الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى ) مناسبة هذه الآية لما [ ص: 297 ] قبلها في غاية الظهور ، إذ كلاهما أتى بها دلالة على البعث المنسوب إلى الله تعالى ، في قول إبراهيم لنمروذ : ( ربي الذي يحيي ويميت ) لكن المار على القرية أراه الله ذلك في نفسه وفي حماره ، و إبراهيم أراه ذلك في غيره ، وقدمت آية المار على آية إبراهيم ، وإن كان إبراهيم مقدما في الزمان على المار ؛ لأنه تعجب من الإحياء بعد الموت ، وإن كان تعجب اعتبار فأشبه الإنكار ، وإن لم يكن إنكارا فكان أقرب إلى قصة النمروذ و إبراهيم ، وأما إن كان المار كافرا فظهرت المناسبة أقوى ظهور ، وأما قصة إبراهيم فهي سؤال لكيفية إراءة الإحياء ، ليشاهد عيانا ما كان يعلمه بالقلب ، وأخبر به نمروذ .

والعامل في ( إذ ) - على ما قالوا - محذوف ، تقديره : واذكر إذ قال ، وقيل : العامل مذكور وهو ( ألم تر ) المعنى : ألم تر إذ قال ، وهو مفعول : بـ ( تر ) والذي يظهر أن العامل في ( إذ ) قوله : ( قال أولم تؤمن ) كما قررنا ذلك في قوله : ( وإذ قال ربك للملائكة ) وفي افتتاح السؤال بقوله : ( رب ) حسن استلطاف واستعطاف للسؤال ، وليناسب قوله لنمروذ ( ربي الذي يحيي ويميت ) لأن الرب هو الناظر في حاله ، والمصلح لأمره ، وحذفت ياء الإضافة اجتزاء بالكسرة ، وهي اللغة الفصحى في نداء المضاف لياء المتكلم ، وحذف حرف النداء للدلالة عليه ، و ( أرني ) سؤال رغبة ، وهو معمول لـ ( قال ) والرؤية هنا بصرية ، دخلت على رأى همزة النقل ، فتعدت لاثنين : أحدهما ياء المتكلم ، والآخر الجملة الاستفهامية ، فقول : ( كيف تحي الموتى ) في موضع نصب ، وتعلق العرب رأى البصرية ، من كلامهم ، أما ترى أي برق هاهنا ، كما علقت : نظر البصرية ، وقد تقرر .

وعلم أن الأنبياء عليهم السلام معصومون من الكبائر والصغائر التي فيها رذيلة إجماعا ، قاله ابن عطية ، والذي اخترناه أنهم معصومون من الكبائر والصغائر على الإطلاق ، وإذا كان كذلك ، فقد تكلم بعض المفسرين هنا في حق من سأل الرؤية هنا بكلام ضربنا عن ذكره صفحا ، ونقول : ألفاظ الآية لا تدل على عروض شيء يشين المعتقد ؛ لأن ذلك سؤال أن يريه عيانا كيفية إحياء الموتى ؛ لأنه لما علم ذلك بقلبه وتيقنه ، واستدل به على نمروذ في قوله : ( ربي الذي يحيي ويميت ) طلب من الله تعالى رؤية ذلك ، لما في معاينة ذلك من رؤية اجتماع الأجزاء المتلاشية ، والأعضاء المتبددة ، والصور المضمحلة ، واستعظام باهر قدرته تعالى . والسؤال عن الكيفية يقتضي تيقن ما سأل عنه : وهو الإحياء وتقرره ، والإيمان به ، وأنه مما انطوى الضمير على اعتقاده ، وأما ما ذكره الماوردي عن بعض أهل المعاني : أن إبراهيم سأل من ربه كيف يحيي القلوب ، فتأويل ليس بشيء ، قالوا في سبب سؤاله أقوال : أحدها : أنه رأى دابة قد توزعتها السباع والحيتان ؛ لأنها كانت على حاشية البحر ، قاله ابن زيد ، أو الفكر في الحقيقة والمجاز لما قاله نمروذ : ( أنا أحيي وأميت ) قاله ابن إسحاق ، أو التجربة للخلة من الله إذ بشر بها ؛ لأن الخليل يدل بما لا يدل غيره ، قاله ابن جبير .

( قال أولم تؤمن ) الضمير في ( قال ) عائد على الرب ، والهمزة للتقرير ، كقوله :


ألستم خير من ركب المطايا



وقوله تعالى : ( ألم نشرح لك صدرك ) المعنى : أنتم خير ، وقد شرحنا لك صدرك ، وكذلك هذا معناه : قد آمنت بالإحياء . قال ابن عطية : إيمانا مطلقا دخل فيه فعل إحياء الموتى ، والواو واو حال ، دخلت عليها ألف التقرير ، [ ص: 298 ] انتهى كلامه . وكون الواو هنا للحال غير واضح ؛ لأنها إذا كانت للحال فلا بد أن يكون في موضع نصب ، وإذ ذاك لا بد لها من عامل ، فلا تكون الهمزة للتقرير دخلت على هذه الجملة الحالية ، إنما دخلت على الجملة التي اشتملت على العامل فيها وعلى ذي الحال ، ويصير التقدير : أسألت ولم تؤمن ؟ أي : أسألت في هذه الحال ؟

والذي يظهر أن التقرير إنما هو منسحب على الجملة المنفية ، وأن الواو للعطف ، كما قال : ( أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ) ونحوه ، واعتنى بهمزة الاستفهام فقدمت ، وقد تقدم لنا الكلام في هذا ، ولذلك كان الجواب بـ ( بلى ) في قوله : ( قال بلى ) وقد تقرر في علم النحو أن جواب التقرير المثبت - وإن كان بصورة النفي - تجريه العرب مجرى جواب النفي المحض ، فتجيبه على صورة النفي ، ولا يلتفت إلى معنى الإثبات ، وهذا مما قررناه ، أن في كلام العرب ما يلحظ في اللفظ دون المعنى ، ولذلك علة ذكرت في علم النحو ، وعلى ما قاله ابن عطية من أن الواو للحال لا يتأتى أن يجاب العامل في الحال بقوله : بلى ؛ لأن ذلك الفعل مثبت مستفهم عنه ، فالجواب إنما يكون في التصديق : بنعم ، وفي غير التصديق : بلا ، أما أن يجاب بـ ( بلى ) ، فلا يجوز ، وهذا على ما تقرر في علم النحو .

( قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ) . قال الزمخشري : فإن قلت : كيف قال ( أولم تؤمن ) وقد علم أنه أثبت الناس إيمانا ؟ قلت : ليجيب بما أجاب به لما فيه من الفائدة الجليلة للسامعين ، و ( بلى ) إيجاب لما بعد النفي ، معناه : بلى آمنت ( ولكن ليطمئن قلبي ) ليزيد سكونا وطمأنينة بمضامة علم الضرورة - علم الاستدلال - ، وتظاهر الأدلة أسكن للقلوب ، وأزيد للبصيرة واليقين ؛ ولأن علم الاستدلال يجوز معه التشكيك ، بخلاف العلم الضروري ، فأراد بطمأنينة القلب العلم الذي لا مجال فيه للتشكيك ، انتهى كلامه .

وليس علم الاستدلال يجوز معه التشكيك كما قال ، بل منه ما يجوز معه التشكيك ، أما إذا كان عن مقدمات صحيحة فلا يجوز معه التشكيك ، كعلمنا بحدوث العالم ، وبوحدانية الموجد ، فمثل هذا لا يجوز معه التشكيك .

وقال ابن عطية : ( ليطمئن ) معناه : ليسكن عن فكره في الشيء المعتقد ، والفكر في صورة الإحياء غير محظور ، كما لنا نحن اليوم أن نفكر فيها ، بل هي فكر فيها عبر ، إذ حركه إلى ذلك ، إما أمر الدابة المأكولة ، وإما قول النمروذ ( أنا أحيي وأميت ) . [ ص: 299 ] انتهى كلامه . وهو حسن .

واللام في قوله : ليطمئن ، متعلقة بمحذوف بعد ( لكن ) التقدير : ولكن سألت مشاهدة الكيفية لإحياء الموتى ليطمئن قلبي ، فيقتضي تقدير هذا المحذوف تقدير محذوف آخر قبل ( لكن ) حتى يصح الاستدراك ، التقدير : ( قال بلى ) أي : آمنت ، وما سألت عن غير إيمان ، ولكن سألت ليطمئن قلبي .

وروي عن ابن جبير ، و إبراهيم ، وقتادة : ليزداد يقينا ، وعن بعضهم : لأزداد إيمانا مع إيماني . قال ابن عطية : ولا زيادة في هذا المعنى تمكن إلا السكون عن الفكر ، وإلا فاليقين لا يتبعض ، انتهى .

وقال النصراباذي : حن الخليل إلى صنع خليله ولم يتهمه في أمره ، فكأنه قوله الشوق ( أرني ) كما قال موسى - عليه السلام - ثم تعلل برؤية الصنع له تأدبا ، وحكى القشيري أنه قيل : استجلب خطابا بهذه المقالة ، حتى قال له الحق : ( أولم تؤمن ) ( قال بلى ) آمنت ولكن اشتقت إلى قولك : ( أولم تؤمن ) فإني بقولك : ( أولم تؤمن ) يطمئن قلبي ، والمحب أبدا يجتهد في أن يجد خطاب حبيبه على أي وجه أمكنه .

( قال فخذ أربعة من الطير ) لما سأل رؤية كيفية إحياء الموتى أجابه تعالى لذلك ، وعلمه كيف يصنع أولا ، فأمره أن يأخذ أربعة من الطير ، ولم يذكر الله تعالى تعيين الأربعة من أي جنس هي من الطير ، فيحتمل أن يكون المأمور به معينا ، وما ذكر تعيينه ، ويحتمل أن يكون أمر بأخذ أربعة ، أي : أربعة كانت من غير تعيين ؛ إذ لا كبير علم في ذكر التعيين ، وقد اختلفوا فيما أخذ ، فقال ابن عباس : أخذ طاوسا ونسرا وديكا وغرابا . وقال مجاهد ، وعكرمة ، وعطاء ، وابن جريج ، وابن زيد : كذلك ، إلا أنهم جعلوا حمامة بدل النسر . وقال ابن عباس أيضا ، فيما روى عبد الرحمن بن هبيرة عنه : أخذ حمامة وكركيا وديكا وطاوسا ، وقال في رواية الضحاك : أخذ طاوسا وديكا ودجاجة سندية وأوزة ، وقال في رواية أخرى عن الضحاك : أنه مكان الدجاجة السندية الرأل ، وهو فرخ النعام ، وقال مجاهد فيما روى ليث : ديك وحمامة وبطة وطاوس ، وقال : ديك وحمامة وبطة وغراب . وزاد عطاء الخراساني وصفا في هذه الأربعة فقال : ديك أحمر ، وحمامة بيضاء ، وبطة خضراء ، وغراب أسود . وقال أبو عبد الله : طاوس وحمامة وديك وهدهد ، ولما سأل ربه أن يريه كيفية إحياء الموتى ، وكان لفظ الموتى جمعا ، أجيب بأن يأخذ ما مدلوله جمع ، لا أن يأخذ واحدا ، قيل : وخص هذا العدد بعينه إشارة إلى الأركان الأربعة التي في تركيب أبدان الحيوانات والنباتات ، وكانت من الطير ، قيل : لأن الطير همته الطيران في السماء والارتفاع ، والخليل - عليه السلام - كانت همته العلو والوصول إلى الملكوت ، فجعلت معجزته مشاكلة لهمته ، وعلى القول الأول في تعيين الأربعة بما عين قيل : خص الطاووس إشارة إلى ما في الإنسان من حب الزينة والجاه والترفع . والنسر إشارة إلى شدة الشغف بالأكل وطول الأمل . والديك إشارة إلى شدة الشغف بقضاء شهوة النكاح . والغراب إشارة إلى شدة الحرص والطلب ، وما أبدوه في تخصيص الأربعة وفي تعيينها لا تكاد تظهر حكمته فيما ذكروه ، وما أجراه الله تعالى لأنبيائه من الخوارق مختلف ، وحكمة اختصاص كل نبي بما أجرى الله له منها مغيبة عنا ، ألا ترى خرق العادة لموسى في أشياء ، ولعيسى في أشياء غيرها ، ولرسولنا محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم في أشياء لا يظهر لنا سر الحكمة في ذلك ؟ فكذلك كون هذه الأربعة من الطير ، لا يظهر لنا سر حكمته في ذلك ، وأمره بالأخذ للطيور وهو إمساكها بيده ليكون أثبت في المعرفة بكيفية الإحياء ؛ لأنه يجتمع عليه حاسة الرؤية ، وحاسة اللمس .

والطير اسم جمع لما لا يعقل ، يجوز تذكيره وتأنيثه ، وهنا أتى مذكرا لقوله تعالى : ( وخذ أربعة من الطير ) وجاء على الأفصح في اسم الجمع في العدد حيث فصل بمن ، فقيل : أربعة من الطير يجوز الإضافة ، كما قال تعالى : ( تسعة رهط ) ونص بعض أصحابنا على أن الإضافة لاسم الجمع في العدد نادرة لا يقاس عليها ، ونص بعضهم على أن اسم الجمع لما لا يعقل [ ص: 300 ] مؤنث ، وكلا القولين غير صواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية