والفحشاء . وذلك من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه تعالى كيف ينهاهم عما يخترعه فيهم ، وكيف ينهى عما يريد تحصيله فيهم ؟ ولو كان الأمر كما قالوا لكان كأنه تعالى قال : إن الله يأمركم أن تفعلوا خلاف ما خلقه فيكم ، وينهاكم عن أفعال خلقها فيكم ، ومعلوم أن ذلك باطل في بديهة العقل .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أنه تعالى لما أمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ، ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ، فلو أنه تعالى أمر بتلك الثلاثة ، ثم إنه ما فعلها لدخل تحت قوله : ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ) [البقرة : 44 ] . وتحت قوله : ( لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) [الصف : 3 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : أن قوله : ( لعلكم تذكرون ) ليس المراد منه الترجي والتمني ، فإن ذلك محال على الله تعالى ، فوجب أن يكون معناه أنه تعالى يعظكم لإرادة أن تتذكروا طاعته ، وذلك يدل على أنه تعالى يريد الإيمان من الكل .

                                                                                                                                                                                                                                            الرابع : أنه تعالى لو صرح وقال : إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ، ولكنه يمنع منه ويصد عنه ، ولا يمكن العبد منه ، ثم قال : وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ، ولكنه يوجد كل هذه الثلاثة في العبد ، شاء أم أبى ، وأراده منه ، ومنعه من تركه ومن الاحتراز عنه - لحكم كل أحد عليه بالركاكة وفساد النظم والتركيب ، وذلك يدل على كونه سبحانه متعاليا عن فعل القبائح .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن هذا النوع من الاستدلال كثير ، وقد مر الجواب عنه . والمعتمد في دفع هذه المشاغبات التعويل على سؤال الداعي وسؤال العلم ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : اتفق المتكلمون من أهل السنة ومن المعتزلة على أن تذكر الأشياء من فعل الله ، لا من فعل العبد ، والدليل عليه هو أن التذكرة عبارة عن طلب المتذكر ، فحال الطلب إما أن يكون له به شعور أو لا يكون له به شعور ، فإن كان له شعور فذلك الذكر حاصل ، والحاصل لا يطلب تحصيله . وإن لم يكن له به شعور فكيف يطلبه بعينه ؛ لأن توجيه الطلب إليه بعينه حال ما لا يكون هو بعينه متصورا - محال .

                                                                                                                                                                                                                                            إذا ثبت هذا فنقول : قوله : ( لعلكم تذكرون ) معناه أن المقصود من هذا الوعظ أن يقدموا على تحصيل ذلك التذكر ، فإذا لم يكن التذكر فعلا له فكيف طلب منه تحصيله ، وهذا هو الذي يحتج به أصحابنا على أن قوله تعالى : ( لعلكم تذكرون ) لا يدل على أنه تعالى يريد منه ذلك . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            ( وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون ) .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية